خطب ومحاضرات
نصائح غالية من الشيخ -حفظه الله- لطلبة العلم
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
فالدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه وتعالى، ويشهد بذلك قوله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء) ومن حمل هم وأمانة الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الله إلى عباده؛ فقد حمل أشرف الأشياء وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته، ولا عبادة إلا بالعلم، ولا عبادة إلا بالبصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108].
فلا بد للداعية أن يستشعر -أولاً- ما هي الدعوة، وما هي الرسالة التي يحملها والأمانة التي في عنقه لأهلها، فإذا عرف عظم هذه المسئولية علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله أن يكون أجره على الله لا على أحد سواه قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] وقال عن أنبيائه، نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السموات والأرض، ويده سحاء في الليل والنهار.. أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف، على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها، فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن تقبلها منك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو الله جل جلاله.
على الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل، وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن (العلماء ورثة الأنبياء)، ولابد على الداعية أن يجتهد في طلب العلم حتى يكون عالماً، ولا تكون دعوة إلا بعلم، ومن يريد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه، وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم وليأخذ وينهل منه، ويحرص على مجالسه، ويكون من أهل تلك الرياض التي تنشر فيها رحمة الله ويبتغى فيها ما عند الله، وعليه أن يصبر ويصابر ويجد ويجتهد فيها، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك حتى يبلغ من العلم أعلى المراتب، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها.
أول ما ينبغي علينا هو طلب العلم، وإذا طلبت العلم فاطلبه بقوة وعزيمة وهمة صادقة، لا يثنيك عنها شيء، لا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاعها الزائل وغرورها الحائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تعلم أنك أنت الرابح، فلا تقوم بضعف وتظن أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تربح، لا، بل تطلب العلم وتعلم أنك أربح صفقةً وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، طلب أقوامٌ العلم فكفاهم الله همَّ الدنيا والآخرة، واقرأ في سير العلماء، فمنهم من كان لا يجد طعمة يومه، وتراه مرقع الثياب، حافي الأقدام، ولكنه أغنى الناس في الله جل جلاله، وأسعد الناس وأشرحهم صدراً، وألينهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضع الله في قلبه وفي لسانه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، لا يشتكي أحدهم من السهر ولا من التعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وبكل صدق وعزيمة.
فإذا جدَّ طالب العلم في طلبه فعليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها، فتكفي الأمة همها، وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله عظيم، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما كان علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى.
ويجب أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى الأمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدثن في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان.
احرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت، وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى وإنما تأتي باللفظ نفسه فهذا شيء حسن، فإذا بلغت ذلك كملت نضارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) إذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً.
إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقةً تامة أن الله مطلع على سريرتك وعلى ما في قلبك، واعلم أن نظر الله إليك في كل مجلس وفي كل درس، فحاول أن تفهم وتضبط كل كلمة وكل عبارة وكل جملة، فالعلم تسمو به الأرواح والأنفس.
أبو عبيد القاسم بن سلام ؛ إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات، وفي علم اللغة في لسان القرآن.. آية في الحديث ويروي بالأسانيد، وآية في الفقه، وهو صاحب كتاب الأموال -رحمة الله عليه- وغيره من الكتب النافعة، وصاحب كتاب الغريب، فهذا الإمام العظيم وقف بعد صلاة العشاء بعد أن استوقفه رجل قدم عليه من خراسان يسأله عدة مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه، فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر.
لا تستغربوا من ذلك، لا تظنوا أنه ضربٌ من الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم تسمو عن كل شيء، فإذا ذهبت إلى تلك المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الكنز العظيم أحسست بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، وأنت عنه بعيد ولو لم يجد -الرجل منهم- إلا صخرة يكتب عليها لنقش العلم عليها حتى لا يفوت عمن بعده؛ لأن النصيحة لله ولأمة الإسلام، فرضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه همة صادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم، فالغبن كل الغبن أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز، ما نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لا نتعمق فيه ولا نضبطه ولا نجتهد في طلبه.
طالب العلم اليوم يقف عند الحكم فقط، دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، وهل هو صحيح أو غير صحيح، وإذا كان غير صحيح فلماذا ليس بصحيح؟ فتغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، فإذا تعبت وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة، وتجد وتجتهد، فلا تشتك من سهر ليل ولا من ظمأ الهواجر أو من غربة أو من تعب ونصب، وإنما تشعر بأنك أنت الرابح.
لا إله إلا الله! كم من تاجر تجده الآن في الموسم، اذهب الآن إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط، والرجل تجده أمام أولاده يقول لهم: هذا موسمي.. هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر رجلاً لأنه وضع الشيء في موضعه، وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ مكانك عند الله على قدر العلم، فابحث عن العلم الموروث من الكتاب والسنة، وابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فكن رجلاً يطلب العلم، ويجد ويجتهد، ولا تقف عند الأمور السطحية، وحاول أن تغوص في أعماق العلم، فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً) فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: (لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت) لقد وقف يفسر سورة النور آية آية، وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا تكلم في علم القرآن رأيت العجب في استنباطاته وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، ومع كل ذلك العلم ورع وعمل مصحوب مع علمه رضي الله عنه وأرضاه، فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان.
ما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم من الله ولا أوفى منه، فإذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخّر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببته، ويأخذونه من فمك -طيباً مطيباً- كما أخذته من علمائك طيبا مطيباً، وكما أصبحت أنك قرت عين للعالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلا بد أن يقر الله عينك لطلابك، وهذه سنة لله عز وجل، وانظر في السلف؛ فإنك لا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحَّى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله؛ ابن عباس عندما توفي جاء بعده سعيد بن جبير ، وطاوس بن كيسان ، ومجاهد بن جبر ، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينهم وبينه علماً وعملاً، فلا بد وأن يقر الله عينك بقدر تعبك في طلب العلم.
الآن انظر إلى الذين يأخذون من الكتب ويقرءون فيها -ولو كانوا أذكى الناس- فإنهم إذا رقوا منبراً أو تكلموا في أمة لن تجد لهم من القبول والمحبة والرضا ما تجده لمن تغبَّرت قدماه وذلَّ تحت أقدام العلماء لله جل جلاله، فإنك تجد من المحبة والألفة والقبول لهذا ما لا تجده لذلك، مع أنه أذكى وأحفظ، لكن لن تجد له من القبول مثل ما تجد لهذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى عدل، ومن عمل خيراً فإن الله سبحانه وتعالى يوفيه خيراً في الدنيا وفي الآخرة.
وفي زمن طلبي للعلم قلَّ أن نرى شاباً يطلب العلم، والله يشهد، ولا نقول هذا تفاخراً بل كل الفضل والمنة لله، وقد كنت -والله- أدخل المسجد النبوي وأرى كثيراً ممن يجلسون في مجالس العلماء هم من كبار السن، وكان الشيطان يأتيني ويقول لي: إذا مات هؤلاء فمن الذي يطلب عندك؟ ولو جلست تطلب العلم عشر سنوات فسيموتون أو يهرمون ولن يحضروا دروسك.
هكذا كان عدو الله يقول لي، فلم نكن نرى الشباب بالكثرة التي نراها اليوم، ولكنها كلمة الله ودين الله، وإذا تولى الله دينه فإنه نعم المولى ونعم النصير.
المقصود: أنه ينبغي على من أراد أن يدعو إلى الله عز وجل أن يتعب في طلب العلم، ويحرص على ألا يتصدر إلا بعد الضبط والجلوس بين أيدي العلماء حتى يكون له من القبول مثل ما كان لهم، بل إن الله يزيدك، وكان أحد السلف رحمه الله يقول: اللهم اجعلني كفلان، فقيل له: لا، بل قل: خيراً من فلان، فإن فضل الله عظيم وخزائنه ملأى، ويده سحاء في الليل والنهار، ومن أحسن ظنه بالله فإن الله لا يخيبه كما في حديث أحمد في مسنده قال صلى الله عليه وسلم : (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له).
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم اجعلنا ممن ظن بك الخير، ووفيته وزدته من فضلك يا كريم، اللهم اجعل علمنا حجةً لنا لا حجة علينا، اللهم بيض به وجوهنا، وثقل به موازيننا، وارحمنا به يوم عرضنا عليك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وآله.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المشكلات الزوجية وعلاجها | 3461 استماع |
رسالة إلى الدعاة | 3435 استماع |
وصية نبوية | 3327 استماع |
أهم الحقوق | 3305 استماع |
توجيه الدعاة إلى الله تعالى | 3215 استماع |
كيف نواجه الفتن؟ | 3166 استماع |
حقيقة الالتزام | 3144 استماع |
وصايا للصائمين والقائمين | 3086 استماع |
الوصايا الذهبية | 3040 استماع |
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) | 3008 استماع |