صفة الاستواء


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله: وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)[مريم:65]

من أسمائه جل وعلا (السميع البصير)، وكذلك الله تعالى وصف الإنسان بكونه سميعاً بصيراً كما في قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] إلى غير ذلك من الأشياء التي يطول حصرها؛ لكن الفرق بينهما ظاهر لا يحتاج إلى بيان. هذا المعنى الأول في قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:5].

والمعنى الثاني: أن يكون المقصود مسامياً بمعنى "هل تعلم له مسامياً" أي: أحداً يساميه وما معنى المساماة في هذه الحالة؟

مر معنا في صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً.

اللفظ نفسه مثلاً إذا قلنا: فلان يسامي فلاناً، أي: يعادله أو يقاربه أو ينافسه. ورد هذا اللفظ في حديث الإفك من كلام عائشة رضي الله عنها عن زينب أنها هي التي كانت تساميها تقول: [[وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم]] أي: تعادلني أو تقاربني.

فقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:5] أي: معادلاً أو نظيراً أو مشابهاً، والمعنى: لا سمي له سبحانه لا في ذاته، وصفاته، ولا في أسمائه، وأفعاله.

قال المصنف رحمه الله: قال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)[الإخلاص:4]

هذه الآية من سورة الإخلاص، وقد سبق الكلام على هذه السورة كلها في أول الكتاب، وإنما أعاد المصنف ذكر الآية؛ لمناسبة ذكر الأشياء المنفية عن الله سبحانه وتعالى وبعض الآيات قبلها -أيضاً- تدخل في ذلك في قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3] فإنها نفي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] والكفء: هو النظير والشبيه، أي: لا نظير له سبحانه، ولا ند له، ولا مثل له.

قوله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:22]

وهذه أيضاً كالتي قبلها: فالأنداد: جمع ند، والند هو: النظير والشبيه، وقوله سبحانه وتعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً [البقرة:22] هذا يشمل النهي عن كل ألوان الشرك؛ سواء كان شركاً في الربوبية، كأن يدعي أحدٌ أنَّ لأحد شركة مع الله تعالى في الخلق، أي: يخلق مع الله أو يرزق معه، فهذا من الشرك في الربوبية، وهو من اتخاذ الند لله سبحانه وتعالى.

وكذلك: هو نهي عن الشرك في الألوهية؛ بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، فهذا هو التنديد أيضاً، وأعظم وأكثر شرك حصل في بني آدم هو الشرك في الألوهية بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، ومن عبد غير الله فقد اتخذ نداً.

وكذلك: هو نهي عن الشرك في الأسماء والصفات، وهو أيضاً من التنديد؛ ولهذا جاء في المسند وغيره في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت" قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أجعلتني لله نداً؟} إنكاراً له على أنه قرن بين اسمه واسم الله تعالى فقال له: "ما شاء الله وشئت" وكان الأولى أن يقول: ما شاء الله وحده أو نحو ذلك.

فالشرك في الأسماء والصفات بأن يعطي العبد صفة من صفات الله أو اسماً من أسمائه -التي لا تنبغي إلا له- ويعطيها لغيره، أو يشرك مع الله تعالى ولو باللفظ كقوله: "لولا الله وفلان أو ما شاء الله وشئت أو نحن بالله وبك" وما أشبه ذلك مما يسمى "بشرك الألفاظ" فالآية نهي عن ذلك كله فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أي: تعلمون أنه لا يستحق العبادة غيره ولم يكن له كفواً أحد، ولا تعلمون له سمياً، فهو المتفرد في ذاته وأسمائه وصفاته جل وعلا.

قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه) [البقرة:165]

هذه الآية في سورة البقرة، وفيها ينعي الله على المشركين أنهم ينددون، أي: يتخذون أنداداً، أي: يجعلونهم نظراء ومشابهين لله سبحانه وتعالى.

ووجه كونهم اتخذوهم أنداداً بينه وفسره جل وعلا بقوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] لها أكثر من معنى ذكرها المفسرون منها:

أولاً: يحبونهم كحب المؤمنين لله، أي: كما يحب المؤمنون الله.. وهذا المعنى ليس بمستقيم؛ لأنه قال بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] فيكون في هذا تناقض.

إذاً: هذا المعنى ضعيف.

ثانياً: أنهم يحبون آلهتهم كما يحبون الله؛ وهذا فيه دليل على أن المشركين يحبون الله تعالى، ولكنهم -أيضاً- يحبون آلهتهم كما يحبون الله تعالى.

فلذلك اتخذوا آلهتهم أنداداً يحبونهم كما يحبون الله تعالى، ولهذا أنكر عليهم ذلك وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] أي: أصدق في حبهم لله تعالى من هؤلاء المشركين، ومن المعاني الأخرى لهذه الآية:-

ثالثاً: أن يكون المقصود في قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] أي: كالحب الذي يُحَبُّ به الله عز وجل، أي يعطونهم الحب الذي لا ينبغي إلا لله؛ وكأنه يقول: إن المشركين اتخذوا من دون الله آلهة يحبونهم حباً شديداً؛ هو الحب الذي لا ينبغي ولا يصرف إلا لله جل وعلا.

قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)[الإسراء:111]

ففي صدر هذه الآية ذكر الثناء على الله تعالى بالحمد، والحمد: هو الإقرار بالنعم لله عز وجل والثناء عليه بها -كما سبق في أول هذه الدروس في أكثر من موضع- فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وسائر من يتجه إليه الخطاب بأن يقول الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، فمن صفاته أنه لم يتخذ ولداً وذلك لأن الكون كله ومن فيه ملكه، وفي قبضته وأمره، فليس له منهم ولد ولا والد ولا زوجة ولا قريب من هذا الوجه؛ وإنما كلهم عبيده، والقريب منهم إليه هو من تقرب إليه بطاعته وعبادته وحبه.

فنفى سبحانه وتعالى ما ادعاه بعض المشركين أن لله ولداً، كما زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وكما زعمت النصارى أن المسيح ابن الله، وكما زعمت العرب أن الملائكة بنات الله، كما ادعوا أن لله سبحانه وتعالى زوجة من الجن تلد له الملائكة -كما في أساطير العرب والجاهلين- فنفى ذلك كله بقوله: وَقُلِ الْحمد لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء:111]؛ وذلك لأن الولد وإن كان بالنسبة للبشر كمال؛ إلا أنه بالنسبة للخالق نقص.

فبالنسبة للبشر: فإن من يكون له ولد أكمل عندهم من الذي يكون عقيماً لا ولد له، هذا بالنسبة للناس؛ وذلك لأن حصول الولد للإنسان، إنما هو لبقاء ذكره في الدنيا وعدم انقطاعه، ووراثته من بعده، ومساعدته على أموره إلى غير ذلك من المقاصد المنتفية في حق الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى هو الذي يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهو الغني الغنى المطلق الذي لا يحتاج معه إلى شيء سبحانه؛ بل كل شيء مفتقرٌ ومحتاج إليه. فلهذا مجد الله نفسه بأنه لم يتخذ ولداً.

وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء:111]:

أيضاً نفى هنا ادعاء المشركين بأن لله شريك في الملك، إذ يدل صنيعهم في عبادتهم لغير الله تعالى؛ على أنهم يظنون أن لله تعالى شريكاً في ملكه يستحق العبادة معه، وقد نفى الله تعالى هذا في مواضع كثيرة.. نفى وجود شركة في ملكه -جل وعلا- على الإطلاق، قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23] فنفى وجود الشرك له سبحانه وتعالى في الكون، أو أنهم يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

أما الملك البشري: فهو ملك مؤقت، وهو من الله تعالى وإليه، فلست خالقاً لهذا الشيء، ولا مالكه ولا متصرفاً به على الحقيقة؛ حتى جسدك إنما المتصرف فيه حقيقةً هو الله عز وجل.

وقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء:111]:

أي ليس لله تعالى ولي يتعزز به من ذل؛ لأنه هو العزيز الذي من أراد العزة؛ التجأ إليه ولاذ به فعز، ومن تخلى عنه ذل، ولو كانت مقاليد الدنيا كلها بيده. فليس لله تعالى ولي من الذل.. له ولي؛ ولكن ليس من الذل، أي: ليست ولايته جل وعلا لمن والاه؛ يتعزز به من ذل، أو يتقوى به من ضعف، أو يتكثر به من قلة.

كيف والخلق كلهم طوع أمره! كيف وهو إذا أراد شيئاً قال له: "كن فيكون" فليس له ولي من الذل يتقوى به ويتعزز به من ذل، إنما له ولي برحمته لعباده؛ حيث يوالي منهم من يستحق الولاية، كما قال عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257] وقال سبحانه: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} تبعاً لقول الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11] فقال صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} والولاية في أصل اللغة العربية، تعني: القرب.. تقول: فلان ولي فلان، يعني: قريبه الذي يليه، ومنه ابن العم يسمي ولي، وهكذا الزوج، والسيد، والقريب.. والجار.. ومنه: المطر، إذا نـزل المطر مرة تلو الأخرى متتابعاً يسمى "الولي" يقال: قطر الولي، أي: المطر المتتابع الذي ينـزل ثم ينـزل بعد ذلك مباشرة ولا يبطئ، فهذا يسمى ولياً؛ لأن بعضه يلي بعض، أي: يأتي بعده مباشرة.

والله عز وجل من أسمائه "الولي" وهو ولي للمؤمنين، ولي لهم، أي: أن المؤمنين في حفظ الله تعالى، فهو يحفظهم ويرعاهم ويكلؤهم، ويعينهم، ويعاقب من أراد بهم سوءاً أو شراً من عدوهم -عاجلاً أم آجلاً- ويحقق لهم سؤالهم.. وفي الآخرة أيضاً يكون الله سبحانه وتعالى وليهم بكل خير؛ فيخفف عنهم الحساب، ويجعلهم في الجنة، ويغدق عليهم النعم، فهذا كله من ولايته سبحانه لعباده المؤمنين.

وكذلك العبد المؤمن: هو ولي لله سبحانه كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] وأولياء الله عز وجل: هم المتقربون إليه بعبادته وطاعته، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي في صحيح البخاري : {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: عبداً ولياً مخلصاً تعاديه وتحاربه، فمعناه: أن الله سبحانه وتعالى أعلن عليك الحرب أيضاً.

ولك أن تتصور حال عبد مخلوق محتاج إلى الله تعالى في كل نفس وفي كل حركة، وفي كل مكان، وفي كل نبضة قلب، وفي كل دفقه دم؛ ومع ذلك يعلن ربنا عليه الحرب، كيف يكون حال هذا الإنسان والعياذ بالله لا تسأل عن حاله: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: أعلنت عليه الحرب، لو علم أحدنا أن مسئولاً قد أبغضه، أو كرهه، أو حاربه؛ لربما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ويقول: أين أفر؟

فكيف إذا علم أن دولة من الدول تحاربه! فكيف إذا علم أن الله جل وعلا يحاربه؟!

ولهذا الإنسان يحذر ويباعد -دائماً وأبداً- أن يعادي أهل الخير، أو يبغضهم أو يسيء إليهم أو يضرهم بشيء قل أو كثر، لماذا؟

لأنك لا تدرى! فيمكن أن يكون هذا ولياً وأنت لا تدري! لأن الولاية لا يوجد لها لافتة مكتوبة على جبين الإنسان.. قد يكون الإنسان مقصراً في أعماله الصالحة؛ ومع ذلك فهو في حقيقته ولي لله سبحانه وتعالى، وقد يكون الإنسان زاهداً عابداً، ولكنه ليس بولي؛ لأن قلبه فيه مرض، أو لأنه مُدِلٌّ بعمله معجب بطاعته.. فالولاية سر، فلا أحد يعلم أن هذا ولي لله أو ليس بولي كذلك، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى الولاية؛ فهو كاذب.

فلو أن واحداً قال: أنا ولي، نقول له: أنت كاذب، لو كنت ولياً لما ادعيت هذا الأمر! لكن الولاية:- سر يعلمها الله سبحانه وتعالى، فكل مؤمن.. تَجَنَّبْ أن تعاديه أو تؤذيه بشيء -حتى لو كان شكلياً- خشية أن يعلن الله تعالى الحرب عليك، وقد جاء في حديث ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وأظنه في الطبراني: يقول الله سبحانه وتعالى: {إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب} إني لأثأر أي: أغضب وأنتصر وأنتقم لأوليائي، كما يثأر الليث الحرب، أي: كالأسد الجسور الذي ثار وغضب؛ فزمجر وهجم على عدوه، وهذا الحديث ولو لم يصح، فإن معناه صحيح من حيث: أن الله تعالى يغضب لأوليائه ويثأر لهم من عدوهم.

إذاً: فإن الله تعالى ولي للمؤمنين في الحفظ والنصر والتوفيق والتسديد والدفع، والمؤمنون الصادقون أولياء لله تعالى على الحقيقة لا على الادعاء، وإنما المنفي في الآية هو: الولي من الذل وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء:111] لكن له وليٌ يعبده ويدعوه، والله سبحانه تعالى يحفظه وينصره.

وقوله: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111]:

التكبير: هو تعظيم الله تعالى بالقول والقلب والفعل. فأما التعظيم بالقلب: فأن يكون الله تعالى في قلبك أكبر من كل كبير، فتعظم الله تعالى وإذا ذكرت الله تعالى؛ اطمأن قلبك، فتحبه وتغضب لانتهاك حرماته. وأما التكبير باللسان: فهو أن تقول: (الله أكبر).

وأما التكبير بالفعل: فهي العبادات التي يكون فيها التعظيم لله عز وجل؛ كالسجود -مثلاً- والركوع. فإن هذه الأشياء فيها معنى التكبير والتعظيم لله عز وجل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111].

قوله تعالى: ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[التغابن:1]

وهذه الآية فيها تسبيحه جل وعلا، والتسبيح -في أصل معناه-: هو التنـزيه، فقوله: (يسبح لله) كقولك: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحان ربي الأعلى، أي: أنك تنـزه الله تعالى وتطهره عن كل ما لا يليق بجلاله مما ادعاه عليه المشركون، كادعائهم أن له ولداً أو زوجة، أو أن له ولياً من الذل، أو أن له شريكاً في الملك أو أن فيه نقصاً بوجه من الوجوه... فأنت تقول (سبحان الله) أي: أنك تعترف بتنـزيه الله تعالى، أو أنك لا تؤمن إلا بالكمال المطلق لله جل وعلا؛ وتنفي عنه كل نقص.

ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يسبح له كل شيء كما قال الله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن:1] كل شيء؛ من الجمادات والحيوانات، والرطب واليابس، والصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل؛ كلها تسبح.. فهذا الكون كله مهرجان يضج بالتسبيح لرب العالمين، ولو قدر لأذن أن تسمع لما سمعت إلا زجلاً لتعظيم ذي الجلال في كل ما تقع عليه العين في هذا الكون.. فالله تعالى يسبحه كل شيء ويعظمه كل شيء، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44] وقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] إلا بعض عصاة بنى آدم، فإنهم تمردوا وأبوا أن يعظموا الجلال والإكرام سبحانه.

والتسبيح المذكور في هذه الآيات ونحوها على الراجح أنه تسبيح حقيقي، أي: أنها تسبح حقيقة لله عز وجل.. أما كيف تسبح، فهذا أمر لا ندري؛ لأن الله تعالى ما أطلعنا عليه، ولا كشف لنا من أمره؛ لكننا آمنا بما أخبرنا الله به من أن كل شيء في الكون يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، دون أن يفقه الناس تسبيحه أو يعلموا كيف يسبح؛ وجزء من ذلك بينه الله تعالى، أو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد ذكر الله تعالى عن داود عليه السلام إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19] فكانت الجبال والطيور تسبِّح مع داود، فيسمع تسبيحها لله عز وجل. ومنه حركة الكون: فإنها جزء من التسبيح والطاعة لله عز وجل.. فطلوع الشمس وحركتها وغروبها، واختلاف مراحل القمر؛ كل ذلك من التسبيح والطاعة لله عز وجل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما قال: {أتدري أين تذهب هذه الشمس؟

فقال: الله ورسوله أعلم! قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن في الطلوع، فيؤذن لها لا ينكر الناس من أمرها شيئاً، ويوشك أن تستأذن ولا يؤذن لها، ويقال لها: اطلعي من حيث غربت} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فهذا جزء من سجودها وتسبيحها وطاعتها لله عز وجل.

فهاهنا قال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن:1]

كل شيء! حتى ذرات التراب، وقطرات الماء، وأوراق الأشجار وحتى الدواب الصغيرة، كلها تسبح الله.. ولهذا من بديع ما ذكره لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء السابقين: {أن نبياً نام تحت شجرة فقرصته نملة، فقام فأحرق بيت النمل كله، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أمن أجل نملة قرصتك؛ أهلكت أمة من الأمم تسبح الله تعالى} أي: أن المسألة ليست هينة! هذه القرية من النمل التي أحرقتها؛ قرية يسبحون الله.. كيف تهلكهم بدون سبب ولا ذنب؟

{هلا نملة واحدة؟}

لو قتلت الواحدة التي قرصتك وتركت الباقي! فعاتبه الله عز وجل على ذلك. فانظر كيف يربي الإسلام في نفس المؤمن النظر إلى هذا الكون، والتذكر بأن الكون كله يسبح لله عز وجل.. إذا كان الكفر يملك قوة وإمكانية وتقدماً في العلم والصناعة والحضارة والماديات وفي غيرها، فتذكر أن هذا الكون كله بما فيه ومن فيه -حتى مصنوعاتهم وحتى إمكانياتهم- فهي تسبح لله عز وجل وتنتظر أمره؛ فيكون عند المؤمن حينئذ من عظيم الثقة بالله والتوكل عليه ما ليس عند غيره.

قوله عز وجل: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ )[الفرقان:1]

معنى تبارك: أنه من البركة أي: أنه تبارك في ذاته وبارك غيره، من شاء من خلقه، كما قال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] وقال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سبأ:18] وقال: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73] إلى غير ذلك، فالله تعالى تبارك في ذاته وبارك غيره ممن شاء من خلقه، من بلاد وأرض وأناس وأعمال، فهذا معنى قوله: (تبارك) ولهذا لا تطلق على غيره سبحانه؛ فلا يجوز أن تقول ‎لإنسان: تبارك فلان.

تَبَارَكَ الَّذِي نـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1] والفرقان: هو القرآن، وإنما سمي فرقاناً؛ لأنه يفرق بين الحق وبين الباطل.

وقوله: تبارك الذي نـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].

وصف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف الصفات، فأشرف الصفات أن تصدق عبودية العبد لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذكر الله تعالى العبودية لنبيه عليه الصلاة والسلام في مواضع التنـزيل، كما في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] وقال: تَبَارَكَ الَّذِي نـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1].

كما ذكر العبودية في مقام الدعاء، قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] فالمقصود أن العبودية أشرف صفة يوصف بها إنسان؛ ولهذا وصف الله تعالى بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك هذا المعنى القاضي عياض رحمه الله! فكان يقول:

ومما زادني شرفاً وتيهاً     وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيرت أحمد لي نبياً

وقوله: لِيَكُونَ [الفرقان:1] هذا القرآن لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، والنذارة: هي الإخبار مع التحذير؛ بخلاف البشارة: فهي الإخبار بما يسر.. فقوله: نذيراً أي: محذراً لهم عقوبة المعصية والمخالفة.. فهذا معنى النذارة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث مبشراً ونذيرا، فالنذارة تكون أولى للعاصين، كما في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [الكهف:1-2] فذكر النذارة للكافرين، وذكر البشارة للمؤمنين.

قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2].

أي: أنه أحسن كل شيء خلقه فخلقه بقدر، وهذا له أكثر من معنى:

المعنى الأول: أن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى فهو مكتوب مقدر عنده في اللوح المحفوظ، كما هو معروف في مراتب القضاء والقدر.. هذا من معاني قوله: فَقَدَّرَه تَقْدِيراً [الفرقان:2].

المعنى الثاني: أن معنى قوله (قدره) أي: أحكمه وأتقنه وأحسنه، فجعله ملائماً مناسباً، كما في قوله: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3] أي: هل ترى في السماء من شقوق؟

من صدوع؟

من نقص؟

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4] وقال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] وقال: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، كما قال عن نفسه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7] فهذا هو المعنى الثاني من معاني قوله: فَقَدَّرَه تَقْدِيراً [الفرقان:2].

قوله تعالى: ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ )[المؤمنون:91]

المقصود في هذه الآية، هو ذكر التسبيح في قوله سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]؛ لأن فيها تنـزيه الله عز وجل عما يصفه به المشركون؛ ولكن الآية بدأت بإثبات دليل من أدلة الألوهية والربوبية في قوله سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91] ففي المقطع الأول من الآية فيه نفي أن يكون لله ولد لا من الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من سائر البشر! وقوله (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ).. أي نفي أن يكون هناك إله مع الله والمعنى الإجمالي من الآية أنه ليس له شريك في الخلق ولا في الألوهية.

وقوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91].

أي: أنه لو كان هناك أحد شارك الله تعالى في خلق هذا الكون وإيجاده؛ لكان الأمر لا يخلو من حالتين: إما أن يكون هذا الشريك الذي خلق مع الله شيئاً يكون مساوياً لله تعالى وفي مقامه، فحينئذٍ كل يستبد بما خلق، ويتفرد في خلقه، ومعنى ذلك أن الكون سوف يكون مدبراً من آلهة عديدة، وهذا قطعاً خلاف ما يشهد به الواقع؛ لأن الواقع يشهد بأن الكون كله لخالق واحد، كم له من شمس؟

كم له من سماء؟

نظام الكون واحد، حتى في دراسات العلماء لنظام الكون تجد غاية العجب! فيما يسمونه: بالذرات وتكوين الذرة وما أشبه ذلك، والتي هي أصل ويقال: إنها أقل جوهر للأشياء الموجودة.. فالمقصود: أن نظام الكون واحد، فمعناه: أن خالق الكون ومدبره واحد، ولو كان للكون آلهة مختلفون؛ فما الذي كان سيحدث؟

كل إله منهم سيذهب بما خلق، أي سينفرد بخلقه، فيتصرف فيه تصرفاً آخر، مثلما يفعل ملوك الدنيا، مثلاً، فإن كل واحد منهم إذا انفرد في ملكه؛ تصرف فيه بغير ما يتصرف فيه الآخر، فتجد هذا له طريقة واحدة، وذاك له طريقه أخرى، والثالث له طريقة ثالثة، ولا يتفقون على طريقة واحدة أبداً؛ ولهذا قال: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91] أي: لو كان مع الله إلها آخر؛ لذهب هذا الإله الآخر بما خلق، واستقل به!

وقوله تعالى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91].

أي: حاول أحدهم أن يتغلب على الآخر -إن استطاع- كما يفعل ملوك الدنيا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].

إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91] أي: ينـزه الله تعالى عما يصف به المشركون من ادعاء الولد أو الشريك أو الصاحبة، وقد نـزه الله تعالى نفسه عما وصفه به المشركون في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم.

قوله تعالى: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:92]:

لأن من ادعى أن لله تعالى ولداً؛ فقد أشرك مع الله تعالى غيره قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81] فنفى الله تعالى عن نفسه الولد والشريك، ونـزه نفسه عما وصفه به المشركون والضالون.

قوله تعالى: ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:74]

وهذا أيضاً نهي للناس أن يضربوا لله تعالى الأمثال. كأن يشبهوه بخلقه أو يقيسوه بخلقه، فإن الله تعالى لا يقاس بخلقه، ولا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه؛ فلهذا لا يقاس الله تعالى بخلقه، ولا نقول إن هذا الشيء حسن في حق الناس فيكون حسناً في حق الله، هذا ليس بلازم، إلا ما كان كمالاً من كل وجه، فإن الخالق أولى به، وما كان نقصاً؛ فإن الخالق أولى بالتنـزيه عنه.. فهذا قياس الأولى.

فمثلاً: العلم في الإنسان هل هو نقص أم كمال؟ كمال، وهل في العلم نقص بوجه من الوجوه؟

ليس فيه نقص فنقول: الله سبحانه وتعالى أولى بالعلم أيضاً، مع أن إثبات العلم لله سبحانه ثابت في النصوص القرآنية أيضاً. ومثله: القدرة، فكلما كان الإنسان أقدر؛ كان هذا أكمل.. فكذلك الله عز وجل.

أما ضرب الأمثال لله تعالى، وقياسه بخلقه؛ فإن هذا لا يجوز بحال من الأحوال قال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74].

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )[الأعراف:33]

بين أصول المحرمات في هذه الآية قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ [الأعراف:33] الفواحش: جمع فاحشة، وهى: من فحش الشيء إذا عظم وكثر، فالفاحشة هي: الإثم العظيم؛ وغالب ما تطلق على الفواحش الشهوانية التي فيها حدود ربانية، كالزنا واللواط ونحوهما فإنها من الفواحش، فهذا من أصول المعاصي والمحرمات.

وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33]، أما الظاهر: فكما ذكرت، وأما الباطن: كالفواحش المتعلقة بالقلب، وهذا قد يخفى على كثير من الخلق، فهي موجودة.

فالحسد -مثلاً- والحقد، وبغض المؤمنين من الفواحش القلبية، والعجب والغرور والكبر، من الفواحش القلبية، وهكذا...: حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33].

قوله: (والإثم) قيل: إن المقصود بها الخمر، فإن الخمر جماع الإثم، وكانت العرب تسميه: الإثم كما قال شاعرهم:

سقوني الإثم     ثم تكنفوني

يعني سقوه الخمر ثم أحاطوا به، فالعرب كانت تسمي الخمر إثماً، وقيل: إن المقصود من الإثم: هو كل معصية لله عز وجل، فلهذا تكون أعم من الفواحش.

قوله تعالى: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] فالبغي: هو الاعتداء على حقوق الناس، وهو لا يكون بحق؛ وإنما للتنفير والتقبيح منه، قال: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] أي: أن تبغي على الناس، كأن تبغي عليهم في أموالهم بغير حق فتظلمهم.. أو في أعراضهم؛ كأن تتكلم في أعراضهم بغير حق وتسبهم وتؤذيهم سراً أو علانية.

والبغي: من الذنوب التي يعجل الله سبحانه وتعالى عقوبتها في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: {ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا مع ما يدخره لصاحبه يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم} فالبغي مما حرمه الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:23] أي: بغي الناس بعضهم على بعض.

وقوله: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33]

فالله تعالى ما أنـزل لأحد سلطاناً أن يشرك معه، إنما أنـزل سلطاناً بالتوحيد وإفراده بالعبادة.

وقوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]

أي: أن تتكلموا في دين الله تعالى ما لا تعلمون -ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه من ذلك- فإن في هذه الآية وعيد شديد على من تكلم في الشرع بما لا يعلم، حتى قرنه سبحانه مع الشرك: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فكثير من الجهلة والعوام تجد الفتوى على طرف لسانه: حرام.. حلال! وكذلك كثير من السفهاء الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم، بمجرد أن تخبرهم عن منكر وقع فيه، يقول: لا شيء ولا حرج في ذلك! لم لا شيء فيه؟

هل أخبرك الله بهذا؟

هل عندك آية أو حديث أو كلام لأهل العلم؟

يقول: لا. لكن لو كان هناك شيء، لقبل في فلان وفلان، قال تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه

من أسمائه جل وعلا (السميع البصير)، وكذلك الله تعالى وصف الإنسان بكونه سميعاً بصيراً كما في قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] إلى غير ذلك من الأشياء التي يطول حصرها؛ لكن الفرق بينهما ظاهر لا يحتاج إلى بيان. هذا المعنى الأول في قوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:5].

والمعنى الثاني: أن يكون المقصود مسامياً بمعنى "هل تعلم له مسامياً" أي: أحداً يساميه وما معنى المساماة في هذه الحالة؟

مر معنا في صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً.

اللفظ نفسه مثلاً إذا قلنا: فلان يسامي فلاناً، أي: يعادله أو يقاربه أو ينافسه. ورد هذا اللفظ في حديث الإفك من كلام عائشة رضي الله عنها عن زينب أنها هي التي كانت تساميها تقول: [[وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم]] أي: تعادلني أو تقاربني.

فقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:5] أي: معادلاً أو نظيراً أو مشابهاً، والمعنى: لا سمي له سبحانه لا في ذاته، وصفاته، ولا في أسمائه، وأفعاله.

هذه الآية من سورة الإخلاص، وقد سبق الكلام على هذه السورة كلها في أول الكتاب، وإنما أعاد المصنف ذكر الآية؛ لمناسبة ذكر الأشياء المنفية عن الله سبحانه وتعالى وبعض الآيات قبلها -أيضاً- تدخل في ذلك في قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3] فإنها نفي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] والكفء: هو النظير والشبيه، أي: لا نظير له سبحانه، ولا ند له، ولا مثل له.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع