الدفاع عن السنة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فعنوان هذه المحاضرة كما سمعتم: دفاعٌ عن السنة النبوية، وفي هذا العصر كثرت الدعاوى التي يريد أصحابها من ورائها أن يقوضوا أركان الإسلام ودعائمه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [الصف:8].

إنهم كما قال الشاعر:

كناطح صخرةً يوماً ليوهنها     فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

بل هم كمن يحاول أن يطفئ نور الشمس بنفخةٍ من فيه:

أتطفئ نورَ الله نفخةُ كافرٍ     تعالى الذي بالكبرياء تفردا

والدعاوى اليوم عجيبة، كل ما يخطر في بالك، وهناك من يدعي هذا الذي يخطر في بالك.

ادعاء النبوة

هناك من يدعي النبوة، وليسوا قليلاً، وبالأمس وصلتني رسالةٌ من أحد الشباب، يشكو فيها من شخصٍ ظهر منذ زمن ليس باليسير في أمريكا، واسمه/ رشاد خليفة يدَّعي أنه نبيٌ يوحى إليه من عند الله، ودعا الناس إلى الإيمان بدعوته، وتوعدهم إن لم يؤمنوا!

وقال هذا الشاب: إن هذا الرجل خدع بدعوته أناساً، وله نشرات يصدرها، وقد اطلعت على بعض هذه النشرات؛ فوجدت أن هذا الرجل يقول: إن عنده مئات الأدلة على أنه رسول ونبي، ما هذه الأدلة؟! قال: من الأدلة أن حروف البسملة تسعة عشر حرفاً، والله قال: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30].

وعدد حروف القرآن من مضاعفات العدد تسعة عشر، وعدد كلماته من مضاعفات تسعة عشر، ورشاد خليفة ولد في التاسع عشر من شهر نوفمبر، أو شهر سبتمبر، كما يقول، فمعنى ذلك أن هذا دليل على أنه نبي، ويطلب من الناس أن يؤمنوا به بمقتضى هذا الكلام السخيف.

نحن لماذا لا نقول: إن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ لأنه ولد في التاسع عشر من نوفمبر، وهو الرقم الذي يساوي عدد حروف البسملة، والله تعالى يقول عن جهنم: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30].

فليس القول بأن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ بأقل من دعواه أنه نبي لأنه ولد في تسعة عشر، وهذا منتهى السخف، ومع ذلك يجد من يتقبل دعوته.

وأذكر أن بعض الصحف الإسلامية والعربية -وفي بلادنا أيضاً- نشرت منذ زمن طويل، دعاية عن إنجاز علمي كبير سوف يحقق معجزة القرآن في القرن العشرين -على حد تعبيرهم- وهو ما يسمونه بمعجزة القرآن العددية، وهذه المعجزة العددية هي الأسطورة والخرافة التي ابتكرها/ رشاد خليفة، ليدعم بها دعواه للنبوة.

ادعاء الألوهية

بل هناك من ادعى ما فوق النبوة!

فقد قرأت في مقابلة صحفية مع رجل اسمه/ أغاخان، وهو يعبد من دون الله في شبه القارة الهندية، له أتباع يعبدونه ويسبحون بحمده وله يسجدون!

فمن ضمن الأسئلة التي وجهها إليه أحد الصحفيين أن قال له: لماذا ترضى وتقبل من هؤلاء البشر الذين هم في منـزلتك أن يعبدوك ويسبحوك ويعظموك؟ فابتسم، وقال له: ألا تراهم يعبدون البقر؟!وهل أنا أقل منـزلة من البقر حتى تستكثر علي أن يعبدوني؟!

دور الإعلام في نشر الدعاوى الباطلة

عصرنا هذا مليء بالدعاوى العريضة الطويلة، والمصيبة أيضاً في هذه الدعاوى؛ أن أجهزة الإعلام أصبحت تنشر كل شيء ويقرؤها كل أحد: العالم، والجاهل، والأمي، والمثقف، والكبير، والصغير، والقوي والضعيف، وبذلك أصبح كل من ادعى دعوة وجد من يشايعه عليها ويوافقه عليها، وهذا أحدث شرخاً كبيراً في علم المسلمين وفقههم، وجعلهم مادةً خصبة لكل ناعق.

الهجمة الشرسة على السنة النبوية

أيها الإخوة! من ضمن الأشياء التي كثر حديث الناس عنها في هذا العصر: موضوع السنة النبوية.

فقد تعرضت السنة منذ عصور قديمة لهجمات شرسة من أهل البدع، كـالخوارج، والمعتزلة، والشيعةوغيرهم، لكنها لم تتعرض كما تعرضت في هذا العصر لحملات ضارية، تستهدف القضاء على السنة النبوية، وإقصاءها عن واقع الأمة الإسلامية، ولذلك وجب على القادرين منا أن يتحدثوا في موضوع السنة النبوية، ويدافعوا عنها، ويبينوا للناس حقيقة السنة ومكانتها بالنسبة للقرآن الكريم ومدى حجيتها حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

ولست أزعم أنني في هذه المحاضرة أستطيع أن أقول كل ما يتعلق بهذا الموضوع، أو كل ما عندي مما يتعلق بهذا الموضوع، كلا! ولكنني سوف أبدأ في هذه المحاضرة بعرض جوانب مهمة تتعلق بالسنة النبوية، وأعد أن أكمل هذا الموضوع في مناسبة قادمة إن شاء الله؛ ليكون الموضوع بين أيدي الناس، وليسمعه جمهور المسلمين وجمهور المثقفين؛ ليأخذوا صورة عن الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفوه من السنة النبوية.

هناك من يدعي النبوة، وليسوا قليلاً، وبالأمس وصلتني رسالةٌ من أحد الشباب، يشكو فيها من شخصٍ ظهر منذ زمن ليس باليسير في أمريكا، واسمه/ رشاد خليفة يدَّعي أنه نبيٌ يوحى إليه من عند الله، ودعا الناس إلى الإيمان بدعوته، وتوعدهم إن لم يؤمنوا!

وقال هذا الشاب: إن هذا الرجل خدع بدعوته أناساً، وله نشرات يصدرها، وقد اطلعت على بعض هذه النشرات؛ فوجدت أن هذا الرجل يقول: إن عنده مئات الأدلة على أنه رسول ونبي، ما هذه الأدلة؟! قال: من الأدلة أن حروف البسملة تسعة عشر حرفاً، والله قال: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30].

وعدد حروف القرآن من مضاعفات العدد تسعة عشر، وعدد كلماته من مضاعفات تسعة عشر، ورشاد خليفة ولد في التاسع عشر من شهر نوفمبر، أو شهر سبتمبر، كما يقول، فمعنى ذلك أن هذا دليل على أنه نبي، ويطلب من الناس أن يؤمنوا به بمقتضى هذا الكلام السخيف.

نحن لماذا لا نقول: إن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ لأنه ولد في التاسع عشر من نوفمبر، وهو الرقم الذي يساوي عدد حروف البسملة، والله تعالى يقول عن جهنم: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30].

فليس القول بأن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ بأقل من دعواه أنه نبي لأنه ولد في تسعة عشر، وهذا منتهى السخف، ومع ذلك يجد من يتقبل دعوته.

وأذكر أن بعض الصحف الإسلامية والعربية -وفي بلادنا أيضاً- نشرت منذ زمن طويل، دعاية عن إنجاز علمي كبير سوف يحقق معجزة القرآن في القرن العشرين -على حد تعبيرهم- وهو ما يسمونه بمعجزة القرآن العددية، وهذه المعجزة العددية هي الأسطورة والخرافة التي ابتكرها/ رشاد خليفة، ليدعم بها دعواه للنبوة.

بل هناك من ادعى ما فوق النبوة!

فقد قرأت في مقابلة صحفية مع رجل اسمه/ أغاخان، وهو يعبد من دون الله في شبه القارة الهندية، له أتباع يعبدونه ويسبحون بحمده وله يسجدون!

فمن ضمن الأسئلة التي وجهها إليه أحد الصحفيين أن قال له: لماذا ترضى وتقبل من هؤلاء البشر الذين هم في منـزلتك أن يعبدوك ويسبحوك ويعظموك؟ فابتسم، وقال له: ألا تراهم يعبدون البقر؟!وهل أنا أقل منـزلة من البقر حتى تستكثر علي أن يعبدوني؟!

عصرنا هذا مليء بالدعاوى العريضة الطويلة، والمصيبة أيضاً في هذه الدعاوى؛ أن أجهزة الإعلام أصبحت تنشر كل شيء ويقرؤها كل أحد: العالم، والجاهل، والأمي، والمثقف، والكبير، والصغير، والقوي والضعيف، وبذلك أصبح كل من ادعى دعوة وجد من يشايعه عليها ويوافقه عليها، وهذا أحدث شرخاً كبيراً في علم المسلمين وفقههم، وجعلهم مادةً خصبة لكل ناعق.

أيها الإخوة! من ضمن الأشياء التي كثر حديث الناس عنها في هذا العصر: موضوع السنة النبوية.

فقد تعرضت السنة منذ عصور قديمة لهجمات شرسة من أهل البدع، كـالخوارج، والمعتزلة، والشيعةوغيرهم، لكنها لم تتعرض كما تعرضت في هذا العصر لحملات ضارية، تستهدف القضاء على السنة النبوية، وإقصاءها عن واقع الأمة الإسلامية، ولذلك وجب على القادرين منا أن يتحدثوا في موضوع السنة النبوية، ويدافعوا عنها، ويبينوا للناس حقيقة السنة ومكانتها بالنسبة للقرآن الكريم ومدى حجيتها حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

ولست أزعم أنني في هذه المحاضرة أستطيع أن أقول كل ما يتعلق بهذا الموضوع، أو كل ما عندي مما يتعلق بهذا الموضوع، كلا! ولكنني سوف أبدأ في هذه المحاضرة بعرض جوانب مهمة تتعلق بالسنة النبوية، وأعد أن أكمل هذا الموضوع في مناسبة قادمة إن شاء الله؛ ليكون الموضوع بين أيدي الناس، وليسمعه جمهور المسلمين وجمهور المثقفين؛ ليأخذوا صورة عن الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفوه من السنة النبوية.

وأول ما يلاقينا في هذا الموضوع تعريف السنة النبوية، وللسنة النبوية تعريفات كثيرة لن أعرضها، ولكنني سوف أختار منها تعريفاً واحداً، وهو تعريف علماء الأصول، حيث قالوا:

إن السنة النبوية هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية.

وهذا التعريف هو أوسع التعريفات وأكثرها انتشاراً، والتقسيمات المختلفة في السنة تدور عليه، وهو يتضمن أن السنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

السنة القولية

القسم الأول: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالتشريع.

وهي كثيرة جداً، منها على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال:{ لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة}.

فهذا قول من النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن أحكاماً شرعية، منها تحريم لبس الحرير والديباج على الرجال، ومنها تحريم الأكل أو الشرب في آنية الذهب والفضة وصحافها؛ لأن هذا من شأن المشركين الذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم. هذا هو القسم الأول من السنة النبوية، وهو السنة القولية.

السنة الفعلية

وهي أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي نقلها عنه أصحابه سواء كانت هذه الأفعال متعلقةً بالعبادات أو متعلقةً بالمعاملات. وهذه السنة الفعلية تنقسم أيضاً إلى قسمين:

القسم الأول: ما يعتبر تشريعاً ينبغي على الناس الاقتداء به والالتزام به، إباحة أو إيجاباً أو استحباباً أو تحريماً، وهذه الأشياء التي تدل على التشريع، ويجب على الناس الالتزام بها، إما أن تكون بياناً للقرآن الكريم، أو تكون تأسيساً لحكمٍ جديد لم يرد في القرآن، كما سوف يأتي بعد قليل.

القسم الثاني: ما لا يعد تشريعاً، وهو أربعة أشياء:

الأول منها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة والطبيعة البشرية، مثل نومه عليه السلام، وأكله وشربه وقضائه لحاجته، وغير ذلك من الأشياء التي فعلها بمقتضى الجبلة والطبيعة.

فهذه لا دخل فيها للاقتداء أصلاً، ولكن قد يكون الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في شيءٍ يتعلق بأخلاقيات هذه الأشياء.

كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا آداب النوم وآداب الجماع، وآداب التخلي وقضاء الحاجة، وآداب الأكل وآداب الشرب، لكن أصل الفعل ليس فيه مجال للاقتداء، فهو أمر طبيعي فطري جبلي موجود عند الإنسان، فهذا ليس من باب التشريع.

هذا هو النوع الأول مما لا يعد تشريعاً من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.

النوع الثاني: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة. فقد يكون هناك عادات اجتماعية موجودة في المجتمع، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، وليس لأنها مشروعة أو مستحبة، أو أمور تركها أيضاً بمقتضى العادة، وليس لأنها مكروهة أو محرمة.

ومثال ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، كما ذكر بعض أهل العلم: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لشعر رأسه، فقد كان النبي عليه السلام له شعرٌ يضرب إلى منكبيه، وفي رواية إلى "شحمة أذنيه"، والأظهر -والله تعالى- أعلم أن إطلاقه عليه السلام لشعر الرأس، إنما أطلقه لأن هذه عادة معروفة عند العرب، والإسلام لم يرفض هذه العادة، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض أهل العلم قالوا: بل هذه سنة.

ومثال ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة والكراهية البشرية، تركه عليه الصلاة والسلام لأكل الضب ففي الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم قُدِّم له الضب على مائدة ليأكل منها، فأراد أن يأكل، فقالت إحدى أمهات المؤمنين: أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا اللحم الذي يريد أن يأكله، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا ضب، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وكان بحضرته جماعة من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، فاجتره خالد بن الوليد رضي الله عنه، فأكله بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم}.

فترك النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب ليس تشريعاً يدل على كراهية أكل الضب، لكنه أمر كرهته نفسه، وعافته نفسه فتركه.

النوع الثالث من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الخبرة والتجربة في الأمور الدنيوية البحتة.

فكونه صلى الله عليه وسلم في الغزو يرتب الجيش ترتيباً معيناً، أو إذا أراد أن ينـزل على ماء نـزل عند هذا الماء أو عند ذاك، أو فعل أمراً يتعلق بالحرب، أو الزراعة، أو بالسفر أو بالإقامة، أو غيرها من الأمور الدنيوية البحتة المتعلقة بخبرة الناس، فهذا الأمر أيضاً ليس فيه مجال للتشريع والتأسي والاقتداء.

النوع الرابع من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي من عند الله، ولكن دل الدليل على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نسوة؛ فإن الله تعالى أباح للأمة أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، ولا يجوز الزيادة على أربع، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام مات عن تسع نسوة، فدل على أن هذا الأمر خاص به.

كذلك تحريم النكاح عليه في آخر عمره على قول، كما في قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52].

فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم، وخصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداً، حتى إن بعض أهل العلم صنفوا فيها كتباً ككتاب" الخصائص الكبرى للسيوطي، والذي ذكر فيه، ألف خصلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعضها يقال: إنه خاص، لكن عند الدراسة والبحث يتبين أنه ليس خاصاً، لكن بالتأكيد هناك خصال خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا يجوز لأمته أن تتأسى به فيها.

إذاً السنة الفعلية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما يقصد به التشريع.

والقسم الثاني: ما لا يقصد به التشريع: وما لا يقصد به التشريع هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة، أو ما فعله بمقتضى العادة، أو ما فعله بحكم الخبرة والتجربة، أو ما دل الدليل على خصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الأصل في أفعال الرسول الاقتداء

وإذا حصل نوع من التردد في هذه الأشياء، فيجب أن نعلم أن الأصل في أفعال النبي عليه الصلاة والسلام أنها للتأسي والاقتداء، كما قال الله عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]

فإذا وجد تردد فالأصل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقد رأيت بعض المصنفين -وقد يكون من بينهم من هو محسوب على أهل العلم وإلى الله المشتكى- من يتوسعون في هذه المسألة توسعاً غير محمود، فكلما تضايقوا من سنة من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ردوها وقالوا: هذه فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بحكم العادة، وهذه فعلها بحكم الخبرة، وهذه فعلها بحكم الجبلة؛ ثم رفضوها وأخذوا بسنن الكفار والمشركين واليهود والنصارى!

وأضرب لكم على ذلك بعض الأمثلة:

قرأت في أحد الكتب لعالم يشار إليه بالبنان، وقد تحدث عن موضوع إعفاء اللحية، فقال: إن إعفاء النبي صلى الله عليه وسلم للحيته، إنما فعله عليه السلام بمقتضى العادة الموجودة في عهده، وليس تشريعاً يقتدى به!

وبناءً على ذلك؛ فتح الباب على مصراعيه للناس ليفعلوا بشعورهم ما شاءوا، من التهذيب والتشذيب والحلق، وهم في منجاة من أن يقول لهم قائل: لماذا تخالفون سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟

ونسي أو تناسى الأحاديث الكثيرة الصحيحة، التي يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإعفاء اللحية، وينهى عن التشبه بـالمجوس والمشركين الذين يحلقون شعر لحاهم -هذا مثال-.

وسمعت عن رجلٍ آخر، وقد يكون داعيةً وكاتباً مرموقاً، وهو يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:{إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم ليرفعه فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء}رواه البخاري وأبو داود وزاد أبو داود {وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء} أي أن الذباب يسقط على الجناح الذي فيه الداء، والحديث عن أبي هريرة، لكن له شواهد عن جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، ومنهم علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة.

ورد الحديث عن جماعة من الصحابة وبأسانيد صحيحة، ومع ذلك لم يجد أحد الدعاة حرجاً أن يقول: إن هذا الحديث من الأمور الدنيوية، التي تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بحسب الثقافة الموجودة في عصره، ولا يلزم أن يكون هذا الأمر صحيحاً نعوذ بالله من ذلك!

وهذا يعتبر تكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم جميعاً أن الرسول عليه السلام ذكر أن {من تتطبب ولم يعلم منه طب فإنه يضمن ما أتلف} أي لو أن إنساناً ادعى أنه طبيب، فعالج إنساناً فقتله، وعالج آخر فأمرضه، فإنه يحاسب على هذه الأعمال التي يعملها، وهو غير جديرٍ بها، ولا متأهل لها.

فما بالك أن الرسول عليه السلام -فيما يزعم هذا الزاعم- أنه يتكلم في قضية وهو لا يعلم عنها شيئاً، حاشاه من ذلك! ومتى كانت الأمة العربية تعلم أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء؟! ما كان العرب يعرفون ذلك، وهذا أمر دقيق لا يمكن أن يعلم إلا بأحد أمرين:

إما بالوحي الصادق عن الله جل وعلا، وإما بالعلم اليقيني التجريبي الذي يخضع الذباب للتحليل والدراسة، ثم يكتشف الداء والدواء.

ولما قطعنا بأن هذا العلم لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ عرفنا أنه عليه السلام لم يتكلم عن الهوى قال الله:إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5]

ومثالٌ ثالث: أحد العلماء يتكلم عن باب كبير في الطب النبوي، فيقول: إن هذا الطب كله مبناه على اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم، بحسب الخبرة الموجودة لديه والموجودة في مجتمعه، أشاعها بين أصحابه، ولا يلزم أن تكون كلها وصفات وعلاجات صحيحة ومناسبة!

هذا أيضاً يفتح الباب على مصراعيه؛ لأن يرفض الناس جميع تشريعات الإسلام، فيرفضون -مثلاً- أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الاقتصاد؛ بحجة أنها اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم أن تكون دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السياسة؛ بحجة أنها اجتهادات قد لا تكون بالضرورة دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال تنظيم شئون المجتمع، وبالتالي يرفضون الإسلام كله، ولا يبقى لهم منه شيء.

وهكذا يتبين لكم خطورة توسع بعض الناس في قولهم: إن هناك سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيها مجال للاقتداء. لا ثم لا!!

الأصل فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال وغيرها؛ أنها للتأسي والاقتداء به عليه الصلاة والسلام، ولا يخرج شيء عن الاقتداء والتأسي إلا بدليل واضح أو بحجة قائمة، وذلك ينحصر في الأمور الأربعة التي أسلفتها سابقاً، وكما أننا لا نقبل من أحد أن يقول بخصوصية شيء للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل، كذلك لا نقبل منه أن يقول عن أمر من الأمور: إن هذا الأمر ليس فيه مجال للتشريع إلا بحجة واضحة قائمة لا لبس فيها.

السنة التقريرية

والمقصود بتقريراته، أو بالسنة التقريرية: أن يفعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيء، أو يفعل بغيبته لكنه يعلم به، ثم يقر هذا الأمر ويسكت عنه، أو يستحسنه ويرضى به، فيدل على جوازه أو على استحبابه بحسب الحال.

وأمثلة التقرير كثيرة منها قصة الجارية كما في صحيح مسلم، التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: {أين الله؟ قالت: في السماء -وفي رواية- أشارت بأصبعها إلى السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة} فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على إشارتها إلى السماء، وعلى قولها: إن الله في السماء، فدل هذا على عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي أن الله تبارك وتعالى فوق سماواته، وهذه العقيدة موجودة أيضاً في القرآن الكريم، لكن هذا الحديث يزيدها إيضاحاً.

ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم: ما سبق في قصة الضب، فإن خالد بن الوليد أكل الضب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه؛ فدّل أن أكله مباح.

ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو سعيد الخدري: {أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذهبا في سفر، فأدركتهما صلاة فلم يجدا الماء، فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأمّا أحدهما فتوضأ وأعاد الصلاة، وأما الآخر فلم يعد الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أعاد الصلاة: لك الأجر مرتين -أي مرة على صلاته الأولى ومرة على صلاته الثانية- وقال للذي لم يعد الصلاة: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك} فزكى النبي صلى الله عليه وسلم عمله، وبيّن أنه هو الموافق للسنة، وأن صلاته الأولى مجزئة له.

هذه نقطة في هذه المحاضرة وهي تعريف السنة، وخلاصة هذه النقطة أن السنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية.