كلمة في جمع الكلمة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى أزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة الحضور السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنني أحبكم في الله تعالى..

أحبكم حُب الشحيح ماله     قد ذاق طعم الفقر ثم ناله

إذا أراد بذله بدا له

أحبكم حباً لا تفسير له إلا هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين، يحِنُّ بعضهم إلى بعض وإن تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار، إلا أن رابطة الحب في الله تعالى تجمعهم..

أحبك لا تفسير عـندي لصبوتي     أفسر ماذا والهوى لا يفسر

فإذا ألمت بك ملمة، أو نزلت بك نازلة، أو أغلقت دونك الأبواب، أو تعسَّرت الأسباب؛ فتذكر أن قلوباً صافية تأسى لأساك، وتحزن لحزنك، وتفرح لفرحك، وتتابعك وإن كنت لا تعرفها وكانت لا تعرفك، فإن رأتك على خيرٍ بكت فرحاً، وإن رأتك على سوء بكت ألماً.

ولعل هذه الكلمة -كلمة الحب- تصلح لجمع الكلمة، فمع الحب تذوب المشكلات بين الزوجين .. بين الشركاء .. بين الأصحاب في العمل .. بين المتخالطين .. بين الجيران .. بين المختلفين، لكن إذا تنافرت القلوب فلا ينفع حينئذٍ وئام ولا اتفاق.

لدينا في هذه الليلة المباركة (كلمة في جمع الكلمة) ومجموعة من المسائل التي نحب أن نتدارسها..

أولاً: عنوان هذه الكلمة يوحي بأهمية الاجتماع والأمر به، والنهي عن التفرق في الدين، ويجب أن ندرك -أيها الأحبة- أن ثمة فرقاً بين التفرق وبين الاختلاف؛ فالله سبحانه وتعالى في تنزيله نهى عن التفرق مطلقاً، ولهذا نقول: كل تفرق فهو مذموم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن التفرق بالأجساد، ويقول لهم: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما هو من الشيطان) فكانوا إذا نزلوا وادياً اجتمعوا حتى لو وضع عليهم بساط لوسعهم.

فالتفرق مذموم في الأحوال، والأقوال، والمذاهب، والمواقف، والأبدان أيضاً إذا كان تفرقاً مبنياً على غير سبب، ولهذا قال الله عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا [آل عمران:105].

أما الاختلاف فليس مذموماً بالإطلاق، بل منه ما هو مذموم ومنه ما هو محمود، ولهذا قال في الآية بعدها: وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105].

إذاً فالاختلاف المذموم، والاختلاف في الكتاب أو الاختلاف على الكتاب هو اتباع الهوى؛ أن يختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وإلا فقد يكون اختلافاً محموداً، ومن أمثلته: اختلاف التنوع؛ أن يكون إنسان يعمل خيراً وآخر يعمل خيراً غيره، أو هذا يرى رأياً باجتهاده، وهذا يرى رأياً مختلفاً، كما وقع، وسنتبين جوانب من هذا الموضوع.

إذاً: التفرق مذموم بالإطلاق، وأما الاختلاف فمنه المذموم ومنه المحمود، والتنوع هو سنة ربانية قامت الحياة كلها على أساسه، فالله تعالى خلق من كل شيء زوجين، وجعل تنوعاً في أشكال الناس ومظاهرهم وألوانهم، وفي مخلوقات الله تبارك وتعالى، وفيما يراه الإنسان من حوله، فهذا التنوع هو جزء من ثراء الحياة الإنسانية، وجزء من التجدد والطرافة فيها، ولذلك يقول المتنبي :

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهـم     إلا على شجبٍ والخلق في الشجب

فقيل تخرج نفس المرء سالمة     وقيل تشرك جسم المرء في العطب

يعني: أن الناس اختلفوا في كل شيء إلا في الروح، وحتى الروح اختلفوا فيها، فقيل: إنها تفنى مع الجسد. وقيل: تسلم. ولا شك أن هذا من كلام الشعراء: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] والمقصود الذي نقره من هذه الأبيات هو: أن الاختلاف شيء عميق في الحياة البشرية.

التفرق المذموم -أيها الأحبة- هو اتباع لسنة أهل الكتاب الذين: تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105] ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع هديهم وسنتهم، والتفرق المذموم مخالفة لمقتضى المصلحة والعقل والرشد والبصيرة، ولهذا قال الله تعالى عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:14] فاختلافهم بسبب نقص عقولهم.

وكذلك التفرق هو نقض لأساسٍ من أسس الشريعة، فإن الشريعة جاءت بوحدة المسلمين، ولهذا كان الخطاب في القرآن الكريم جماعياً، وما لا يحصى من الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] .. وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] ومعظم أحكام الشريعة لا يمكن تنفيذها إلا من خلال وحدة واجتماع.

كيف تستطيع أن تطبق الأخلاق الإسلامية, وتعرف إن كنت صبوراً، أو كنت حليماً، أو كنت كريماً، أو كنت شجاعاً؟ إلا من خلال الاختلاط بالناس .. كيف تستطيع أن تؤدي شعائرك؛ فتصلي، وتصوم، أو تحج أو تعتمر؟ إلا من خلال الاختلاط بالناس.

إذاً: التفرق اتباع لسنة أهل الكتاب، ومخالفة لما تقتضيه العقول السليمة والبصائر المستقيمة، وهو نقض لأساس من أسس الشريعة.

ونحن -أيها الأحبة- لا نتحدث فقط عن الدعاة والاختلافات التي تقع بينهم، أو العلماء واختلافهم في الفتوى، أو ما يسمى بالإسلاميين وتنوع مشاربهم ومذاهبهم فحسب؛ وإنما نتكلم عن الاختلاف بين المسلمين، الاختلاف الذي يضرب هذه الأمة، وإذا كنا نشهد في التاريخ الإسلامي ألواناً من الاختلافات التي لم يكن لها سبب ولا مسوغ ولا مبرر، والتي قضت على وحدة المسلمين وأكلت جهودهم وطاقاتهم، ومكَّنت أعداءهم منهم في غير مرحلة، فإننا نشهد في واقع المسلمين اليوم ألواناً وألواناً من هذا الاختلاف، جديرة بمبضع الجراح الذي يقوم بعلاجها.

الله تبارك وتعالى يقرر لنا أن المؤمنين إخوة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] ويقول سبحانه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52] ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (المسلم أخو المسلم).

إذاً الأخوة ليست في العروبة، وليست في الأرض، فالأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله. وليست في المصلحة المشتركة، وليست في التاريخ المشترك، وإنما الأخوة الحقيقية هي التي تظلل الناس في ظل هذا الدين..

إن يختلف نسب يؤلف بيننا     دين أقمناه مقام الوالد

أو يفترق ماء الوصال فماؤنا     عذب تحدَّر من غمام واحد

حتى حينما يقع عليك عدوان أو ظلم من أخيك، فهذا لا يعني أن أخوته زالت، تأمل قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] بين طائفتين وصل الأمر بينهما إلى حدِّ الاقتتال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] ومع ذلك سماهم إخوة وقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] يعني: في شأن القاتل الذي قتل أخاه المسلم، ومع ذلك سمَّاه الله تعالى أخاً، فالقاتل أخ للمقتول، والمقتول أخ للقاتل، إذاً هذه الأخوة التي عقدها الله تبارك وتعالى، لا يجوز أبداً لعوامل الفرقة والاختلاف، وحتى العداوة التي تقع بين المسلم وأخيه -لا يجوز أن تقضي على أساس هذه الأخوة أو تزيلها.

نعم، قد تجد من الناس من يقع منه تقصير في دينه -مثلاً- أن يكون عنده انحراف، أو معصية، أو تقصير، لكن ما دام يصح له وصف الإسلام فله أصل الحقوق، وإذا تم له كمال الإيمان كملت له الحقوق، وهذه نقطة مهمة جداً، نقول: كل من صح أن يوصف بأنه مسلم فله حقوق المسلم.. (حق المسلم على المسلم ست: رد السلام، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، وعيادة المريض..) وغير ذلك من الحقوق التي لم تذكر في هذا الحديث, فكل من صح له وصف الإسلام ولو كان في الدرجة الدنيا منه فله قدر من هذه الحقوق، لكن كلما عظم قدره في الإسلام كلما عظمت حقوقه؛ ولهذا كان أعظم الحقوق على المسلمين بعد حق الله تعالى حق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم حق الصحابة رضي الله عنهم، ثم حق أهل العلم، وأيضاً حقوق الوالدين.

فالمقصود أن الحق باقٍ لكل من صح أن يوصف بأنه من المسلمين، وإن كان عليه نقص أو زلل أو تفريط، أو عنده شيء من الخطأ.

ولذلك قد يقول البعض: هذه أخوة عامة وأخوة خاصة، وأنا أفضل عدم استعمال هذا المصطلح؛ لأن الأخوة العامة والخاصة أجراها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين والأنصار، فآخى بين فلان وفلان، هذا مهاجري وهذا أنصاري، وكان بينهم نوع من الاندماج، حتى في أموالهم وفي سكنهم وفي أمورهم، حتى قال سعد بن الربيع لـعبد الرحمن بن عوف : [انظر شطر مالي فهو لك، وانظر أجمل زوجتيَّ فأطلقها حتى تعتدَّ ثم تتزوجها من بعدي] وهذا الحديث في صحيح البخاري ، فهذه أخوة خاصة كانت بين عبد الرحمن و سعد مثلاً.

لكن المقصود: أن الأخوة بين المسلمين قائمة، ولا مانع أن يعلم الجميع أن هذه الأخوة تتفاوت درجاتها، فليس حق شيخك العالم الجليل، صافي المشرب والمذهب، صادق السريرة، صالح القول والعمل المؤثر عليك؛ كحق إنسان بعيد من الناس، أو كحق شخص مضيع أو مفرِّط.

معايير الالتزام وحقيقته

وكثير من الناس أحياناً، ربما في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية تسمعون بالتقسيم، أن في المجتمع ناساً نسميهم بالملتزمين، وهناك أناس نقول عنهم: غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول: كان الشخص غير ملتزم، ولكنه يحب الخير، ومحافظ على الصلوات.. أنت تتعجب!

أولاً: ما هو معيار الالتزام؟ هل نقصد بالالتزام أن يكون مظهر الإنسان فقط متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟

فهذا الإنسان الذي قد يكون مفرطاً في مظهره وعنده معصية ظاهرة، ربما يكون من جهة أخرى ملتزماً؛ فهو مبكر إلى الصلوات، حريص على الجماعات، بار بوالديه، كثير الإنفاق في سبيل الله، عنده جوانب من الخير عظيمة، فهو ملتزم بهذا الاعتبار وإن كان عنده تفريط، كما أن ذاك الأخ الآخر الذي ربما عنده التزام ظاهر في ملابسه .. في شكله .. في شعره .. في هيئته .. في هديه وسمته الظاهر، لا يمنع هذا أن يكون عنده نقائص وعيوب خفية؛ فقد يكون مفرطاً -مثلاً- في صلاة الفجر مع الجماعة، وقد يكون عنده نوع من التقصير في حق الوالدين، أو ما أشبه ذلك من الأخطاء.

إذاً: ينبغي أن نضبط المعيار حينما نقول: ملتزم، أو غير ملتزم .. هذا أولاً.

ثانياً: من الخطأ أن نعتبر أن هذه القسمة أو هذه التسمية تقتضي نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم بعضاً، فإذا كنت أنا غير ملتزم -مثلاً- بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل، فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين لأستفيد منهم ومن علمهم ومن أخلاقهم، وأقتبس منهم، والآخر أيضاً الملتزم هو محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته عند من يسميهم أحياناً بغير الملتزمين.

إذاً: هي مجموعات داخل هذا المسمى يحتاج بعضها إلى بعض، وعلينا ألا نسرف في استخدام هذه الكلمة، وأن نضع لها الضوابط، وأيضاً ألا نسمح بأن توجد نوعاً من الانفصال.

إن كثيراً من شبابنا اليوم -مثلاً- في الأرصفة، أو في الاستراحات، أو في المنتديات، أو حتى في المدارس، ربما أصبحت القنوات الفضائية، أو مواقع الإنترنت، أو المجلات، أو السفريات، أو العلاقات الخاصة والمجموعات؛ ربما أصبحت تؤثر في صياغة سلوكهم أكثر مما يؤثر المجتمع المحيط بهم .. ربما الأب عاجز؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه .. ربما الأم أيضاً لا تستطيع أن تسيطر أو تضبط أولادها، لكن زملاؤهم وأساتذتهم ومن في سنهم، ربما لو جدُّوا واجتهدوا لاستطاعوا أن يؤثروا فيهم تأثيراً بعيداً.

وكثير من الناس أحياناً، ربما في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية تسمعون بالتقسيم، أن في المجتمع ناساً نسميهم بالملتزمين، وهناك أناس نقول عنهم: غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول: كان الشخص غير ملتزم، ولكنه يحب الخير، ومحافظ على الصلوات.. أنت تتعجب!

أولاً: ما هو معيار الالتزام؟ هل نقصد بالالتزام أن يكون مظهر الإنسان فقط متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟

فهذا الإنسان الذي قد يكون مفرطاً في مظهره وعنده معصية ظاهرة، ربما يكون من جهة أخرى ملتزماً؛ فهو مبكر إلى الصلوات، حريص على الجماعات، بار بوالديه، كثير الإنفاق في سبيل الله، عنده جوانب من الخير عظيمة، فهو ملتزم بهذا الاعتبار وإن كان عنده تفريط، كما أن ذاك الأخ الآخر الذي ربما عنده التزام ظاهر في ملابسه .. في شكله .. في شعره .. في هيئته .. في هديه وسمته الظاهر، لا يمنع هذا أن يكون عنده نقائص وعيوب خفية؛ فقد يكون مفرطاً -مثلاً- في صلاة الفجر مع الجماعة، وقد يكون عنده نوع من التقصير في حق الوالدين، أو ما أشبه ذلك من الأخطاء.

إذاً: ينبغي أن نضبط المعيار حينما نقول: ملتزم، أو غير ملتزم .. هذا أولاً.

ثانياً: من الخطأ أن نعتبر أن هذه القسمة أو هذه التسمية تقتضي نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم بعضاً، فإذا كنت أنا غير ملتزم -مثلاً- بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل، فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين لأستفيد منهم ومن علمهم ومن أخلاقهم، وأقتبس منهم، والآخر أيضاً الملتزم هو محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته عند من يسميهم أحياناً بغير الملتزمين.

إذاً: هي مجموعات داخل هذا المسمى يحتاج بعضها إلى بعض، وعلينا ألا نسرف في استخدام هذه الكلمة، وأن نضع لها الضوابط، وأيضاً ألا نسمح بأن توجد نوعاً من الانفصال.

إن كثيراً من شبابنا اليوم -مثلاً- في الأرصفة، أو في الاستراحات، أو في المنتديات، أو حتى في المدارس، ربما أصبحت القنوات الفضائية، أو مواقع الإنترنت، أو المجلات، أو السفريات، أو العلاقات الخاصة والمجموعات؛ ربما أصبحت تؤثر في صياغة سلوكهم أكثر مما يؤثر المجتمع المحيط بهم .. ربما الأب عاجز؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه .. ربما الأم أيضاً لا تستطيع أن تسيطر أو تضبط أولادها، لكن زملاؤهم وأساتذتهم ومن في سنهم، ربما لو جدُّوا واجتهدوا لاستطاعوا أن يؤثروا فيهم تأثيراً بعيداً.

لقد تحدثت عن تفرقٍ داخل الأمة الإسلامية في حاضرها وفي ماضيها وتاريخها، ولا بأس أن أضرب بسرعة ألواناً ونماذج من هذا التفرق.

الانتساب للمذاهب الفقهية

أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية.

حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري .. إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع -أحياناً- من التفرق إذا ترتب عليه تعصب؛ لأنه في الأصل من الاختلاف المحمود، اختلاف الشافعي ومالك وأحمد ليس اختلافاً على القرآن والسنة..

وكلـهم من رسول الله ملتمس     غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

لكنهم اختلفوا بهذا الاعتبار، لكن إذا تحول الأمر إلى نوع من العصبية والتمسك، وتقديم قول الشيخ على قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يتحول هنا إلى لون من التفرق المذموم؛ لأنه بني على تعصب، وأحياناً يكون هو معقد الولاء والبراء، فتجد هؤلاء يوالون بعضهم بعضاً؛ لأنهم من المذهب الفقهي الفلاني، وقد يجافون من لا يوافقهم في المذهب أو في المشرب، وهذا يقع فيه كثير، تجد مثلاً حنبلياً يقول:

أنا حنبلي مـا حييت وإن أمت     فوصيتي للناس أن يتحنبلوا

نقول: هذا ليس بصواب، الناس مطلوب منهم أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو إمام الأئمة، وهو الوحيد من الناس الذي يجب على الناس اتباعه مطلقاً، وأما الأئمة فما منهم إلا راد ومردود عليه، وما منهم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، فاعتبار أن هذا الإمام أياً كان هو معقد الولاء والبراء، وأن الحق محصور في هذا القول أو المذهب؛ فهذا خطأ، وقد حفل التاريخ والواقع بأشياء من هذا القبيل، مثلاً: الرجل الذي كان يقول: عذيري من قومٍ..، وهو مالكي، والمالكية ليسوا شديدي التعصب، لكن هذا النموذج الذي أذكره وأحفظه:

عذيري من قوم يقولون كلـما     طلبت دليلاً هكذا قال مالك

فإن قلت قالوا هكذا قال أشهب     وقد كان لا تخفى عليه المسالك

فإن قلت قالوا قال سحنون مثله     ومن لم يقل ما قاله فهو آفك

فإن قلت قال الله، ضجوا وعولوا     وصاحوا وقالوا أنت قرن مماحك

وإن قلت قد قال الرسول فقولهم     أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك

صلى الله على محمد، أي: أن مالكاً رحمه الله أول هذا الحديث أو وجهه وجهةً معينة، وهكذا تجد أن من أصحاب المذاهب من كان يقول: كل ما خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول.

إذاً هذه المذاهب الفقهية هي تصنع أحياناً اختلافاً بين المسلمين، وأحياناً أخرى تصنع لوناً من التفرق.

الانتساب للجماعات والحركات

ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب، أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي.

فكثيراً ما نسمع من يقول مثلاً: هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وهذا من تلك، وأحياناً يكون هناك ولع وانهماك واندماج في التصنيف بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يدرس ويلقى!

نعم. التعاون على البر والتقوى مطلوب: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل، وأن يجتمع الإنسان مع إخوانه، ويتشاور معهم، وينسق المواقف، ويستفيد منهم؛ كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وهذه الأشياء كلها تعني مزيد الصلة بين المؤمنين، ومزيد التلاحم والترابط، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يكون في بلد آخر، أو يكون في واجب أو فرض كفائي آخر يقوم به أيضاً، فإن هذه الأشياء ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم على أساس القائمة، بمعنى: ما دام أن فلاناً من المجموعة الفلانية فهو فاضل، وما دام أنه من تلك المجموعة الأخرى فهو خاطئٌ أو منحرف أو ضال .. ليس هذا بلازم، الله سبحانه وتعالى يقول: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] هل قال: كلهم سوف يأتون جماعات ويحصرون في قوائم؟! لا. قد يكون الشخص مع مجموعة عليها نوع من التقصير وهو فاضل، وقد يكون مع مجموعة فاضلة وهو مقصر، وكثرة الاشتغال بمحاسبة الناس ومحاكمتهم والقيل والقال، هذه ليست من الأشياء المحمودة، فإن أكمل الناس وأفضلهم هو أعفهم لساناً، حتى حينما يريد أن يصحح أو يعدل؛ لأننا لا نزعم أن التجمعات أو العناوين الإسلامية أنها مجموعات للكملة والفضلاء، أو أن هذه هي الإسلام، إنما قصاراها أن تكون مثل المذاهب الفقهية، مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرها، اجتهادات معينة يستند أصحابها في الأصل على الشريعة وعلى الكتاب والسنة، ولكنهم يخطئون ويصيبون، والتعصب مردود، كأن تقبل خطأه وصوابه؛ لأنك تحبه، أو أن ترد كل ما عنده؛ لأنك لا تحبه.

التعصب للقبيلة

المثال الثالث: التعصب للقبيلة.

وهذا أمر عريق عند العرب، كان العربي الأول يقول:

أمرتهم وأمري بمنعرج اللوى     فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى     غوايتهم أو أني غير مهتدي

وهل أنا إلا من غزية إن غـوت     غويت وإن ترشد غزية أرشدِ

(وأربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن.. ) فنحن نجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية.

ليس هناك مشكلة أبداً أن يعرِّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء؛ بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وأن قيامه، وأن ولاءه ومحبته وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب، لكن لو جاء شخص من قبيلة أخرى، وربما يحتفظ بذكريات تاريخية أو قصص من الآباء والأجداد، فإنه يتجافى عنه وقد لا يساعده أو يعينه بل لو استطاع لضره، فهنا تحول الانتساب القبلي إلى نوع من الانفصال والانشقاق داخل المجتمعات الإسلامية.

الانتساب لمنطقة أو إقليم أو غيرها

المثال الرابع: الانتساب لمنطقة أو إقليم، أو شعب من الشعوب، أو جزئية من الجزئيات.

فهذا نجدي، وهذا حجازي، وهذا غربي، وهذا شرقي، وهذا خليجي، وهذا شامي، وهذا مصري، وهذا عراقي، وهذا كذا .. هذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء، ولا يضير أن يقول الإنسان أنه من بلد كذا، لكن إذا تحولت -كما هو الواقع عند كثير من الناس- إلى نوع من العصبية, ونوع من الولاء على هذه النسبة؛ فإن هذا خطأ كبير، وقد تجد أن الكثيرين -مثلاً- إذا التقوا فيما بينهم أصبحوا يتبادلون النكت والطرائف المضحكة الدالة على تنقص الفئة الأخرى، فإذا اجتمعنا وكلنا من قبيلة معينة أو منطقة معينة، أو من جنسية معينة، لم نجد حرجاً أن نستطرد في إصدار الأحكام التعميمية أن أهل الإقليم الفلاني فيهم كذا وكذا، وأن القبيلة الفلانية فيها كذا وكذا، وأن الشعب الفلاني فيه كذا وكذا، ثم هذا يأتي بقصة، وهذا يأتي بنكتة، وهذا يأتي بتجربة مر بها .. وهكذا، حتى تشبعت نفوس الكثيرين منا بأنواع وألوان من الانفصال؛ قضت أو أضعفت من الأخوة الدينية القائمة بين المؤمنين.

ربما يستغل الأعداء هذا الكلام في كثير من الأحيان، كما نلاحظ -على سبيل المثال- أن القوى الغربية، وبالذات القوة الأمريكية المتغطرسة اليوم، التي إذا أردنا أن نسمي الأمور بأسمائها لقلنا إنها تسعى إلى إعادة استعمار العالم بشكل جديد، وإنها تضرب برأي الناس عرض الحائط، وتصر على مقاصدها وعلى اتجاهاتها وعلى نياتها، وإنها لا تبالي أن يموت الناس أو يحيوا، المهم أن تنفذ مآربها وأهدافها..

نلاحظ أنها كثيراً ما تعتمد على إثارة هذه الاختلافات وعلى توظيفها؛ من أجل تحقيق أهدافها ومآربها، وهذا يؤكد علينا أهمية أن نكون يقظين، وأن نحوّل هذا الكلام إلى واقع عملي في تجنب كل الأشياء التي تخدش من صفاء الأخوة الإيمانية.

ما بيننا عربٌ ولا عجمٌ     مهلاً يد التقوى هي العليا

خلوا خيوط العنكبوت لمن     هم كالذباب تطايروا عميا

وطني كبيرٌ لا حدود له     كالشمس تملأ هذه الدنيا

بـأندونسيا فوق إيران     في الهند في روسيا وتركيَّا

آسيا ستصهل فوقها خيلي     وأحطِّم القيد الحديديا

ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً     الشام فيه ووادي النيل سيان

وحيثما ذكر اسم الله في بلدٍ     عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا     بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني

ولي بـطيبة أوطان مجنحةٌ     تسمو بروحي فوق العالم الفاني

وما بريدة مهما لجَّ بي دمها     أدنى إلى القلب من فاس وتطوان

دنياً بناها لنا الهادي فأحكمهـا     أعظم بأحمد من هادٍ ومن باني

التعصب للشيخ أو للمتبوع

كذلك التعصب للشيخ، أو التعصب للمتبوع أو المربي أو الأستاذ.

فإنه ينبغي أن يعتدل الإنسان، وأن يحفظ له قدره دون أن يتعصب له، أو يبالغ في ذلك، أو يتبع أقواله بمفرداتها؛ فإن الاتباع للمنهج لا للأقوال المفردة، فلهذا نقول نحن -مثلاً- عندما نكون أمام قول لـأحمد ، أو الشافعي ، أو مالك ، أو أبي حنيفة، نقول: العبرة بالدليل، والعبرة بالإجماع، فإذا كان قد خالفه من خالفه، أو وجد الدليل فيما يظهر لنا على خلافه، لم نجد حرجاً في رده، فهكذا من عايشناهم وعاشرناهم واقتبسنا منهم، ينبغي أن نطبق معهم هذا.

أيضاً: الانتساب لمذهب من المذاهب الفكرية أو الدعوية -كما أشرنا إليه قبل قليل- فلا ينبغي أن يمتحن الناس في الأسماء والألقاب، وإنما ينبغي أن تكون العبرة بما يقوله الإنسان وما يعمله.

أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية.

حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري .. إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع -أحياناً- من التفرق إذا ترتب عليه تعصب؛ لأنه في الأصل من الاختلاف المحمود، اختلاف الشافعي ومالك وأحمد ليس اختلافاً على القرآن والسنة..

وكلـهم من رسول الله ملتمس     غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

لكنهم اختلفوا بهذا الاعتبار، لكن إذا تحول الأمر إلى نوع من العصبية والتمسك، وتقديم قول الشيخ على قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يتحول هنا إلى لون من التفرق المذموم؛ لأنه بني على تعصب، وأحياناً يكون هو معقد الولاء والبراء، فتجد هؤلاء يوالون بعضهم بعضاً؛ لأنهم من المذهب الفقهي الفلاني، وقد يجافون من لا يوافقهم في المذهب أو في المشرب، وهذا يقع فيه كثير، تجد مثلاً حنبلياً يقول:

أنا حنبلي مـا حييت وإن أمت     فوصيتي للناس أن يتحنبلوا

نقول: هذا ليس بصواب، الناس مطلوب منهم أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو إمام الأئمة، وهو الوحيد من الناس الذي يجب على الناس اتباعه مطلقاً، وأما الأئمة فما منهم إلا راد ومردود عليه، وما منهم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، فاعتبار أن هذا الإمام أياً كان هو معقد الولاء والبراء، وأن الحق محصور في هذا القول أو المذهب؛ فهذا خطأ، وقد حفل التاريخ والواقع بأشياء من هذا القبيل، مثلاً: الرجل الذي كان يقول: عذيري من قومٍ..، وهو مالكي، والمالكية ليسوا شديدي التعصب، لكن هذا النموذج الذي أذكره وأحفظه:

عذيري من قوم يقولون كلـما     طلبت دليلاً هكذا قال مالك

فإن قلت قالوا هكذا قال أشهب     وقد كان لا تخفى عليه المسالك

فإن قلت قالوا قال سحنون مثله     ومن لم يقل ما قاله فهو آفك

فإن قلت قال الله، ضجوا وعولوا     وصاحوا وقالوا أنت قرن مماحك

وإن قلت قد قال الرسول فقولهم     أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك

صلى الله على محمد، أي: أن مالكاً رحمه الله أول هذا الحديث أو وجهه وجهةً معينة، وهكذا تجد أن من أصحاب المذاهب من كان يقول: كل ما خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول.

إذاً هذه المذاهب الفقهية هي تصنع أحياناً اختلافاً بين المسلمين، وأحياناً أخرى تصنع لوناً من التفرق.

ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب، أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي.

فكثيراً ما نسمع من يقول مثلاً: هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وهذا من تلك، وأحياناً يكون هناك ولع وانهماك واندماج في التصنيف بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يدرس ويلقى!

نعم. التعاون على البر والتقوى مطلوب: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل، وأن يجتمع الإنسان مع إخوانه، ويتشاور معهم، وينسق المواقف، ويستفيد منهم؛ كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وهذه الأشياء كلها تعني مزيد الصلة بين المؤمنين، ومزيد التلاحم والترابط، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يكون في بلد آخر، أو يكون في واجب أو فرض كفائي آخر يقوم به أيضاً، فإن هذه الأشياء ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم على أساس القائمة، بمعنى: ما دام أن فلاناً من المجموعة الفلانية فهو فاضل، وما دام أنه من تلك المجموعة الأخرى فهو خاطئٌ أو منحرف أو ضال .. ليس هذا بلازم، الله سبحانه وتعالى يقول: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] هل قال: كلهم سوف يأتون جماعات ويحصرون في قوائم؟! لا. قد يكون الشخص مع مجموعة عليها نوع من التقصير وهو فاضل، وقد يكون مع مجموعة فاضلة وهو مقصر، وكثرة الاشتغال بمحاسبة الناس ومحاكمتهم والقيل والقال، هذه ليست من الأشياء المحمودة، فإن أكمل الناس وأفضلهم هو أعفهم لساناً، حتى حينما يريد أن يصحح أو يعدل؛ لأننا لا نزعم أن التجمعات أو العناوين الإسلامية أنها مجموعات للكملة والفضلاء، أو أن هذه هي الإسلام، إنما قصاراها أن تكون مثل المذاهب الفقهية، مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرها، اجتهادات معينة يستند أصحابها في الأصل على الشريعة وعلى الكتاب والسنة، ولكنهم يخطئون ويصيبون، والتعصب مردود، كأن تقبل خطأه وصوابه؛ لأنك تحبه، أو أن ترد كل ما عنده؛ لأنك لا تحبه.

المثال الثالث: التعصب للقبيلة.

وهذا أمر عريق عند العرب، كان العربي الأول يقول:

أمرتهم وأمري بمنعرج اللوى     فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى     غوايتهم أو أني غير مهتدي

وهل أنا إلا من غزية إن غـوت     غويت وإن ترشد غزية أرشدِ

(وأربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن.. ) فنحن نجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية.

ليس هناك مشكلة أبداً أن يعرِّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء؛ بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وأن قيامه، وأن ولاءه ومحبته وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب، لكن لو جاء شخص من قبيلة أخرى، وربما يحتفظ بذكريات تاريخية أو قصص من الآباء والأجداد، فإنه يتجافى عنه وقد لا يساعده أو يعينه بل لو استطاع لضره، فهنا تحول الانتساب القبلي إلى نوع من الانفصال والانشقاق داخل المجتمعات الإسلامية.

المثال الرابع: الانتساب لمنطقة أو إقليم، أو شعب من الشعوب، أو جزئية من الجزئيات.

فهذا نجدي، وهذا حجازي، وهذا غربي، وهذا شرقي، وهذا خليجي، وهذا شامي، وهذا مصري، وهذا عراقي، وهذا كذا .. هذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء، ولا يضير أن يقول الإنسان أنه من بلد كذا، لكن إذا تحولت -كما هو الواقع عند كثير من الناس- إلى نوع من العصبية, ونوع من الولاء على هذه النسبة؛ فإن هذا خطأ كبير، وقد تجد أن الكثيرين -مثلاً- إذا التقوا فيما بينهم أصبحوا يتبادلون النكت والطرائف المضحكة الدالة على تنقص الفئة الأخرى، فإذا اجتمعنا وكلنا من قبيلة معينة أو منطقة معينة، أو من جنسية معينة، لم نجد حرجاً أن نستطرد في إصدار الأحكام التعميمية أن أهل الإقليم الفلاني فيهم كذا وكذا، وأن القبيلة الفلانية فيها كذا وكذا، وأن الشعب الفلاني فيه كذا وكذا، ثم هذا يأتي بقصة، وهذا يأتي بنكتة، وهذا يأتي بتجربة مر بها .. وهكذا، حتى تشبعت نفوس الكثيرين منا بأنواع وألوان من الانفصال؛ قضت أو أضعفت من الأخوة الدينية القائمة بين المؤمنين.

ربما يستغل الأعداء هذا الكلام في كثير من الأحيان، كما نلاحظ -على سبيل المثال- أن القوى الغربية، وبالذات القوة الأمريكية المتغطرسة اليوم، التي إذا أردنا أن نسمي الأمور بأسمائها لقلنا إنها تسعى إلى إعادة استعمار العالم بشكل جديد، وإنها تضرب برأي الناس عرض الحائط، وتصر على مقاصدها وعلى اتجاهاتها وعلى نياتها، وإنها لا تبالي أن يموت الناس أو يحيوا، المهم أن تنفذ مآربها وأهدافها..

نلاحظ أنها كثيراً ما تعتمد على إثارة هذه الاختلافات وعلى توظيفها؛ من أجل تحقيق أهدافها ومآربها، وهذا يؤكد علينا أهمية أن نكون يقظين، وأن نحوّل هذا الكلام إلى واقع عملي في تجنب كل الأشياء التي تخدش من صفاء الأخوة الإيمانية.

ما بيننا عربٌ ولا عجمٌ     مهلاً يد التقوى هي العليا

خلوا خيوط العنكبوت لمن     هم كالذباب تطايروا عميا

وطني كبيرٌ لا حدود له     كالشمس تملأ هذه الدنيا

بـأندونسيا فوق إيران     في الهند في روسيا وتركيَّا

آسيا ستصهل فوقها خيلي     وأحطِّم القيد الحديديا

ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً     الشام فيه ووادي النيل سيان

وحيثما ذكر اسم الله في بلدٍ     عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا     بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني

ولي بـطيبة أوطان مجنحةٌ     تسمو بروحي فوق العالم الفاني

وما بريدة مهما لجَّ بي دمها     أدنى إلى القلب من فاس وتطوان

دنياً بناها لنا الهادي فأحكمهـا     أعظم بأحمد من هادٍ ومن باني

كذلك التعصب للشيخ، أو التعصب للمتبوع أو المربي أو الأستاذ.

فإنه ينبغي أن يعتدل الإنسان، وأن يحفظ له قدره دون أن يتعصب له، أو يبالغ في ذلك، أو يتبع أقواله بمفرداتها؛ فإن الاتباع للمنهج لا للأقوال المفردة، فلهذا نقول نحن -مثلاً- عندما نكون أمام قول لـأحمد ، أو الشافعي ، أو مالك ، أو أبي حنيفة، نقول: العبرة بالدليل، والعبرة بالإجماع، فإذا كان قد خالفه من خالفه، أو وجد الدليل فيما يظهر لنا على خلافه، لم نجد حرجاً في رده، فهكذا من عايشناهم وعاشرناهم واقتبسنا منهم، ينبغي أن نطبق معهم هذا.

أيضاً: الانتساب لمذهب من المذاهب الفكرية أو الدعوية -كما أشرنا إليه قبل قليل- فلا ينبغي أن يمتحن الناس في الأسماء والألقاب، وإنما ينبغي أن تكون العبرة بما يقوله الإنسان وما يعمله.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع