شعائر ومناسبات


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعــد:

أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحمد الله تعالى أن جمعنا في هذا اللقاء المتجدد المبارك -إن شاء الله تعالى- بعد انقطاع دام أسابيع بسبب ظروف الامتحان.

في هذه الليلة -ليلة الإثنين 25 من شهر ذي القعدة- ينعقد هذا المجلس، وهو المجلس الثاني عشر من سلسلة الدروس العلمية العامة، وكان الاتفاق أن يكون موضوع الحديث في هذه الليلة عن (الطرائف والنكت) وأحكامها؛ ولكن الإخوة في مكتب الإفتاء رغبوا إلي أن أغير هذا الموضوع، أو أن يؤجل بسبب مراعاة الظرف الذي نعيشه الآن، وكان اقتراحهم حسناً وجيداً وفي مكانه، ولذلك فإن موضوع هذه الليلة سيكون بعنوان: "شعائر ومناسبات" أما موضوع (الطرائف والنكت) وما يتعلق بها؛ فسأخصص له جلسة قادمة إن شاء الله تعالى.

إخوتي الكرام: وقفاتنا في هذه الليلة ثلاث:-

أولاً: وقفة تتعلق بدخول عشر ذي الحجة.

وهذه الأيام العشر لها فضل عظيم، فهي من مواسم الطاعات والخيرات والقربات، بل إنها أفضل الأيام عند الله تعالى، حتى أقسم الله تبارك وتعالى بها فقال عز وجل:وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] قال ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وجماعة من السلف: [[المقصود بالليالي العشر هي عشر ذي الحجة]] ومن هنا قال كثير من أهل العلم: إن عشر ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر من رمضان. وقد ثبت في هذا نصوص عديدة -سوف يأتي ذكر شيء منها- تدل على فضل عشر ذي الحجة، وأنها أفضل من العشر الأواخر من رمضان، وإن كان بعض أهل العلم -كـابن القيم وغيره- توسطوا في ذلك وقالوا: أيام عشر ذي الحجة أفضل، وليالي عشر رمضان أفضل، وذلك لأن في ليالي رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، وفي عشر ذي الحجة يوم عرفة ويوم النحر، وهي من أفضل الأيام عند الله تبارك وتعالى وهذا تفصيل حسن لا بأس به.

أسباب فضيلة عشر من ذي الحجة

ومن أسباب فضيلة هذه العشر من ذي الحجة: أن فيها يوم عرفة، وهو يوم ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه، وفيه تكفير للذنوب، ومغفرة للخطايا، وستر للعيوب، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من يوم أكثر أن يعتق الله عبداً من النار من يوم عرفة، وإن الله تعالى ليدنو ثم يباهي بهم -أي بعبيده الحجاج -الملائكة يقول: ما أراد هؤلاء؟} فهذا يوم عرفة، وسوف يأتي فضل صيام هذا اليوم.

كذلك من أسباب فضيلة العشر: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر، وهو يوم العيد، يأتي العيد وأول أيامه اليوم العاشر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة، فوجد للأنصار يومين يلعبون بهما؛ قال: {إن الله تعالى قد أبدلكما بهما يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، وهما عيدنا أهل الإسلام} فيوم عيد الأضحى هو من الأيام التي تعتبر شعائر يفرح بها المسلمون ويسرون، وهو يوم الحج الأكبر، كما قال الله عز وجل: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3] فأذَّن المسلمون بهذا في يوم العيد، يوم الحج الأكبر يوم النحر، وهو أفضل الأيام عند الله تعالى على الإطلاق، كما في السنن من حديث عبد الله بن قرط الثمالي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الأيام عند الله يوم النحر} وهذا الحديث سنده صحيح، ولذلك فلا غرابة أن تكون أيام العشر هي أفضل الأيام، حيث احتوت على هذين اليومين الفاضلين العظيمين عند الله عز وجل، يوم عرفة، ويوم النحر، يوم الحج الأكبر.

وهي تحتوي على أيام العيد التي تشمل يوم العيد، وما بعده من أيام التشريق، ولذلك جاء في السنن من حديث عقبة بن عامررضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب} فأما يوم عرفة فهو عيد من جهات عديدة، ولذلك جاء في الحديث الذي في صحيح البخاري: أن يهودياً قال للمسلمين: لو علينا معشر يهود نـزلت هذه الآية، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، وفي رواية: عيدنا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فقال عمر رضي الله عنه: [[والله إني لأعلم في أي مكان نـزلت، وفي أي يوم نـزلت، نـزلت في يوم جمعة في يوم عرفة]] وجاء في رواية عند أصحاب السنن: [[في يوم عيد]] فعرفة عيد؛ باعتباره مجاوراً ليوم العيد وسابقاً ومقدمة له، وهو يوم سرور للمؤمنين لكثرة تكفير الخطايا، وتجاوز الله تبارك وتعالى عن عباده، حيث إنه يدنو، وجاء في رواية: {أنه ينـزل إلى السماء الدنيا، ويباهي الملائكة بعباده فيقول: ما أراد عبادي؟ هؤلاء أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم} وجاء في رواية: {ووهبت مسيئهم لمحسنهم} ففي هذه الأيام العشر تتحقق هذه الفضائل الكثيرة، ولذلك كانت هذه الأيام العشر أفضل الأيام عند الله تعالى كما سبق.

الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة

أما النقطة الثانية فهي الأعمال المشروعة في تلك العشر: وفي العشر أعمال كثيرة مشروعة أذكر بعضاً منها، فمن هذه الأعمال المشروعة الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28] قال ابن عباس رضي الله عنه: [[الأيام المعلومات أيام العشر]] والأثر رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس، الأيام المعلومات أيام العشر أي عشرة ذي الحجة.

فقوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28] هذا يشمل عدة أمور منها: ذكر الله تعالى على الذبائح من الأضاحي والهدي، فإنه يجب أن يسمي العبد ربه عليها، فيقول: باسم الله والله أكبر؛ يقول: باسم الله وجوباً، ويكبر استحباباً، وهذا ذكر، ولذلك قال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28] فهذا من الذكر المشروع، ويشمل الذكر غير هذا من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، وغير ذلك من الدعاء وقراءة القرآن وغيرها، فكل ذلك مشروع في هذه العشر وفي غيرها، ويتأكد في العشر.

ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التحميد والتهليل والتكبير} قال المنذري: سنده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. والواقع أن في الحديث ضعفاً؛ فإن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو إن خرج له مسلم إلا أنه ضعيف وفيه مقال، وكذلك الحديث فيه شيء من الاضطراب، فقد رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، من حديث يزيد عن مجاهد عن ابن عباس، وقد وهم من اعتبر حديث ابن عباس شاهداً لحديث ابن عمر، بل هو مما يضعفه؛ لأن مدار الحديث على يزيد بن أبي زياد عن مجاهد، قال مرة: عن ابن عمر، وقال مرة: عن ابن عباس، فدل على أنه لم يضبط هذا الحديث. فالحديث ضعيف، لكن له شواهد كثيرة عن ابن عباس في صحيح البخاري، وعن جابر عند أبي يعلى والبزار، وسوف يأتي الإشارة إليهما بعد قليل.

أ/ أنواع التكبير:

من الأذكار الذي تستحب في العشر: التكبير (الله أكبر)، وما أشبه ذلك من صيغ التكبير وهي كثيرة، فيستحب للعبد أن يكبر ويكثر من التكبير في أيام العشر، والتكبير في العشر نوعان:-

النوع الأول: تكبير مطلق يشرع طيلة أيام العشر في كل وقت، ليلاً ونهاراً، في المنـزل وفي السوق وفي المسجد، وفي كل مكان، فيشرع للمسلمين أن يكبروا ويرفعوا أصواتهم بالتكبير، ولهذا قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: [[كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وكان عمر رضي الله عنه يكبر بـمنى في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيكبر أهل منى حتى ترتج منى تكبيراً]].

ففعل أبي هريرة وابن عمر وعمر؛ يدل على مشروعية التكبير في أيام العشر في كل وقت، ويدل أيضاً على مشروعية رفع الصوت بهذا التكبير، ولكن ليس على سبيل أن يكون التكبير بصوت واحد كما يفعله كثير من الناس، حيث يكبرون بصوت واحد تكبيراً جماعياً وبلحن واحد، هذا غير مشروع، إنما يكبر كل إنسان بمفرده، وتختلط الأصوات كما تختلط بقراءة القرآن في المساجد، وكما تختلط بالأذكار في أدبار الصلوات، إلى غير ذلك، فهذا تكبير مطلق.

النوع الثاني من التكبير:هو التكبير المقيد؛ وهو التكبير في أدبار الصلوات المكتوبات، أن يكبر الناس عقب كل صلاة مكتوبة، فيقولون: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، إلى غير ذلك من صيغ التكبير، وهذا التكبير المقيد لم يثبت فيه حديث صحيح، جاء فيه حديث عند الدارقطني لكن سنده ضعيف جداً، وهو حديث منكر، لكن قال الإمام الحاكم: ثبت التكبير المقيد عن عمر وابن عمر وابن عباس وابن مسعود صح ذلك عنهم. وجاء عند ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه [[أنه كان يكبر بعد الفجر من يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق ]] وسند هذا الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صحيح، وكذلك روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح، عن أبي الأسود [[: أن ابن مسعود كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر يوم النحر، يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ]] فابن مسعود كان يكبر إلى عصر يوم النحر، أما علي فإلى عصر آخر يوم من أيام التشريق.

وسند الأثرين عن علي وابن مسعود عند ابن أبي شيبة صحيح، وجاء هذا عن جماعة آخرين من الصحابة، مما يدل على أن هذا الأمر مشهور مشروع عندهم، فإذا انضم إلى ذلك ما هو معروف من ورود أحاديث عديدة في مشروعية التكبير في أدبار الصلوات، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [[كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته]] وفي لفظ: [[ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] علم أن التكبير مشروع في أدبار الصلوات، خاصة في هذه الأيام المحددة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أو إلى عصر يوم النحر. كل ذلك حسن والأمر فيه واسع، والتكبير ذكر وما دام أنه قد ثبت عن بعض الصحابة، فلا حرج على الإنسان أن يلتزم بهذا التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبات، فهذا من الذكر الذي يستحب للإنسان أن يقوله.

ب/ صفة التكبير:

أما صفة التكبير وكيف يكبر الإنسان: فمما ثبت عن ابن مسعود كما سبق: [[الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] وقال الإمام الشافعي: "إن زاد على هذا قوله: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ كان حسناً". هذا كلام الإمام الشافعي رحمه الله كما نقله عنه الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"، وإن زاد في ذلك أو اقتصر على أن يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فكل ذلك حسن ولا بأس به، فهذا الذكر من العمل المشروع في أيام العشر، وهو التكبير والذكر لله تبارك وتعالى، ومن ذلك المبادرة إلى الصلوات، وكثرة قراءة القرآن.

العمل الصالح إجمالاً

أما العمل الثاني المشروع فهو: العمل الصالح إجمالاً. وهذا ثبت في حديث ابن عباس، كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء} وقد جاء عن جابر رضي الله عنه ما يشهد لهذا الحديث، فعند أبي يعلى والبزار بسند صحيح عن جابر نحو حديث ابن عباس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه {لا يعادل العمل الصالح في العشر إلا رجل خرج بنفسه وماله في الجهاد، فخر صريعاً على وجهه في المعركة} فهذا الذي يعدل العمل الصالح في أيام العشر.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم:{العمل الصالح } يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فإن العمل الصالح هو ما كان خالصاً صواباً كما هو معروف، فما كان من الأعمال التي أمر الله تعالى بها في كتابه، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، من قول أو فعل أو اعتقاد؛ فهو من الأعمال الصالحة المحبوبة إلى الله تعالى في كل وقت، ويتأكد استحبابها في هذه العشر، فيدخل في ذلك الذكر كما سبق، ويدخل فيه التكبير مطلقاً ومقيداً، ويدخل فيه قراءة القرآن، ويدخل فيه الصيام.

أ/ الصيام:

أما صيام يوم عرفة فهو مستحب لغير الحاج، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر:{أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده} يكفر سنتين: السنة الماضية والسنة الآتية، هذا صيام يوم عرفة لغير الحاج، وهذا فضل عظيم لا أعلم أنه ثبت ليوم من الأيام التي يستحب صيامها إلا يوم عرفة؛ أنه يكفر سنة قبله وسنة بعده.

أما الحاج فلا يستحب له صيام هذا اليوم؛ لما ثبت في الصحيح: {أن الناس تماروا هل صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أم كان غير صائم؟ فبعثت أم الفضل إليه بلبن وهو على راحلته فشربه النبي صلى الله عليه وسلم }.

وهل يشرع صيام أيام العشر كلها؟

هذا فيه اختلاف، والأقرب أنه يشرع للإنسان صيام أيام العشر كلها؛ وذلك للحديث السابق: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه العشر} والصيام لا شك أنه من العمل الصالح. ولا يعكر على ذلك ما ورد من النهي عن سرد الصوم، فإن المنهي عنه: أن يسرد الإنسان الصوم طيلة عمره، أما أن يصوم لمناسبات معينة فلا حرج في ذلك، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه صام شعبان أكثره بل كله، ففي بعض السنين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله، وكذلك أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، إذاً كون الإنسان يسرد صيام أيام العشر هذا مشروع ومستحب، وقد جاء في ذلك حديث عن حفصة، أو عن بعض أمهات المؤمنين عند أصحاب السنن، لكنه حديث فيه ضعف واضطراب فلا يحتج به.

أما ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: [[ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط]] فهذا لا يشكل، والجواب عن هذا الحديث من وجهين:

الوجه الأول أن يقال: إن عدم معرفة عائشة رضي الله عنها بصيام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يلزم منه ألا يكون صام، فإنه قد يخفى على الرجل أو المرأة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعض سنته فلا يعلمها، كما نقل عن جماعه منهم عائشة أنها لم تكن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، إلى غير ذلك من الأعمال وكان يفعلها، فلا غرابه أن ينكر الصحابي فعلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويثبته آخرون، وإنما أنكر هذا الصحابي أن يكون بلغه ذلك أو اطلع عليه، وعدم علمه بالشيء ليس دليلاً على عدم حصوله؛ بمعنى أنه لا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر أو بعضها، ولم تطلع عائشة رضي الله عنها على ذلك؛ لسبب من الأسباب.

الجواب الثاني أن يقال -وهو في نظري أقوى-: إن مشروعية صيام أيام العشر تثبت ولو لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن السنة تثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما تثبت بفعله، وكما تثبت بإقراره صلى الله عليه وسلم فإن ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو إقرار كله سنة، ولا يلزم أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن كلها، فقد يترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل وهو يحبه لعارض، قد يتركه لما هو أهم منه، من جهاد أو سفر أو شغل، وقد يتركه خشية أن يفرض على أمته، وقد يتركه خشية أن يشق على أصحابه، وقد يتركه لبيان الجواز، إلى غير ذلك من الأسباب.

إذاً: عدم صيام النبي صلى الله عليه وسلم أيام العشر، ليس دليلاً على عدم مشروعيتها، بل أيام العشر يستحب للإنسان أن يسرد صومها، إلا يوم العيد فإنه لا يجوز صيامه، فصيام يومي العيد: عيد الفطر وعيد الأضحى حرام كما هو معروف، وسبق تقريره في الوقفات الثلاثين من مطلع شهر رمضان، فصيام يوم العيد لا يجوز.

وكذلك صيام يوم عرفة للحاج مكروه، والأولى ألا يصوم، إنما صيام الأيام الثمانية مشروع، وصيام الأيام التسعة لغير الحاج مشروع أيضاً، ولذلك جاء في سنن أبي داود ذكر صيام التسع من ذي الحجة، في الحديث الذي أشرت إليه قبل قليل -حديث حفصة- جاء فيه بدلاً من العشر صيام التسع من ذي الحجة، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: قال العلماء: صيام أيام العشر مستحب استحباباً شديداً. والمقصود -بلا شك- خلا يوم العيد فإنه يحرم صومه.

الحج وفضله

العمل الثالث الذي يكون في أيام العشر هو: الحج. فإن أيام العشر من مواقيت الحج الزمانية، قال الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] قال ابن عمر وغيره:[[أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة]].

والحج -أيها الإخوة- هو من أخص خصائص المسلمين وأبرز علاماتهم، حتى قال الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] وهذا إيماء وإشارة إلى أن ترك الحج من خصال الكافرين، وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن من وجد سعة ولم يحج من غير عذر فإنه كافر، وقد جاء في أثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[لقد هممت أن أنظر وأبعث إلى عمالي فينظروا من وجد سعة فلم يحج؛ فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين]] وهذا الأثر رواه سعيد بن منصور في سننه، وقد جاء نحو هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه لا يصح.

أ/ فضل الحج:

والحج من أعظم الكفارات، حتى إن الإنسان ليعجب ويطرب إذا قرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج، وما فيها من عظيم تكفير الذنوب، خذ على سبيل المثال: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قال: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله. قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور} وفي المتفق عليه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بر الحج بأنه: إطعام الطعام وطيب الكلام، وألا يرفث ولا يفسق. كما ورد في الحديث الآخر: (من حج فلم يرفث ولم يفسق) وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه [[أنه لما حضرته الوفاة بكى، وحول وجهه إلى الجدار يبكي، فقال له ابنه عبد الله بن عمرورضي الله عنه: يا أبت، ما يبكيك؟!

أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فما زال به حتى أقبل عليه بوجهه فقال رضي الله عنه وأرضاه: إني كنت على أطباق ثلاث: إني كنت في الجاهلية ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، قال: فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار. قال: ثم قذف الله الإسلام في قلبي، فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، ابسط يدك فلأبايعك. قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: {ما لك يا عمرو؟

قلت: يا رسول الله، أريد أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟

قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: بايع يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله} قال: فبسطت يدي فبايعته صلى الله عليه وسلم، فجعل الله محبته في قلبي، حتى إني كنت ما أطيق أن أنظر إليه هيبة له وإجلالاً، فلو مت على تلك الحال؛ لرجوت أن أكون من أهل الجنة. قال: ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها أي: من أمر الخلافة والإمارة]] وما يتعلق بذلك المهم قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم:{أن الحج يهدم ما كان قبله } والحديث كما أسلفت في صحيح مسلم. فهذه الأحاديث وغيرها مما يدل على عظيم شأن الحج.

والمقام لا يتسع لسرد الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفي تفاصيل أعمال الحج، ولذلك أنصح الإخوة بعد أن يرجعوا إلى بيوتهم؛ أن يقرءوا كتاب "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" للإمام شرف الدين الدمياطي، يقرءوا فيه ما ورد في فضل الحج، فإن الإنسان ليعجب ويطول به العجب إذا قرأ هذه الأحاديث الواردة في فضل الحج، وأذكر منها حديثاً واحداً فقط، وهو ما رواه البزار وغيره، وصححه ابن حبان، وقال الدمياطي: إسناده لا بأس به، من حديث ابن عمر وله شاهد من حديث عبادة، قال ابن عمر: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بـمنى، فأتاه رجلان أنصاري وثقفي، فقالا: يا رسول الله، نريد أن نسألك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للثقفي: إن شئت أن تسألني، وإن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه. فقال: بل أخبرني يا رسول الله، قال: جئت تسألني عن مسيرك من بيتك تؤم البيت الحرام، وجئت تسألني عن ركعتيك بعد الطواف ما لك فيهما، وجئت تسألني عن طوافك بين الصفا والمروة ما لك فيه، وجئت تسألني عن رميك الجمار ما لك فيه، وجئت تسألني عن ذبحك ما لك فيه، وجئت تسألني عن وقوفك بـعرفة مالك فيه، وجئت تسألني عن حلقك رأسك ما لك فيه، وجئت تسألني... وجئت تسألني...، حتى عدد النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الحج، ثم ذكر ما فيها من الفضل، فذكر أنه إذا ركب راحلته إلى البيت الحرام، لم يرفع خفاً ولا يضع آخر إلا كان له بذلك أن يكتب الله تعالى له به حسنة ويضع عنه به خطيئة، ثم ذكر ركعتي الطواف وأنه كعتق رقبة، ثم ذكر طوافه بين الصفا والمروة وأنه كعتق سبعين رقبة، ثم ذكر رميه الجمار وأن كل رمية يمحو الله بها عنه كبيرة أو موبقة من الكبائر، ثم ذكر طوافه بالبيت وأنه يطوف لا ذنب له، يبعث الله تعالى ملكاً يضع يديه على كتفيه ويقول له: اعمل فيما يستقبل، فقد غفر لك ما مضى.

إلى غير لك من الفضائل العظيمة التي يعجب الإنسان منها، إلا أنه إذا تذكر أن هذا الفضل ممن يملك الفضل، ومن الوهاب التواب الذي يقول:{يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة، أو لغفرت لك ولا أبالي} إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في سعة فضل الله تعالى، ولا شك أن هذا إنما يحصل لمن كان مخلصاً في حجه، وفي نفقته، وفي نيته، وفي عمله، متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم.

والغالب أن تكفير الأعمال إنما يكون للصغائر، أما الكبائر فإن جمهور أهل السنة، كما قال ابن عبد البر وغيره يقولون: إنها لا تكفر إلا بالتوبة، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم {ما لم تغش كبيرة} وفي رواية: {ما لم تؤت كبيرة} فإن الكبائر في الأصل أنها لا تكفر إلا بالتوبة النصوح.

فينبغي أن تكون هذه النصوص العظيمة محركاً لهممنا وقلوبنا إلى حج بيت الله الحرام، وشتان شتان بين من اتخذ الحج عادة أو تجارة أو سياحة، وبين إنسان لم يكن في نيته أن يحج، فلما سمع هذه النصوص وقرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج؛ تحركت همته فجدد عزيمته وأخلص نيته أنه سيحج، بسبب هذا الفضل الذي يتوقعه وينتظره، فإن هذا ممن يرجى أن ينال هذا الأجر العظيم من الله تعالى.

أيها الإخوة: الكلام عن مناسك الحج ليس هذا مجاله؛ ولذلك لن أذكر في موضوع المناسك شيئاً، وإنما أذكر الإخوة بأن ثمة كتباً كثيرة وأشرطة في موضوع المناسك، أذكر من أهمها: منسك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مطبوع، كذلك المنسك للشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من يوم أكثر أن يعتق الله عبداً من النار من يوم عرفة، وإن الله تعالى ليدنو ثم يباهي بهم -أي بعبيده الحجاج -الملائكة يقول: ما أراد هؤلاء؟} فهذا يوم عرفة، وسوف يأتي فضل صيام هذا اليوم.

كذلك من أسباب فضيلة العشر: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر، وهو يوم العيد، يأتي العيد وأول أيامه اليوم العاشر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة، فوجد للأنصار يومين يلعبون بهما؛ قال: {إن الله تعالى قد أبدلكما بهما يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، وهما عيدنا أهل الإسلام} فيوم عيد الأضحى هو من الأيام التي تعتبر شعائر يفرح بها المسلمون ويسرون، وهو يوم الحج الأكبر، كما قال الله عز وجل: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3] فأذَّن المسلمون بهذا في يوم العيد، يوم الحج الأكبر يوم النحر، وهو أفضل الأيام عند الله تعالى على الإطلاق، كما في السنن من حديث عبد الله بن قرط الثمالي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الأيام عند الله يوم النحر} وهذا الحديث سنده صحيح، ولذلك فلا غرابة أن تكون أيام العشر هي أفضل الأيام، حيث احتوت على هذين اليومين الفاضلين العظيمين عند الله عز وجل، يوم عرفة، ويوم النحر، يوم الحج الأكبر.

وهي تحتوي على أيام العيد التي تشمل يوم العيد، وما بعده من أيام التشريق، ولذلك جاء في السنن من حديث عقبة بن عامررضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب} فأما يوم عرفة فهو عيد من جهات عديدة، ولذلك جاء في الحديث الذي في صحيح البخاري: أن يهودياً قال للمسلمين: لو علينا معشر يهود نـزلت هذه الآية، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، وفي رواية: عيدنا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فقال عمر رضي الله عنه: [[والله إني لأعلم في أي مكان نـزلت، وفي أي يوم نـزلت، نـزلت في يوم جمعة في يوم عرفة]] وجاء في رواية عند أصحاب السنن: [[في يوم عيد]] فعرفة عيد؛ باعتباره مجاوراً ليوم العيد وسابقاً ومقدمة له، وهو يوم سرور للمؤمنين لكثرة تكفير الخطايا، وتجاوز الله تبارك وتعالى عن عباده، حيث إنه يدنو، وجاء في رواية: {أنه ينـزل إلى السماء الدنيا، ويباهي الملائكة بعباده فيقول: ما أراد عبادي؟ هؤلاء أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم} وجاء في رواية: {ووهبت مسيئهم لمحسنهم} ففي هذه الأيام العشر تتحقق هذه الفضائل الكثيرة، ولذلك كانت هذه الأيام العشر أفضل الأيام عند الله تعالى كما سبق.

أما النقطة الثانية فهي الأعمال المشروعة في تلك العشر: وفي العشر أعمال كثيرة مشروعة أذكر بعضاً منها، فمن هذه الأعمال المشروعة الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28] قال ابن عباس رضي الله عنه: [[الأيام المعلومات أيام العشر]] والأثر رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس، الأيام المعلومات أيام العشر أي عشرة ذي الحجة.

فقوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28] هذا يشمل عدة أمور منها: ذكر الله تعالى على الذبائح من الأضاحي والهدي، فإنه يجب أن يسمي العبد ربه عليها، فيقول: باسم الله والله أكبر؛ يقول: باسم الله وجوباً، ويكبر استحباباً، وهذا ذكر، ولذلك قال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28] فهذا من الذكر المشروع، ويشمل الذكر غير هذا من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، وغير ذلك من الدعاء وقراءة القرآن وغيرها، فكل ذلك مشروع في هذه العشر وفي غيرها، ويتأكد في العشر.

ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التحميد والتهليل والتكبير} قال المنذري: سنده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. والواقع أن في الحديث ضعفاً؛ فإن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو إن خرج له مسلم إلا أنه ضعيف وفيه مقال، وكذلك الحديث فيه شيء من الاضطراب، فقد رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، من حديث يزيد عن مجاهد عن ابن عباس، وقد وهم من اعتبر حديث ابن عباس شاهداً لحديث ابن عمر، بل هو مما يضعفه؛ لأن مدار الحديث على يزيد بن أبي زياد عن مجاهد، قال مرة: عن ابن عمر، وقال مرة: عن ابن عباس، فدل على أنه لم يضبط هذا الحديث. فالحديث ضعيف، لكن له شواهد كثيرة عن ابن عباس في صحيح البخاري، وعن جابر عند أبي يعلى والبزار، وسوف يأتي الإشارة إليهما بعد قليل.

أ/ أنواع التكبير:

من الأذكار الذي تستحب في العشر: التكبير (الله أكبر)، وما أشبه ذلك من صيغ التكبير وهي كثيرة، فيستحب للعبد أن يكبر ويكثر من التكبير في أيام العشر، والتكبير في العشر نوعان:-

النوع الأول: تكبير مطلق يشرع طيلة أيام العشر في كل وقت، ليلاً ونهاراً، في المنـزل وفي السوق وفي المسجد، وفي كل مكان، فيشرع للمسلمين أن يكبروا ويرفعوا أصواتهم بالتكبير، ولهذا قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: [[كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وكان عمر رضي الله عنه يكبر بـمنى في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيكبر أهل منى حتى ترتج منى تكبيراً]].

ففعل أبي هريرة وابن عمر وعمر؛ يدل على مشروعية التكبير في أيام العشر في كل وقت، ويدل أيضاً على مشروعية رفع الصوت بهذا التكبير، ولكن ليس على سبيل أن يكون التكبير بصوت واحد كما يفعله كثير من الناس، حيث يكبرون بصوت واحد تكبيراً جماعياً وبلحن واحد، هذا غير مشروع، إنما يكبر كل إنسان بمفرده، وتختلط الأصوات كما تختلط بقراءة القرآن في المساجد، وكما تختلط بالأذكار في أدبار الصلوات، إلى غير ذلك، فهذا تكبير مطلق.

النوع الثاني من التكبير:هو التكبير المقيد؛ وهو التكبير في أدبار الصلوات المكتوبات، أن يكبر الناس عقب كل صلاة مكتوبة، فيقولون: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، إلى غير ذلك من صيغ التكبير، وهذا التكبير المقيد لم يثبت فيه حديث صحيح، جاء فيه حديث عند الدارقطني لكن سنده ضعيف جداً، وهو حديث منكر، لكن قال الإمام الحاكم: ثبت التكبير المقيد عن عمر وابن عمر وابن عباس وابن مسعود صح ذلك عنهم. وجاء عند ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه [[أنه كان يكبر بعد الفجر من يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق ]] وسند هذا الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صحيح، وكذلك روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح، عن أبي الأسود [[: أن ابن مسعود كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر يوم النحر، يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ]] فابن مسعود كان يكبر إلى عصر يوم النحر، أما علي فإلى عصر آخر يوم من أيام التشريق.

وسند الأثرين عن علي وابن مسعود عند ابن أبي شيبة صحيح، وجاء هذا عن جماعة آخرين من الصحابة، مما يدل على أن هذا الأمر مشهور مشروع عندهم، فإذا انضم إلى ذلك ما هو معروف من ورود أحاديث عديدة في مشروعية التكبير في أدبار الصلوات، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [[كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته]] وفي لفظ: [[ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] علم أن التكبير مشروع في أدبار الصلوات، خاصة في هذه الأيام المحددة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أو إلى عصر يوم النحر. كل ذلك حسن والأمر فيه واسع، والتكبير ذكر وما دام أنه قد ثبت عن بعض الصحابة، فلا حرج على الإنسان أن يلتزم بهذا التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبات، فهذا من الذكر الذي يستحب للإنسان أن يقوله.

ب/ صفة التكبير:

أما صفة التكبير وكيف يكبر الإنسان: فمما ثبت عن ابن مسعود كما سبق: [[الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] وقال الإمام الشافعي: "إن زاد على هذا قوله: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ كان حسناً". هذا كلام الإمام الشافعي رحمه الله كما نقله عنه الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"، وإن زاد في ذلك أو اقتصر على أن يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فكل ذلك حسن ولا بأس به، فهذا الذكر من العمل المشروع في أيام العشر، وهو التكبير والذكر لله تبارك وتعالى، ومن ذلك المبادرة إلى الصلوات، وكثرة قراءة القرآن.

أما العمل الثاني المشروع فهو: العمل الصالح إجمالاً. وهذا ثبت في حديث ابن عباس، كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء} وقد جاء عن جابر رضي الله عنه ما يشهد لهذا الحديث، فعند أبي يعلى والبزار بسند صحيح عن جابر نحو حديث ابن عباس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه {لا يعادل العمل الصالح في العشر إلا رجل خرج بنفسه وماله في الجهاد، فخر صريعاً على وجهه في المعركة} فهذا الذي يعدل العمل الصالح في أيام العشر.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم:{العمل الصالح } يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فإن العمل الصالح هو ما كان خالصاً صواباً كما هو معروف، فما كان من الأعمال التي أمر الله تعالى بها في كتابه، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، من قول أو فعل أو اعتقاد؛ فهو من الأعمال الصالحة المحبوبة إلى الله تعالى في كل وقت، ويتأكد استحبابها في هذه العشر، فيدخل في ذلك الذكر كما سبق، ويدخل فيه التكبير مطلقاً ومقيداً، ويدخل فيه قراءة القرآن، ويدخل فيه الصيام.

أ/ الصيام:

أما صيام يوم عرفة فهو مستحب لغير الحاج، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر:{أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده} يكفر سنتين: السنة الماضية والسنة الآتية، هذا صيام يوم عرفة لغير الحاج، وهذا فضل عظيم لا أعلم أنه ثبت ليوم من الأيام التي يستحب صيامها إلا يوم عرفة؛ أنه يكفر سنة قبله وسنة بعده.

أما الحاج فلا يستحب له صيام هذا اليوم؛ لما ثبت في الصحيح: {أن الناس تماروا هل صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أم كان غير صائم؟ فبعثت أم الفضل إليه بلبن وهو على راحلته فشربه النبي صلى الله عليه وسلم }.

وهل يشرع صيام أيام العشر كلها؟

هذا فيه اختلاف، والأقرب أنه يشرع للإنسان صيام أيام العشر كلها؛ وذلك للحديث السابق: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه العشر} والصيام لا شك أنه من العمل الصالح. ولا يعكر على ذلك ما ورد من النهي عن سرد الصوم، فإن المنهي عنه: أن يسرد الإنسان الصوم طيلة عمره، أما أن يصوم لمناسبات معينة فلا حرج في ذلك، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه صام شعبان أكثره بل كله، ففي بعض السنين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله، وكذلك أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، إذاً كون الإنسان يسرد صيام أيام العشر هذا مشروع ومستحب، وقد جاء في ذلك حديث عن حفصة، أو عن بعض أمهات المؤمنين عند أصحاب السنن، لكنه حديث فيه ضعف واضطراب فلا يحتج به.

أما ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: [[ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط]] فهذا لا يشكل، والجواب عن هذا الحديث من وجهين:

الوجه الأول أن يقال: إن عدم معرفة عائشة رضي الله عنها بصيام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يلزم منه ألا يكون صام، فإنه قد يخفى على الرجل أو المرأة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعض سنته فلا يعلمها، كما نقل عن جماعه منهم عائشة أنها لم تكن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، إلى غير ذلك من الأعمال وكان يفعلها، فلا غرابه أن ينكر الصحابي فعلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويثبته آخرون، وإنما أنكر هذا الصحابي أن يكون بلغه ذلك أو اطلع عليه، وعدم علمه بالشيء ليس دليلاً على عدم حصوله؛ بمعنى أنه لا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر أو بعضها، ولم تطلع عائشة رضي الله عنها على ذلك؛ لسبب من الأسباب.

الجواب الثاني أن يقال -وهو في نظري أقوى-: إن مشروعية صيام أيام العشر تثبت ولو لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن السنة تثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما تثبت بفعله، وكما تثبت بإقراره صلى الله عليه وسلم فإن ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو إقرار كله سنة، ولا يلزم أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن كلها، فقد يترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل وهو يحبه لعارض، قد يتركه لما هو أهم منه، من جهاد أو سفر أو شغل، وقد يتركه خشية أن يفرض على أمته، وقد يتركه خشية أن يشق على أصحابه، وقد يتركه لبيان الجواز، إلى غير ذلك من الأسباب.

إذاً: عدم صيام النبي صلى الله عليه وسلم أيام العشر، ليس دليلاً على عدم مشروعيتها، بل أيام العشر يستحب للإنسان أن يسرد صومها، إلا يوم العيد فإنه لا يجوز صيامه، فصيام يومي العيد: عيد الفطر وعيد الأضحى حرام كما هو معروف، وسبق تقريره في الوقفات الثلاثين من مطلع شهر رمضان، فصيام يوم العيد لا يجوز.

وكذلك صيام يوم عرفة للحاج مكروه، والأولى ألا يصوم، إنما صيام الأيام الثمانية مشروع، وصيام الأيام التسعة لغير الحاج مشروع أيضاً، ولذلك جاء في سنن أبي داود ذكر صيام التسع من ذي الحجة، في الحديث الذي أشرت إليه قبل قليل -حديث حفصة- جاء فيه بدلاً من العشر صيام التسع من ذي الحجة، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: قال العلماء: صيام أيام العشر مستحب استحباباً شديداً. والمقصود -بلا شك- خلا يوم العيد فإنه يحرم صومه.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع