فضائل آخر الزمان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أيها الأحبة.. عنوان هذه الكلمة هو: (فضائل آخر الزمان) ولعل الكثيرين منا لم يسمعوا عن آخر الزمان إلا الذم والعيب، حتى صارت هذه الكلمة عذراً كبيراً لتقبل وتسويغ كل الأخطاء والمخالفات، والقعود عن أداء الواجبات، فحسبنا أننا في آخر الزمان، ولعل سامعاً يسمع هذا العنوان، فيقلب رأسه يمنة ويسرة، ويقول: الله المستعان! هذه من موضوعات آخر الزمان.

من أشراط الساعة (رفع العِلْم

نعم.. نحن نفرق -ولا شك- بين زمان وزمان، فالزمان مختلف، وكلما بعد العهد بالناس، وطال الأمد قست القلوب، ورفع العلم ووضع الجهل، وضعفت أنوار النبوة، ويكفيك حديث أنس المتفق عليه في صحيح البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو أو يظهر الزنا} وقوله عليه الصلاة والسلام: {أن يرفع العلم} تحتمل معنيين:

المعنى الأول: أن يكون بمعنى: قبض أهل العلم، وموت العلماء، حتى لا يبقى في الأرض عالم، وحتى يقل بين الناس نشر العلم وتداوله.. وهذا هو المعنى الأقرب، بل لعله المعنى الصحيح، ولذلك جاء في رواية أخرى، في الحديث نفسه: {أن يقل العلم} بدل من قوله: {أن يرفع العلم} ويؤيده قوله -أيضاً-: ويظهر الجهل، فكلما رفع العلم وزال حل الجهل محله.

وهناك معنى آخر للحديث: أن يكون المقصود برفع العلم: (رفع مكانة أهله)، وأن يعظم حملته، وأن يعلى قدرهم، وما ذلك -أيضاً- إلا لقلتهم وندرتهم بين الناس.. فإن الناس كلما قل العلم والعلماء، احتاجوا إلى من يكون في المرتبة الثانية أو الثالثة.

ولهذا جاء بعض الشباب إلى بعض السلف يسألونه، فقام فزعاً ينفض ثوبه، ويقول: احتيج إلي، احتيج إلي، إن زماناً يحتاج إلي فيه لزمان سوء.

وقال آخر يعاتب نفسه ويخاطبها:

وما سدت فيهم أن فضلك عمهم     ولكن الحظ في الناس يقسم

يعني: ما كان سؤددك لفضلك، وإنما لقلة وندرة العلماء العاملين والدعاة والمصلحين.. فهذا -أيضاً- معنىً محتمل، وكلا المعنيين يعودان إلى الإشارة إلى قلة العلم وندرته في آخر الزمان، وقبل قيام الساعة.

تفاوت مستوى التكاليف بحسب الزمان والمكان

إذاً: نحن لا نجادل أن الزمان يختلف، وأن الأمر يتفاوت بين عصرٍ وآخر، ولذلك فليس صحيحاً أن نطالب المسلم في هذا القرن بنفس مستوى المطالبة التي كانت في القرون المفضلة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بخيريتها، ولا أن يطالب المسلم في جوار البيت العتيق، وفي عواصم العالم وحواضره بمثل ما يطالب به المسلم في جمهوريات الاتحاد السوفيتي -مثلاً- أو في يوغسلافيا، أو في مجاهل أفريقيا حيث يقل العلم، ويقل الكتاب، وتندر مجالس الذكر، ولا يكاد الناس يقفون من ذلك على جلية من الأمر أو بينة؛ فإن الحساب في الدار الآخرة يكون بقدر ما أعطاك الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7]. وقال عز وجل في الآية الأخرى: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [المائدة:48].

فالغني الذي أعطاه الله تعالى مقاليد المال، ليس المطلوب منه في العطاء كالمطلوب من الفقير الذي لا يملك إلا قوت يومه وليلته.. وهكذا العلم في شأن العالم، فالعالم غزير العلم يطالب بما لا يطالب به طويلب العلم، وطويلب العلم يطالب بما لا يطالب به العاميون من الناس، وهكذا الأمر بالنسبة للمجتمع أو المجموعة أو الأمة، وإن شئت فقل: إن الأمر الذي يطالب به الناس في القرون التي كثر فيها العلم والعلماء، وذاع واشتهر وشاع، ليس كالزمان الذي تقلص فيه العلم وقل حملته ودعاته، لكن مع هذا، ومع اعترافنا بالتفاوت بين هذا العصر وغيره من العصور، وبين مكان ومكان، إلا أن ذم الزمان وعيبه، لا يجوز أن يكون تكئة للقعود وترك العمل، ونشر العلم والدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى، هذه مسألة.

نعم.. نحن نفرق -ولا شك- بين زمان وزمان، فالزمان مختلف، وكلما بعد العهد بالناس، وطال الأمد قست القلوب، ورفع العلم ووضع الجهل، وضعفت أنوار النبوة، ويكفيك حديث أنس المتفق عليه في صحيح البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو أو يظهر الزنا} وقوله عليه الصلاة والسلام: {أن يرفع العلم} تحتمل معنيين:

المعنى الأول: أن يكون بمعنى: قبض أهل العلم، وموت العلماء، حتى لا يبقى في الأرض عالم، وحتى يقل بين الناس نشر العلم وتداوله.. وهذا هو المعنى الأقرب، بل لعله المعنى الصحيح، ولذلك جاء في رواية أخرى، في الحديث نفسه: {أن يقل العلم} بدل من قوله: {أن يرفع العلم} ويؤيده قوله -أيضاً-: ويظهر الجهل، فكلما رفع العلم وزال حل الجهل محله.

وهناك معنى آخر للحديث: أن يكون المقصود برفع العلم: (رفع مكانة أهله)، وأن يعظم حملته، وأن يعلى قدرهم، وما ذلك -أيضاً- إلا لقلتهم وندرتهم بين الناس.. فإن الناس كلما قل العلم والعلماء، احتاجوا إلى من يكون في المرتبة الثانية أو الثالثة.

ولهذا جاء بعض الشباب إلى بعض السلف يسألونه، فقام فزعاً ينفض ثوبه، ويقول: احتيج إلي، احتيج إلي، إن زماناً يحتاج إلي فيه لزمان سوء.

وقال آخر يعاتب نفسه ويخاطبها:

وما سدت فيهم أن فضلك عمهم     ولكن الحظ في الناس يقسم

يعني: ما كان سؤددك لفضلك، وإنما لقلة وندرة العلماء العاملين والدعاة والمصلحين.. فهذا -أيضاً- معنىً محتمل، وكلا المعنيين يعودان إلى الإشارة إلى قلة العلم وندرته في آخر الزمان، وقبل قيام الساعة.

إذاً: نحن لا نجادل أن الزمان يختلف، وأن الأمر يتفاوت بين عصرٍ وآخر، ولذلك فليس صحيحاً أن نطالب المسلم في هذا القرن بنفس مستوى المطالبة التي كانت في القرون المفضلة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بخيريتها، ولا أن يطالب المسلم في جوار البيت العتيق، وفي عواصم العالم وحواضره بمثل ما يطالب به المسلم في جمهوريات الاتحاد السوفيتي -مثلاً- أو في يوغسلافيا، أو في مجاهل أفريقيا حيث يقل العلم، ويقل الكتاب، وتندر مجالس الذكر، ولا يكاد الناس يقفون من ذلك على جلية من الأمر أو بينة؛ فإن الحساب في الدار الآخرة يكون بقدر ما أعطاك الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7]. وقال عز وجل في الآية الأخرى: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [المائدة:48].

فالغني الذي أعطاه الله تعالى مقاليد المال، ليس المطلوب منه في العطاء كالمطلوب من الفقير الذي لا يملك إلا قوت يومه وليلته.. وهكذا العلم في شأن العالم، فالعالم غزير العلم يطالب بما لا يطالب به طويلب العلم، وطويلب العلم يطالب بما لا يطالب به العاميون من الناس، وهكذا الأمر بالنسبة للمجتمع أو المجموعة أو الأمة، وإن شئت فقل: إن الأمر الذي يطالب به الناس في القرون التي كثر فيها العلم والعلماء، وذاع واشتهر وشاع، ليس كالزمان الذي تقلص فيه العلم وقل حملته ودعاته، لكن مع هذا، ومع اعترافنا بالتفاوت بين هذا العصر وغيره من العصور، وبين مكان ومكان، إلا أن ذم الزمان وعيبه، لا يجوز أن يكون تكئة للقعود وترك العمل، ونشر العلم والدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى، هذه مسألة.

والمسألة الثانية: ذم آخر الزمان.. لقد وردت أحاديث كثيرة في ذم آخر الزمان، وذم أهل ذلك الوقت، وهذه الأحاديث ليست موضوعنا الليلة، فهي تراجع في كتب الفتن والملاحم وأشراط الساعة وغيرها، وقد أكثر أهل العلم من ذكرها وتخريجها، ولعل من أبرز هذه الأحاديث -على سبيل المثال مما يناسب المقام- الحديث المشهور، الذي رواه مسلم وغيره {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبا للغرباء} وهذا الحديث: أكد أن الأمر سيعود كما بدأ، غربة للإسلام مستحكمة، وقلة في الدعاة والعلماء، ولكن تلاحظ في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد متى يقع هذا، أو متى يكون زمان الغربة؟ هل هو في القرن الثالث أو الرابع أو الخامس أو العاشر أو العشرين، أو ما بعد ذلك؟! هذا أمر الله تعالى أعلم به، ولذلك فتطبيق هذا الحديث على واقعٍ بعينه زماناً أو مكاناً، مما هو موضع اجتهاد وتأمل، ولا يستطيع أحدٌ أن يجزم ويقطع بأن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، اللهم إلا ما يتعلق بالأزمنة التي تكون قبيل الساعة حينما يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فتقبض أرواح المؤمنين، ولا يبقى إلا شرار الناس، وحين يتهارجون تهارج الحمر، وعليهم تقوم الساعة، فإنه لا شك أن ذاك الزمان من الأزمنة التي استحكمت فيها غربة الإسلام بكل وجه.

كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدد في ذلك الحديث: هل يكون بعد الغربة الثانية تمكين للإسلام وعزٌ لأهله أم لا؟ وإن كان قوله: {وسيعود غريباً كما بدأ} يومئ ويوحي بأن الغربة الأخيرة التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، غربة لا عز بعدها للمسلمين.

وجود المتمسكين بالدين وقت الغربة

وحتى في هذه الأحاديث (أحاديث الغربة) فيها معنى مهم؛ وهو أنه مع وجود الغربة، ومع كثرتها ومع استحكامها، إلا أن الحديث أشار إلى وجود المتمسكين بالدين، الرافعين لرايته، المنافحين عنه، وهؤلاء يقومون بالدعوة والإصلاح، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فطوبى للغرباء} وفي بعض الروايات أنه وصف الغرباء {بأنهم النـزاع من القبائل} وفي رواية أخرى وصف الغرباء بأنهم: {الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي رواية: {الذين يصلحون ما أفسد الناس} وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هم قوم صالحون قليل في أهل سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} فقد ذكر عليه الصلاة والسلام أنه حتى في أزمنة الغربة، هناك دعاة مصلحون، يأمرون الناس بالبر، ويأمرون بالمعروف، فيطيعهم من يطيعهم، ويعصيهم من يعصيهم، وإن كان العصاة لهم أكثر من المطيعين.

والكثير من الناس لا يفقهون من معنى أحاديث الغربة إلا أن الإسلام سيعود غريباً، وأن هذا الأمر عذرٌ لهم في القعود، وعذر لهم في ترك العمل، وعذر لهم في ترك الجهاد، ولا يفقهون، ولا يطمعون؛ أن يكونوا من الغرباء.. من النـزاع من القبائل.. من الذين يأمرون بالقسط من الناس، فيعصيهم من يعصيهم ويطيعهم من يطيعهم.. من الموعودين بطوبى: وهي الخير الكثير الطيب المبارك في الحياة الدنيا، بالتوفيق والتسديد والتصبير والتثبيت، وفي الآخرة بشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.

لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه

ومن الأحاديث الواردة في ذم آخر الزمان، ما رواه البخاري، عن أنس رضي الله عنه، قال: {لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه؛ حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم } فهذا الحديث صريح في أن الزمان كلما بَعُدَ العهد، قلت فيه الخيرية وكثر فيه الشر، فالذي بعده شرٌ منه، وهذه قاعدة عامة، وليس المعنى أنه عام أقل مطراً من عام أو أقل خصباً، أو أقل خيراً من حيث الدنيا، وإنما المقصود من الناحية الشرعية.. وهذه القاعدة يقابلها قواعد أخرى أثبتت أن للأمة -أيضاً- أزمنة يكثر فيها الخير، ويأذن الله تعالى بتجديد الدين وإحياء الشريعة، وإقامة الملة العوجاء، ودعوة الناس وجمعهم على الحق والخير والهدى.

المروج والاختلاف في آخر الزمان

ومثله -أيضاً- الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن وغيرهم، وذكره البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا، -وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه- فقال: ما تأمرني يا رسول الله، قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على أمر خاصتك وتدع عوامهم} فهذا الحديث فيه: أن الناس قد يصيرون إلى هذا الأمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم حثالة من الناس، مثل الحثالة التي في آخر الإناء، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا واضطربوا وتشابكوا، وكثر بهم القيل والقال، ولكن -أيضاً- نلاحظ في هذا الحديث أموراً:

أولاً: أنه -مع ذلك- هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول وينهون عن الفساد في الأرض، ولمثل هؤلاء جاء التوجيه النبوي أن تقبل على خاصتك، وتذر العامة، وأن تأخذ ما تعرف، وتذر ما تنكر.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هناك خاصة للمؤمنين وللدعاة، وهؤلاء الخاصة هم القريبون منهم الذين انتفعوا بعلمهم ودعوتهم وجهادهم، فهداهم الله تعالى وبصرهم وأرشدهم، فكانوا دعاة يقيمون الحجة على العالمين، وهؤلاء يجدون من الروح والسعادة والإيمان واليقين في قلوبهم، ما لا يجده حتى المجاهدون في ميادين المعارك -أحياناً- فإن الله تعالى ينـزل عليهم من برد اليقين، ولذة العيش في الدنيا ما يعوضهم خيراً مما فقدوه من الناس، فهم وإن كانوا قلة في عددهم إلا أنهم كثرة في قوة إيمانهم وصبرهم ويقينهم وتعززهم بالإيمان، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

خيرية القرون الأولى

إن هذه النصوص وغيرها كثير، تقتضي -بلا شك- التسليم بخيرية القرون الأولى، وأفضليتها، وهذا محل إجماع، فقد جاء في الصحيحين من حديث عمران وابن مسعود وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... } الحديث، فليس من شكٍ في أن تلك القرون قد ذهبت بالخيرية والفضيلة، لقربها من عهد النبوة، وحملها للرسالة، وحفظها للقرآن والسنة، وجهادها في سبيل الله، وتثبيتها في أمر الإسلام، ولكن ليس في شئ من الأحاديث المذكورة، ولا فيما يشبهها حكم على جميع الناس، في جميع العصور وفي جميع الأزمنة، ولا في شئ منها تسويغ للقعود وترك العمل، أو وصم الأمة كلها بوصمة الانحلال من ربقة الدين، أو الانحراف عن شريعة سيد المرسلين عليه صلوات الله تعالى وسلامه.

وحتى في هذه الأحاديث (أحاديث الغربة) فيها معنى مهم؛ وهو أنه مع وجود الغربة، ومع كثرتها ومع استحكامها، إلا أن الحديث أشار إلى وجود المتمسكين بالدين، الرافعين لرايته، المنافحين عنه، وهؤلاء يقومون بالدعوة والإصلاح، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فطوبى للغرباء} وفي بعض الروايات أنه وصف الغرباء {بأنهم النـزاع من القبائل} وفي رواية أخرى وصف الغرباء بأنهم: {الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي رواية: {الذين يصلحون ما أفسد الناس} وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هم قوم صالحون قليل في أهل سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} فقد ذكر عليه الصلاة والسلام أنه حتى في أزمنة الغربة، هناك دعاة مصلحون، يأمرون الناس بالبر، ويأمرون بالمعروف، فيطيعهم من يطيعهم، ويعصيهم من يعصيهم، وإن كان العصاة لهم أكثر من المطيعين.

والكثير من الناس لا يفقهون من معنى أحاديث الغربة إلا أن الإسلام سيعود غريباً، وأن هذا الأمر عذرٌ لهم في القعود، وعذر لهم في ترك العمل، وعذر لهم في ترك الجهاد، ولا يفقهون، ولا يطمعون؛ أن يكونوا من الغرباء.. من النـزاع من القبائل.. من الذين يأمرون بالقسط من الناس، فيعصيهم من يعصيهم ويطيعهم من يطيعهم.. من الموعودين بطوبى: وهي الخير الكثير الطيب المبارك في الحياة الدنيا، بالتوفيق والتسديد والتصبير والتثبيت، وفي الآخرة بشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.

ومن الأحاديث الواردة في ذم آخر الزمان، ما رواه البخاري، عن أنس رضي الله عنه، قال: {لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه؛ حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم } فهذا الحديث صريح في أن الزمان كلما بَعُدَ العهد، قلت فيه الخيرية وكثر فيه الشر، فالذي بعده شرٌ منه، وهذه قاعدة عامة، وليس المعنى أنه عام أقل مطراً من عام أو أقل خصباً، أو أقل خيراً من حيث الدنيا، وإنما المقصود من الناحية الشرعية.. وهذه القاعدة يقابلها قواعد أخرى أثبتت أن للأمة -أيضاً- أزمنة يكثر فيها الخير، ويأذن الله تعالى بتجديد الدين وإحياء الشريعة، وإقامة الملة العوجاء، ودعوة الناس وجمعهم على الحق والخير والهدى.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5004 استماع
حديث الهجرة 4964 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4076 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3921 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع