الرد على الأحباش


الحلقة مفرغة

بعض الأحباش -تلاميذ عبد الله الحبشي - قاموا بمخاطبة بعض نساء هذا البلد عن طريق الفطرة، كأن يقولوا لهن: من خلق المكان؟ فيقلن: الله. فيقول هذا الحبشي: وهل يجوز أن الله هو خالق المكان أن يكون داخل هذا المكان؟ فتجيب المرأة: لا. فيقول لها: إذاً الله لا يحده شيء، لا هو في الأعلى ولا في الأسفل، ولا في الأمام ولا في الخلف، ولا في اليمين ولا في اليسار، وكذلك سائر الصفات، يقولون: إن اليد المتعارف عليها هي الجارحة المتعارف عليها بين البشر، وهذا محال أن يكون لخالق البشر وهو رب العباد، أفيدونا جزاكم الله خيراً.

الجواب: ليتها كانت طريقة فطرية!

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قبل أن أشرع في الإجابة عن هذا السؤال، أطمئن المسلمين جميعاً الحاضرين منهم والغائبين، الرجال منهم والنساء: بأن الله تبارك وتعالى منزه عن كل مكان؛ ذلك لأن المكان حينما يطلق فإنما يقصد به ما كان عدماً ثم خلقه الله عز وجل، فجعله مكاناً لمثل هذه المخلوقات المختلفة من إنس وجن وملائكة، ولكن هذه الكلمة التي تلقى من أولئك الناس، وهم معلومون عند أهل العلم بأنهم يحيون سنة سيئة من علم الكلام القائم على العقل، وليت هذا العقل كان عقلاً موحداً بين جميع الناس، بين المسلمين منهم والكافرين، وبين الصالحين من المسلمين والطالحين، ليت هذا العقل كان عقلاً موحداً؛ حتى يصح لكل عاقل أن يرجع في الحكم إليه! ولذلك كان من الحماقة بمكان عظيم أن يحكم هؤلاء المنتمون إلى الإسلام بإخلاص أو بغير إخلاص، فحسابهم على الله!!

لكن لو كان العقل موحداً لكان لهم نوع من العذر أن يحكموا عقولهم، أما والعقول -أولاً- مختلفة -كما قلنا ولا أعيد التفصيل- بين صالح وطالح؛ فليس لهم عذر أن يحكموا عقولهم.

والآن أقول فرقاً آخر: عقل العالم يختلف كل الاختلاف عن عقل الجاهل، ولا أقول: عقل عالم بالشرع، وإنما أقول: عقل عالم بأي علم، يختلف كل الاختلاف عن عقل آخر ليس بعالم ذاك العلم الذي عقله الرجل الأول.. -فمثلاً الطبيب العاقل لا يمكن أن يشاركه في عقله وفي علمه من لم يكن مشاركاً له في طبه، والعكس بالعكس تماماً، من كان عالماً -مثلاً- بالفيزياء أو الكيمياء لا يمكن أن يشاركه من كان عالماً بالطب.

الفرق بين العاقل العالم وبين العاقل الجاهل في فهم الكتاب والسنة

وهكذا نقول في نهاية المطاف: لا يمكن أن يكون العاقل العالم بالكتاب والسنة كذاك العاقل الجاهل بالكتاب والسنة.

والأمر أهم من هذا التقسيم وهذا التفصيل، العاقل العالم بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، لا يمكن أن يكون عقله كعقل ذلك الرجل الذي يتكئ على عقله في فهم الكتاب والسنة، ولا يرجع في فهمه إلى ما كان عليه السلف الصالح ، فهنا إذاً في نهاية هذا التقسيم عالمان بالكتاب والسنة، لكن أحدهما يعتمد في فهمه للكتاب والسنة على الآثار السلفية، التي تعود -أولاً- إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأولين، ثم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

هذا الذي يعتمد على الكتاب والسنة، وعلى المنهج السلفي، يختلف عقله كل الاختلاف عن ذاك الرجل الآخر الذي يعتمد على الكتاب والسنة ولكن يعتمد على فهمه إياهما وليس على فهم السلف لهما، هؤلاء الناس من علماء الكلام المحدثين، أو أولئك العلماء -علماء الكلام القدامى- الذين يحكمون عقولهم، وليت عقلهم كان معتمداً فقط على الكتاب والسنة! وليس كالفريق الأول الذي يعتمد على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح.

لا أدري إذا كان هذا المكان يتطلب مني وقفة أرجو أن تكون قصيرة للتفريق بين الرجلين:

الأول: الذي يعتمد على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح.

والثاني: الذي يعتمد على الكتاب والسنة دون أن يلوي رأسه وعقله وفهمه إلى ما كان عليه سلفنا الصالح.

لعل هذا لا يحتاج إلى التوضيح.

وهكذا نقول في نهاية المطاف: لا يمكن أن يكون العاقل العالم بالكتاب والسنة كذاك العاقل الجاهل بالكتاب والسنة.

والأمر أهم من هذا التقسيم وهذا التفصيل، العاقل العالم بالكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، لا يمكن أن يكون عقله كعقل ذلك الرجل الذي يتكئ على عقله في فهم الكتاب والسنة، ولا يرجع في فهمه إلى ما كان عليه السلف الصالح ، فهنا إذاً في نهاية هذا التقسيم عالمان بالكتاب والسنة، لكن أحدهما يعتمد في فهمه للكتاب والسنة على الآثار السلفية، التي تعود -أولاً- إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأولين، ثم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

هذا الذي يعتمد على الكتاب والسنة، وعلى المنهج السلفي، يختلف عقله كل الاختلاف عن ذاك الرجل الآخر الذي يعتمد على الكتاب والسنة ولكن يعتمد على فهمه إياهما وليس على فهم السلف لهما، هؤلاء الناس من علماء الكلام المحدثين، أو أولئك العلماء -علماء الكلام القدامى- الذين يحكمون عقولهم، وليت عقلهم كان معتمداً فقط على الكتاب والسنة! وليس كالفريق الأول الذي يعتمد على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح.

لا أدري إذا كان هذا المكان يتطلب مني وقفة أرجو أن تكون قصيرة للتفريق بين الرجلين:

الأول: الذي يعتمد على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح.

والثاني: الذي يعتمد على الكتاب والسنة دون أن يلوي رأسه وعقله وفهمه إلى ما كان عليه سلفنا الصالح.

لعل هذا لا يحتاج إلى التوضيح.

فإذا كان هذا التفريق واضحاً في أذهان إخواننا الحاضرين وأخواتنا الحاضرات، فأقول: هذه فلسفة نعرفها من أخزم -شنشنة نعرفها من أخزم- حينما يعتمدون على الكلام، ولا أقول على العقل بعد ذاك التفصيل، وإنما على عقلهم فقط يريدون أن ينزهوا الله عز وجل عن المكان وهو منزه عن المكان بحكم قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] .. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] فالله عز وجل -كما نعلم جميعاً على اختلاف الفرق الإسلامية- كان الله ولا شيء معه، لم يكن ثمة زمان ولا مكان، ثم خلق الله عز وجل المكان والزمان؛ فلذلك لا شك ولا ريب أن الله عز وجل ليس في مكان، ولكن الذي يجب الانتباه له: أن تلك الكلمة الحبشية -إذا صحت هذه النسبة- كلمة حق أريد بها باطل، أي: قولهم: إن المكان مخلوق، ولا يُعقل أن يكون الله عز وجل حالاً في مخلوق!! هذا كلام صحيح، لكنها كلمة حق أريد بها باطل، ما هو الباطل الذي يراد بهذه الكلمة؟

يريدون أن يعطلوا الله عز وجل عن صفاته وعن أسمائه تبارك وتعالى المصرح بها في القرآن وفي السنة الصحيحة.

فنحن نقول معهم بأن الله عز وجل ليس في مكان، ولكن هل يقولون معنا كما قال الله عز وجل في القرآن: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طـه:5]؟ هل يقولون معنا كما في الآية الكريمة: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]؟ هل يقولون معنا كما قال ربنا: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]؟ الجواب -مع الأسف-: لا.

إذاً تلك كلمة حق أريد بها باطل، والآن سيتضح لكم، ولكل من قد يكون تسربت إليهم أو إليهن شيء من شبه أولئك الأحباش، فنقول: إن الله عز وجل قد وصف في هذه الآيات وفي غيرها، وفي أحاديث كثيرة وكثيرة جداً، أن له تبارك وتعالى صفة العلو، فلا جرم أن المصلي حينما يسجد يقول: سبحان ربي الأعلى، وأن من أدب التلاوة في صلاة الليل إذا قرأ الإمام : سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] أن يقول المقتدون من ورائه: سبحان ربي الأعلى، ونحو ذلك من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، قاطعة الدلالة على أن لله عز وجل صفة العلو على المخلوقات كلها، هل هم يقولون مع قولهم: إن الله ليس في مكان، أن الله عز وجل على العرش استوى؟ لا يقولون بذلك؛ والسبب يعود إلى أحد أمرين اثنين، والأمران كما يقال: أحلاهما مر؛ فإما أن يكون هذا الأمر يعود إلى انحراف في الفكر والعقل، وإلى نقص في العقل والفهم، وإما أن يكون القصد الهدم للإسلام من أقوى جوانبه، ألا وهو العقيدة المتعلقة بالله تبارك وتعالى، وكما علمتم أحلاهما مر، سواءً كان قولهم هذا بأن ينكروا ما صرح الله عز وجل في تلك الآيات والنصوص ما ذكرنا منها وما لم نذكر، بأن له صفة العلو.

نحن سنقول الآن: الله عز وجل ليس في مكانٍ خلقه بعد أن كان عدماً، هذه حقيقة لا شك ولا ريب فيها، لكن هل الله عز وجل فوق المخلوقات كلها وهو ليس في مكان؟ لا تلازم -وهنا يظهر جهل هؤلاء أو كيدهم- لا تلازم إطلاقاً بين إثبات صفة العلو لله عز وجل على المخلوقات كلها، وبين أن يكون هو في مكان؛ لأن المكان حينما يطلق إنما يراد به شيء كان مسبوقاً بالعدم ثم خلقه الله عز وجل.

إذاً: هؤلاء الذين يبدءون الكلام بالفلسفة الكلامية: المكان مخلوق أم ليس بمخلوق؟ نعم. هو مخلوق.. هل يليق بالله عز وجل أن يكون في مكان خلقه؟ الجواب: لا يليق، إذاً.. كيف يقال: إن الله في مكان؟ نقول: لا أحد من المسلمين يقول: إن الله في مكان، إلا المنحرفين عن الكتاب والسنة.

الفرق المنحرفة في إثبات المكان لله تعالى

هناك طائفتان اثنتان: طائفة تثبت المكان لله.. ولعلكم تسمعون هذا الإثبات من ألسنة من ينتمون إلى أهل السنة والجماعة من بين أظهرنا، ولا نذهب بكم بعيداً عنا، فأحدنا في بعض المجالس طالما سمع بأذنيه قائلاً من المسلمين وليسوا من الأحباش يقول: الله في كل مكان، الله موجود في كل الوجود، هذه عقيدة ليست من عقائد المسلمين إطلاقاً، وإنما هي عقيدة طائفتين انحرفتا عن العقيدة الصحيحة التي ذكرنا آنفاً أنها من المقطوع بها في القرآن وفي السنة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى.

الطائفة الأولى: هم المعتزلة قديماً وحديثاً، المعتزلة القدامى يصرحون بأن الله في كل مكان، ومن هؤلاء الطوائف التي لا تعرف اليوم باسم المعتزلة، لكنهم يعرفون باسم آخر، وهم طائفة من الخوارج، الذين نعرف جميعاً شيئاً من تاريخهم ومن إسرافهم في كثير من العقائد الصحيحة، تلك الطائفة الموجودة اليوم هم المعروفون بـالإباضية، وهم يتبنون عقيدة المعتزلة أن الله عز وجل في كل مكان، ولا كلام لنا الآن مع هؤلاء؛ لأنكم قد عرفتم بأنهم مبطلون حينما يحشرون الله عز وجل في كل مكان، لكن يجب أن تتنبهوا وأن تتذكروا أن هؤلاء الأحباش وأمثالهم حينما يلتقون مع بعض المسلمين أو المسلمات، ويشككونهم في عقيدتهم الصحيحة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى، كيف؟ لا كيف -كما تعلمون- وهذا له بحث آخر، فبدل أن يعالجوا ما نسمع في مجالس أهل السنة والجماعة -كما يقولون اليوم أن الله موجود في كل مكان- بدل أن يعالجوا هذا الخطأ يعالجون عقيدة صحيحة باسم إنكار هذا الخطأ.

المعتزلة قديماً ومن على شاكلتهم من الإباضية حديثاً، يصرحون بأن الله في كل مكان، وهذا ضلال ما بعده ضلال، ولعلنا نعرج لتفصيل شيء من هذا الضلال.

أما الطائفة الأخرى فهم الذين يقولون: إن الله ليس في مكان مطلقاً، سواء كان المكان مكاناً وجودياً -أي: الذي كان عدماً ثم خلقه الله- أو كان مكاناً ذهنياً.

كلنا يعلم -كما ذكرت لكم آنفاً- بأن الله عز وجل كان ولا زمان ولا مكان، هل كان في مكان؟ إن كان المقصود بالمكان المكان المخلوق فحاشاه! فقد كان ولا شيء معه مطلقاً، لكنه كان، فكان في مكان، أما إن كان في هذا العدم الذي كونه فيما بعد، فجعل قسماً منه خلقاً بقوله: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117] فالله كان وهو من هذه الحيثية لا يزال كما كان، أي: ليس في مكان مخلوق، هذا واضح جداً.

فالطائفة الأخرى ينكرون أن يكون الله عز وجل كما كان في الأزل ليس في مكان، ولذلك فهم لا يثبتون له صفة العلو على المخلوقات كلها.

هؤلاء لهم مقولة من أبطل ما يقوله كافر -لا أقول: مسلم- وهم الفرقة الثانية الذين يخالفون المعتزلة في ضلالهم، وقد عرفتم أن المعتزلة يقولون: إن الله في كل مكان، وهذا ضلال واضح ولا يحتاج إلى بيان إن شاء الله، على الأقل الآن أولئك الذين يقولون: الله ليس في مكان -كما تقول المعتزلة وكما تقول الأحباش- هؤلاء لا يقولون: إن الله عز وجل له صفة العلو على المخلوقات كلها، لا يعلم كيفية ذلك إلا الله عز وجل، ماذا يقولون؟ يقولون.. وهذه عقيدة الأحباش، فأرجو ممن تمكنوا من الوسوسة إليهم أن يعرفوا حصيلة وسوستهم، ألا وهي جحد الخالق، والمصير إلى الإلحاد المطلق، كما هو مذهب الشيوعيين والدهريين والزنادقة والملاحدة، الذين يقولون: لا شيء إلا المادة، هؤلاء يصفون ربهم ويقولون: الله تبارك وتعالى لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه.

نحن اتفقنا معهم أن المكان مخلوق وهو العالم، فالله ليس داخل العالم، ولكن ما بالهم يقولون أيضاً: ليس خارج العالم؟ هذا هو الإلحاد، وهذا هو الجحد المطلق.

زاد بعضهم إغراقاً في التعطيل وفي النفي فقالوا -بعد أن قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه- قالوا: لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه.. هذا هو الجحد، هذا هو الذي يقوله الدهريون جميعاً، ويعجبني -بهذه المناسبة- مناظرة وقعت بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وبين بعض علماء الكلام من أمثال الأحباش هؤلاء، الذين شكوا شيخ الإسلام ابن تيمية إلى حاكم البلد يومئذ في دمشق بأنه يقول كذا وكذا، ويجسم، ويتهمونه بما ليس فيه، وطلبوا عقد مجلس مناظرة معه؛ فاستجاب الأمير لذلك، ودعا شيخ الإسلام ابن تيمية والمخالفين له، فجلسوا أمام الأمير، فسمع الأمير دعوى هؤلاء المشايخ، وسمع من شيخ الإسلام الآيات والأحاديث التي تثبت لله عز وجل صفة العلو على خلقه، مع التنزيه التام، كما صرح به القرآن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فلما سمع كلام الشيخ من جهة وكلام أولئك العلماء من جهة أخرى؛ قال -وهذا يدل على عقل وذكاء ممتاز- قال: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم. هذه كلمة حق تقال لأناس يقولون عن ربهم باختصار: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، صدق ذلك الأمير حينما قال عن هؤلاء الأقوام: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم؛ لأننا إذا قلنا لأفصح رجل في اللغة العربية: صف لنا المعدوم الذي لا وجود له لما استطاع أن يصف بأكثر مما يصف هؤلاء معبودهم وربهم، فالمعدوم: الذي ليس داخل العالم ولا خارجه، فهل الله كذلك؟ حاشا لله! بل كان الله ولا شيء معه.

لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يصف المجسمة الذين يشبهون الله ببعض مخلوقاته، وهؤلاء هم الذين يتستر من ورائهم الأحباش، فينكرون أن يكون لله -مثلاً- صفة اليد التي ذكرها في القرآن، والصفات الأخرى التي قد نتعرض لذكر شيء منها قريباً إن شاء الله.

وصف ابن تيمية هؤلاء المجسمة بوصف دقيق جداً، كما أنه وصف المعطلة، وقرن الطائفتين وجمعهم في وصف يجمعهم الضلال.. قال: المجسم يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.

هذا هو الحق، المجسم يعبد صنماً، الله ليس جسماً، حاشا لله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] أما المعطل فيعبد عدماً، كيف؟ لا داخل العالم ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، هذه هي عقيدة المعتزلة وعلماء الكلام ومنهم الأشاعرة اليوم، ومنهم بعض الماتريدية قديماً، وقد يكونون اليوم عامةً ماتريدية حيث لا يقولون بقولة الحق التي قالها بعض الماتريدية القدامى، الذين تمسكوا بهدي السلف الصالح، فقال قائلهم بحق:

ورب العرش فوق العرش لكن     بلا وصف التمكن واتصال

أي: إن الله عز وجل -كما قال- هو الغني عن العالمين، فالله عز وجل استوى على العرش، أي: استوى على المخلوقات كلها، ليس لأنه بحاجة إليها، وإنما ليكون مهيمناً وقاهراً لكل مخلوقاته.

هناك طائفتان اثنتان: طائفة تثبت المكان لله.. ولعلكم تسمعون هذا الإثبات من ألسنة من ينتمون إلى أهل السنة والجماعة من بين أظهرنا، ولا نذهب بكم بعيداً عنا، فأحدنا في بعض المجالس طالما سمع بأذنيه قائلاً من المسلمين وليسوا من الأحباش يقول: الله في كل مكان، الله موجود في كل الوجود، هذه عقيدة ليست من عقائد المسلمين إطلاقاً، وإنما هي عقيدة طائفتين انحرفتا عن العقيدة الصحيحة التي ذكرنا آنفاً أنها من المقطوع بها في القرآن وفي السنة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى.

الطائفة الأولى: هم المعتزلة قديماً وحديثاً، المعتزلة القدامى يصرحون بأن الله في كل مكان، ومن هؤلاء الطوائف التي لا تعرف اليوم باسم المعتزلة، لكنهم يعرفون باسم آخر، وهم طائفة من الخوارج، الذين نعرف جميعاً شيئاً من تاريخهم ومن إسرافهم في كثير من العقائد الصحيحة، تلك الطائفة الموجودة اليوم هم المعروفون بـالإباضية، وهم يتبنون عقيدة المعتزلة أن الله عز وجل في كل مكان، ولا كلام لنا الآن مع هؤلاء؛ لأنكم قد عرفتم بأنهم مبطلون حينما يحشرون الله عز وجل في كل مكان، لكن يجب أن تتنبهوا وأن تتذكروا أن هؤلاء الأحباش وأمثالهم حينما يلتقون مع بعض المسلمين أو المسلمات، ويشككونهم في عقيدتهم الصحيحة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى، كيف؟ لا كيف -كما تعلمون- وهذا له بحث آخر، فبدل أن يعالجوا ما نسمع في مجالس أهل السنة والجماعة -كما يقولون اليوم أن الله موجود في كل مكان- بدل أن يعالجوا هذا الخطأ يعالجون عقيدة صحيحة باسم إنكار هذا الخطأ.

المعتزلة قديماً ومن على شاكلتهم من الإباضية حديثاً، يصرحون بأن الله في كل مكان، وهذا ضلال ما بعده ضلال، ولعلنا نعرج لتفصيل شيء من هذا الضلال.

أما الطائفة الأخرى فهم الذين يقولون: إن الله ليس في مكان مطلقاً، سواء كان المكان مكاناً وجودياً -أي: الذي كان عدماً ثم خلقه الله- أو كان مكاناً ذهنياً.

كلنا يعلم -كما ذكرت لكم آنفاً- بأن الله عز وجل كان ولا زمان ولا مكان، هل كان في مكان؟ إن كان المقصود بالمكان المكان المخلوق فحاشاه! فقد كان ولا شيء معه مطلقاً، لكنه كان، فكان في مكان، أما إن كان في هذا العدم الذي كونه فيما بعد، فجعل قسماً منه خلقاً بقوله: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117] فالله كان وهو من هذه الحيثية لا يزال كما كان، أي: ليس في مكان مخلوق، هذا واضح جداً.

فالطائفة الأخرى ينكرون أن يكون الله عز وجل كما كان في الأزل ليس في مكان، ولذلك فهم لا يثبتون له صفة العلو على المخلوقات كلها.

هؤلاء لهم مقولة من أبطل ما يقوله كافر -لا أقول: مسلم- وهم الفرقة الثانية الذين يخالفون المعتزلة في ضلالهم، وقد عرفتم أن المعتزلة يقولون: إن الله في كل مكان، وهذا ضلال واضح ولا يحتاج إلى بيان إن شاء الله، على الأقل الآن أولئك الذين يقولون: الله ليس في مكان -كما تقول المعتزلة وكما تقول الأحباش- هؤلاء لا يقولون: إن الله عز وجل له صفة العلو على المخلوقات كلها، لا يعلم كيفية ذلك إلا الله عز وجل، ماذا يقولون؟ يقولون.. وهذه عقيدة الأحباش، فأرجو ممن تمكنوا من الوسوسة إليهم أن يعرفوا حصيلة وسوستهم، ألا وهي جحد الخالق، والمصير إلى الإلحاد المطلق، كما هو مذهب الشيوعيين والدهريين والزنادقة والملاحدة، الذين يقولون: لا شيء إلا المادة، هؤلاء يصفون ربهم ويقولون: الله تبارك وتعالى لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه.

نحن اتفقنا معهم أن المكان مخلوق وهو العالم، فالله ليس داخل العالم، ولكن ما بالهم يقولون أيضاً: ليس خارج العالم؟ هذا هو الإلحاد، وهذا هو الجحد المطلق.

زاد بعضهم إغراقاً في التعطيل وفي النفي فقالوا -بعد أن قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه- قالوا: لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه.. هذا هو الجحد، هذا هو الذي يقوله الدهريون جميعاً، ويعجبني -بهذه المناسبة- مناظرة وقعت بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وبين بعض علماء الكلام من أمثال الأحباش هؤلاء، الذين شكوا شيخ الإسلام ابن تيمية إلى حاكم البلد يومئذ في دمشق بأنه يقول كذا وكذا، ويجسم، ويتهمونه بما ليس فيه، وطلبوا عقد مجلس مناظرة معه؛ فاستجاب الأمير لذلك، ودعا شيخ الإسلام ابن تيمية والمخالفين له، فجلسوا أمام الأمير، فسمع الأمير دعوى هؤلاء المشايخ، وسمع من شيخ الإسلام الآيات والأحاديث التي تثبت لله عز وجل صفة العلو على خلقه، مع التنزيه التام، كما صرح به القرآن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فلما سمع كلام الشيخ من جهة وكلام أولئك العلماء من جهة أخرى؛ قال -وهذا يدل على عقل وذكاء ممتاز- قال: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم. هذه كلمة حق تقال لأناس يقولون عن ربهم باختصار: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، صدق ذلك الأمير حينما قال عن هؤلاء الأقوام: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم؛ لأننا إذا قلنا لأفصح رجل في اللغة العربية: صف لنا المعدوم الذي لا وجود له لما استطاع أن يصف بأكثر مما يصف هؤلاء معبودهم وربهم، فالمعدوم: الذي ليس داخل العالم ولا خارجه، فهل الله كذلك؟ حاشا لله! بل كان الله ولا شيء معه.

لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يصف المجسمة الذين يشبهون الله ببعض مخلوقاته، وهؤلاء هم الذين يتستر من ورائهم الأحباش، فينكرون أن يكون لله -مثلاً- صفة اليد التي ذكرها في القرآن، والصفات الأخرى التي قد نتعرض لذكر شيء منها قريباً إن شاء الله.

وصف ابن تيمية هؤلاء المجسمة بوصف دقيق جداً، كما أنه وصف المعطلة، وقرن الطائفتين وجمعهم في وصف يجمعهم الضلال.. قال: المجسم يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.

هذا هو الحق، المجسم يعبد صنماً، الله ليس جسماً، حاشا لله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] أما المعطل فيعبد عدماً، كيف؟ لا داخل العالم ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، هذه هي عقيدة المعتزلة وعلماء الكلام ومنهم الأشاعرة اليوم، ومنهم بعض الماتريدية قديماً، وقد يكونون اليوم عامةً ماتريدية حيث لا يقولون بقولة الحق التي قالها بعض الماتريدية القدامى، الذين تمسكوا بهدي السلف الصالح، فقال قائلهم بحق:

ورب العرش فوق العرش لكن     بلا وصف التمكن واتصال

أي: إن الله عز وجل -كما قال- هو الغني عن العالمين، فالله عز وجل استوى على العرش، أي: استوى على المخلوقات كلها، ليس لأنه بحاجة إليها، وإنما ليكون مهيمناً وقاهراً لكل مخلوقاته.

يأتي هنا أن نقول لهؤلاء الأحباش وأمثالهم من المنحرفين عن عقيدة السلف الصالح: إن الله عز وجل فوق العرش، استعلى بنص القرآن الكريم وتفسير السلف الصالح، هأنتم تقولون: إن الله ليس في مكان، فهل يجوز للمسلم أن يقول: أين الله؟!

هنا ينكشف البرقع عن هؤلاء المتسترين بتنزيه الله عز وجل عن المكان المخلوق، لكننا نسألهم: هل الله عز وجل في السماء؟ علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن لنا -نحن معشر المسلمين، المتبعين للكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح- هو الذي سن لنا أن نسأل من نشك في إيمانه بالله عز وجل: أين الله؟ وبالتالي سن لنا الجواب أن نقول: الله في السماء، لكن هذا لا بد أنه بحاجة إلى شيء من البيان -أي: حينما نقول: الله في السماء- وهذا سأقوم به -إن شاء الله- بعد أن أذكر إخواننا وأخواتنا الحاضرات بحديث أخرجه الأئمة في كتبهم، واتفق علماء الحديث، وعلماء التفسير، وفقهاء الأئمة الأربعة وغيرهم على صحة الحديث التالي، وقد أخرجه من أهل الحديث الإمام مسلم في صحيحه، ومن قبله الإمام مالك في موطئه، ومن بعده الإمام أحمد في مسنده، وغيرهم كثير وكثير جداً ممن تبعوهم بإحسان، ذلك الحديث هو ما جاء بالسند الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى يوماً وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل بجانبه فقال له وهو يصلي: يرحمك الله، فنظروا إليه بأطراف أعينهم مسكتين له) لكن يبدو أنه كان حديث عهد بالإسلام ومعرفة الأحكام المتعلقة بالصلاة؛ ولذلك فقد ضاق بهم ذرعاً حينما رآهم ينظرون إليه نظرة تسكيت له- (..فقال رافعاً صوته: واثكل أمي! ما بالكم تنظرون إلي؟! فأخذوا ضرباً على أفخاذهم) أيضاً يتابعونه بالإسكات، فحينئذٍ كأنه تبين أنه على خطأ، فذكر من هديه عليه السلام ولطفه معه.. قال: (فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة أقبل إلي، فوالله ما قهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي تسبيح وتكبير وتحميد).

ولما وجد الرجل هذا اللطف -وكل شيء من معدنه جميل، فهو الذي وصفه رب العالمين في القرآن الكريم: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] حينما وجد منه هذا اللطف في التعليم؛ طمع أن يزداد علماً بعد أن عرف أنه أخطأ في الصلاة وتكلم ولا يجوز له الكلام، فقال: (يا رسول الله! إن منا أقواماً يتطيرون. قال: فلا يصدنكم، قال: إن منا أقواماً يأتون الكهان. قال: فلا تأتوهم، قال: إن منا أقواماً يخطون بالرمل...) وضرب الرمل معروف، وهو إلى اليوم مع الأسف، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه خطه فذاك) والشاهد الآن يأتي، وما مضى يحتاج إلى محاضرة بل وأكثر من محاضرة، ولكن الشاهد هو ما سيأتي الآن.. (قال: يا رسول الله! لي جارية ترعى غنماً لي في أحد، فسطا الذئب يوماً على غنمي، وأنا رجل أغضب كما يغضب البشر، فصككتها صكة وعليَّ عتق رقبة. فقال عليه الصلاة والسلام: هاتها، فلما جاءت قال لها عليه الصلاة والسلام: أين الله؟ قالت: في السماء. قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال لسيدها: اعتقها فإنها مؤمنة) هذا الحديث اتفق علماء المسلمين على اختلاف تخصصاتهم؛ من علماء الحديث -وهذا تخصصهم- وعلماء التفسير، والفقه، والتوحيد، كلهم اتفقوا على تصحيح هذا الحديث، إلا علماء الكلام الذين يركبون رءوسهم ويتبعون أهواءهم، فهم الذين يردون هذا الحديث بعقولهم التي عرفتم أنها لا قيمة لها.

جواب الأحباش وغيرهم عن سؤال: أين الله؟

هذا الحديث أجاز لنا أن نسأل الأحباش وأمثالهم من أذناب المعتزلة أو الإباضية : أين الله؟ فستراهم حيارى، والجيد منهم يقول: هذا سؤال لا يجوز. وهم يجهلون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا السؤال لأمته، فهم إذاً يردون على نبيهم الذي يزعمون أنهم يؤمنون به.

قد لا تصدقون، لكن الكتاب موجود، وبعض العلماء في العصر الحاضر يقولون: إن القول بأن الله في السماء هي عقيدة الجاهلية وليست عقيدة المسلمين، وأن هذه الكلمة "إن الله في السماء" حكاها عنهم رب العالمين في القرآن الكريم من سورة تبارك: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16] .. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:17] .

وهناك قسم آخر أقرب إلى الهدى وأبعد عن ضلال القسم الأول الذين قالوا: إن القول بأن الله في السماء هو قول جاهلية، يتأولون هذه الآية بتأويل، فيقولون: (من في السماء) أي: الملائكة. وهذا من شؤم ما يسمونه بالمجاز، إنهم يسلكون طرق المجاز لتعطيل الصفات الإلهية، وتأتي هنا أحاديث كثيرة لإبطال مثل هذا التأويل، من ذلك: الحديث المتداول بين الناس اليوم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بل لا يفقهون ما به يتكلمون، ذلك الحديث هو: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، من في السماء؟ الله، ومن في الأرض؟ خلق الله؛ من إنسان، وحيوان، ودواب..إلخ.

هذا الحديث لأنه يوضح المعنى المقصود من قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] وهذا الذي قلت آنفاً: ربما نعرج لبيان معنى (من في السماء) لأن (في) من حيث الاستعمال العربي تأتي في بعض الأحيان بمعنى الظرفية، وأحياناً تأتي بمعنى آخر من حروف الجر، فتأتي بمعنى على، فيا ترى (في) هنا في هذه الآية هل هي بالمعنى المعهود أي أنها ظرف؟ الجواب: لا. ومن هنا يظن علماء الكلام أنهم إذا نفوا أن يكون الله في السماء أنهم نزهوه، وهم في الحقيقة نزهوه عن فهمهم الخطأ للآية، لكن قد أنكروا أن يقولوا كما قال الله "الله في السماء" فجهلوا معنى أن الله في السماء أنه على السماء، وفي هذه الحالة تلتقي معنا هذه الآية مفسرة بالحديث السابق: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (من في الأرض) ليس المقصود من كان في جوف الأرض من ديدان وحشرات.. إلخ، وإنما المعنى واضح جداً: من على الأرض، من تتعاملون معهم من بني جنسكم من الإنس، أو مما ذلل الله لكم من الحيوانات، ارحموا من على الأرض يرحمكم من في السماء، أي: من على السماء.

وحينئذ هذا التفسير الذي يوضحه هذا الحديث، يلتقي تماماً مع كل الآيات التي ذكرنا بعضها، وأحاديث أخرى أن الله عز وجل له صفة العلو، فحينما نوجه السؤال إلى هؤلاء الأحباش، أو إلى غيرهم ممن هم على شاكلتهم في ضلالهم: أين الله؟ يجب أن يكون جوابهم كما قالت الجارية: الله في السماء. لكن ليس بمفهومهم "في" ظرفية، لا. وإنما بالمفهوم الذي وضحه الحديث أولاً، وكان عليه سلفنا الصالح ثانياً، ومعنى: (إن الله في السماء) أي: على السماء، فوق العرش؛ لأن كل ما علاك فهو سماء.

فحينئذٍ تسد الطرق كلها أمام هؤلاء الأحباش الذين يظنون أولاً: أنه لا يجوز أن يسأل المسلم: أين الله؟ وثانياً: يظنون أنه لا يجوز أن يقول: الله في السماء، بعد أن تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا السؤال: أين الله؟ وهو الذي شهد لتلك الجارية بالإيمان؛ حينما نطقت بلفظ القرآن: الله في السماء.

الفرق بين الصحابة وبين عامة الناس اليوم في فهم العقيدة

وهنا عبرة لا بد أن أذكرها، وهي: يتبين لنا الفرق بين الحياة التي كان يعيشها عامة المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى الجارية راعية الغنم، وبين ما يعيشه اليوم عامة المسلمين وكثير من خاصتهم؛ لأن هذا السؤال لو وجه إلى كثير من الخاصة، وفيهم بعض كبار علماء الأزهر الذي يوصف فيقال: الأزهر الشريف، لو وجه إليهم هذا السؤال: أين الله؟ لم يجيبوا بجواب الجارية.. ما هذه الفارقة بين كبار العلماء في العصر الحاضر لا يجيبون عن سؤال الرسول عليه السلام، بينما راعية الغنم تعرف الجواب الصحيح لهذا السؤال الوجيه؟ أقول: هذا دليل على أن المسلمين في العهد الأول ربوا جميعاً -لا فرق بين خاصتهم وعامتهم- ربوا جميعاً بتربية النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق -على الأقل- بالعقيدة التي لا بد لكل مسلم أن يكون فاهماً لها أولاً، ثم مؤمناً بها.

هذه الجارية كيف عرفت العقيدة الصحيحة؟ الجواب: الجارية لا نتصور أنها كانت تتمكن أن تحضر حلقات العلم، التي كان يحضرها كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخاصتهم، بينما الآخرون ما كانوا يحضرون جلسات الرسول عليه السلام، إذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما سمع حديثاً من أبي هريرة رضي الله عنه ندم فقال: [شغلنا الصفق في الأسواق] إذا كان هذا عمر فماذا نقول عن الصحابة الآخرين؟ وماذا نقول عن النساء؟ بل ماذا نقول أخيراً عن الجواري وعن راعية الغنم؟

أريد من هذه التوطئة: كيف فهمت هذه الجارية هذه العقيدة الصحيحة، التي إلى الآن لم يفهمها بعض الخاصة من أهل العلم؟ إنها كانت تعيش في جو موحد بالتوحيد الصحيح الذي لا مثيل له في الدنيا إطلاقاً؛ بسبب وجود النور بين ظهراني أولئك الصحابة من الرجال والنساء، من الخاصة والعامة، وهو الرسول عليه السلام، هذه الجارية تلقت هذه العقيدة من سيدها، فسيدها يسمع العقيدة الصحيحة؛ بل والأحكام الشرعية من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يقتصر على الاحتفاظ بها بل ينقلها إلى من يعوله، إلى من ينفق عليه مادة وينفق عليه -أيضاً- علماً ومعنى.

من هنا نعرف لماذا عرفت الجارية هذه العقيدة الصحيحة؛ لأنها عاشت في ذلك الجو الوحيد في فهمه بالتوحيد الصحيح، أما اليوم فالمسلمون يعيشون في أجواء متباينة في عقائد متفرقة متضاربة أشد التضارب؛ ولذلك فلا نجاة للمسلمين في هذا الزمان إلا أن يعودوا إلى ما كان عليه السلف الصالح، وأن يحققوا في أنفسهم خبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، حينما قال واصفاً للفرقة الناجية: (هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي).