الملتقى الجنة


الحلقة مفرغة

أحبتي أهلاً بكم، وأهلاً بالجميع.

إن لله عباداً أسكنهم دار السلام, فأخمصوا البطون عن مطاعم الحرام, وأغمضوا الجفون عن مناظر الحرام، قيدوا الجوارح عن فضول الكلام, وطووا الفرش وقاموا في جوف الظلام، طلبوا الحور الحسان من الحي الذي لا ينام, فلم يزل في نهارهم صيام, وفي ليلهم قيام, حتى أتاهم ملك الموت عليهم السلام.

فارقوا الدنيا على أن يكون ملتقاهم الجنة, سموا وسعوا إلى دار ليس فيها ما يشينها, دار لا يفني فيها ما يزينها، دار لا يزول عزها، ولا يزول تمكينها، قال الله عن تلك الدار وعن ساكنيها: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119].

فيا الله ما أتم نعيمهم! وما أعم تكريمهم! وما أفضل حريمهم! وما أكرم كريمهم! وما أظرف حديثهم! منحوا الخلود، افترقوا في الدنيا على أمل أن يكون اللقاء في الجنة.

دفعني إلى الموضوع: تشويق النفوس إلى ما أعده الله لأهل الطاعات, وبيان خسارة أولئك الذين آثروا الشهوات واللذات.

دفعني إلى الموضوع: حتى يزيد الصالح في صلاحه, ويثبت الثابت على استقامته وعلى مكانه.. فأي فوز أعظم من الفوز بجنات النعيم، ورؤية الرحمن الرحيم؟!

قال يحيى بن معاذ : ترك الدنيا شديد, وفوات الجنة أشد, وترك الدنيا هو مهر الجنة.

لي معكم في هذا اللقاء خمس وقفات وخمس تأملات:

فالوقفة الأولى: آيات وتفسير.

والوقفة الثانية: من أخبار المشتاقين.

والوقفة الثالثة: الملتقى الجنة.

والوقفة الرابعة: ما أهون ما بذلوا في عظيم ما نالوا!

والوقفة الخامسة: الطريق إلى الجنة.

فهيا ننطلق مع الوقفة الأولى: آيات وتفسير:

جاء من ذكر الجنة في القرآن الكثير الكثير، تثبيتاً للعاملين, وتشويقاً للمشتاقين، قال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية:8-11] قال المفسرون: معنى قوله: نَاعِمَةٌ أي في نعمة وكرامة، وقوله: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ أي أنها رضت ثواب عملها الذي كانت تعمله في الدنيا، وقوله: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ أي عالية المنازل متفاوتات الدرجات، وقوله: لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً أي لا تسمع فيها كلام لغواً أو باطل، كما قال سبحانه: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26].

ثم بين ما في تلك الجنان من نعيم فقال سبحانه: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية:12-16].

قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال: ألواحها من ذهب مكللة بالزبردج والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها فإذا جاءوا وأرادوا الجلوس تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها، فإذا قاموا عادت وارتفعت إلى مكانها.

وقوله: وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وهي الأباريق التي لا عري لها موضوعة عندهم، وقوله: وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ هي الوسائد مصفوفة إلى جنب بعضها.

وقوله: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ هي الطنافس أي البسط والفرش كثيرة متفرقة.. هذا بعض ما فيها!

أما الحق الذي نعرفه فإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

اسمع واسمعي عن أدناهم منزلة وأعلاهم منزلة في الجنان:

روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال الله لموسى: هو رجل يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت رب، فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة: رضيت رب! فيقول: ولك هذا وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت رب! فما أعلاهم منزلة؟ قال الله: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).

فماذا كان عملهم حتى جزاهم ونضر وجوههم وقال عنهم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39].

فاسمع رعاك الله! عن تلك الوجوه!

وجوه طالما غسلتها الدموع، وجوه طالما أذلها الخشوع، وجوه ظهر عليها الاصفرار من الجوع، وجوه إذا ذكرت أذعنت وذلت، وجوه ألفت الركوع والسجود فما كلت ولا ملت، وجوه توجهت إلى ربها وما نكصت على أعقابها وما تولت، وجوه سارت في الدنيا بين الرجاء والخوف، رجاء دخول الجنان والخوف من النيران، لسان حالهم في دنياهم كما قال ربهم جلا في علاه: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:10-22].

سعيكم مشكور إذ صبرتم على طاعتي

سعيكم مشكور إذ صبرتم عن معصيتي

سعيكم مشكور إذ صبرتم على الأذى في سبيلي

صبرت عن اللذات حتى تولت وألزمت نفسي هجرها فاستمرت

وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى

فإن توقت تاقت وإلا تسلت

اسمعي واسمع بعض من سعيهم كما قال ربهم: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].

اللهم اجعلنا ممن يقال لهم يوم العرض الأكبر: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:34].

أبو ريحانة المجاهد

الوقفة الثانية: من أخبار المشتاقين.

روى ابن المبارك في الزهد عن مولى لـأبى ريحانة قال: قفل أبو ريحانة من بعث غزا فيه، فلما انصرف أتى أهله فتعشى من عشائهم ثم دعا بوضوء فتوضأ منه ثم قام إلى مسجده -يعني مصلاه في بيته- فقرأ سورة ثم أخرى، ولم يزل كذلك كلما فرغ من سورة افتتح الأخرى حتى إذا أذن المؤذن من سحر شد عليه ثيابه، فأتته امرأته فقالت: يا أبا ريحانة قد غزوت فتعبت في غزوتك ثم قدمت إلي فلم يكن لي منك حظ ولا نصيب، فقال: بلى والله ما خطرت لي على بال، ولو ذكرتك لكان لك علي حق، قالت: فما الذي شغلك عنا يا أبا ريحانة ؟ قال: لم يزل قلبي يهيم فيما وصف الله في جنته من لباسها وأزواجها ونعيمها ولذاتها حتى سمعت المؤذن.

الله أكبر!.. لما سمع القوم قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقوله: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة.

قال الحسن : إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه أنت في الآخرة.

وقال رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.

اعلم رعاك الله واعلمي بارك الله فيك! أنه:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

قام رجل من الصالحين يصلي من الليل فمر بقوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] فجعل يرددها ويبكي حتى أصبح، فلما أصبح قيل له: أبكتك آية ما مثلها يبكي، إنها جنة عريضة واسعة، فقال: يا ابن أخي! وما ينفعني عرضها إن لم يكن لي فيها موضع قدم؟

فيا عجباً كيف ينام طالبها؟! وكيف لم يستخدم فيها خاطبها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟! وكيف قر دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟! وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟! وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟!

فسل المتيم أين خلف صبره في أي واد أم بأي مكان

أترى يليق بعاقل بيع الذي يبقى وهذا وصفه بالفاني

اعلم رعاك الله! واعلمي بارك الله فيك! أن من جد وجد، ومن سهر ليس كمن رقد، ومن لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة له.

لسان حال المشتاقين:

إذا اشتغل اللاهون عنك بشغلهم

جعلت اشتغالي فيك يا منتهى شغلي

عن كريب أنه سمع أسامة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل من مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها, ورب الكعبة نور يتلالأ, وريحانة تهتز, وقصر مشيد, ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة, وحلل كثيرة, في مقام أبد, في دار سلمة, وفاكهة خضراء, وحبرة ونعمة, في محلة عالية بهية, قالوا: نعم يا رسول الله! نحن المشمرون. قال: قولوا: إن شاء الله. فقال القوم: إن شاء الله).

هنيئاً لهم سمعوا الأوصاف والأخبار فشمروا، وصدقوا الأقوال بالأفعال، علموا أن السلعة غالية، فقدموا الثمن من الأنفس والأموال، لأن الله اشترى وهم باعوا والثمن الجنة، وعد صادق، وعهد سابق، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

حارثة وأم حارثة

اسمع خبراً من أخبارهم:

قتل يوم بدر حارثة العابد الزاهد الملازم للمساجد فجاءت أمه أم حارثة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شاكية باكية قالت: يا رسول الله! أخبرني عن حارثة أين هو؛ في النار فأبكيه أم في الجنة فأفرح لما هو فيه؟ قال: (يا أم حارثة أمجنونة أنت؟! إنها ليست جنة ولكنها جنان، وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى).

قال الله جلا في علاه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، وقال جل في علاه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10].

لله قوم أخلصوا في حبه فاختصهم ورضي بهم خداما

قوم إذا هجم الظلام عليهم قاموا فكانوا سجداً وقياما

يتلذذون بذكره في ليلهم ونهارهم لا يفترون صياما

فسيفرحون بورد حوض محمد وسيسكنون من الجنان خياما

وسيغنمون عراساً بعرائس ويبوءون من الجنان مكانا

وتقر أعينهم بما أخفى لهم وسيسمعون من الجليل سلاما

هذا طريقهم فأين السالكون؟ وهذا وصفهم فأين المشمرون؟

كان رجل من الموالي اسمه صهيب وكان يكثر قيام الليل والبكاء، فعوتب على ذلك فقال: إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه.

الوقفة الثانية: من أخبار المشتاقين.

روى ابن المبارك في الزهد عن مولى لـأبى ريحانة قال: قفل أبو ريحانة من بعث غزا فيه، فلما انصرف أتى أهله فتعشى من عشائهم ثم دعا بوضوء فتوضأ منه ثم قام إلى مسجده -يعني مصلاه في بيته- فقرأ سورة ثم أخرى، ولم يزل كذلك كلما فرغ من سورة افتتح الأخرى حتى إذا أذن المؤذن من سحر شد عليه ثيابه، فأتته امرأته فقالت: يا أبا ريحانة قد غزوت فتعبت في غزوتك ثم قدمت إلي فلم يكن لي منك حظ ولا نصيب، فقال: بلى والله ما خطرت لي على بال، ولو ذكرتك لكان لك علي حق، قالت: فما الذي شغلك عنا يا أبا ريحانة ؟ قال: لم يزل قلبي يهيم فيما وصف الله في جنته من لباسها وأزواجها ونعيمها ولذاتها حتى سمعت المؤذن.

الله أكبر!.. لما سمع القوم قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقوله: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة.

قال الحسن : إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه أنت في الآخرة.

وقال رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.

اعلم رعاك الله واعلمي بارك الله فيك! أنه:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

قام رجل من الصالحين يصلي من الليل فمر بقوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] فجعل يرددها ويبكي حتى أصبح، فلما أصبح قيل له: أبكتك آية ما مثلها يبكي، إنها جنة عريضة واسعة، فقال: يا ابن أخي! وما ينفعني عرضها إن لم يكن لي فيها موضع قدم؟

فيا عجباً كيف ينام طالبها؟! وكيف لم يستخدم فيها خاطبها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟! وكيف قر دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟! وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟! وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟!

فسل المتيم أين خلف صبره في أي واد أم بأي مكان

أترى يليق بعاقل بيع الذي يبقى وهذا وصفه بالفاني

اعلم رعاك الله! واعلمي بارك الله فيك! أن من جد وجد، ومن سهر ليس كمن رقد، ومن لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة له.

لسان حال المشتاقين:

إذا اشتغل اللاهون عنك بشغلهم

جعلت اشتغالي فيك يا منتهى شغلي

عن كريب أنه سمع أسامة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل من مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها, ورب الكعبة نور يتلالأ, وريحانة تهتز, وقصر مشيد, ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة, وحلل كثيرة, في مقام أبد, في دار سلمة, وفاكهة خضراء, وحبرة ونعمة, في محلة عالية بهية, قالوا: نعم يا رسول الله! نحن المشمرون. قال: قولوا: إن شاء الله. فقال القوم: إن شاء الله).

هنيئاً لهم سمعوا الأوصاف والأخبار فشمروا، وصدقوا الأقوال بالأفعال، علموا أن السلعة غالية، فقدموا الثمن من الأنفس والأموال، لأن الله اشترى وهم باعوا والثمن الجنة، وعد صادق، وعهد سابق، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

اسمع خبراً من أخبارهم:

قتل يوم بدر حارثة العابد الزاهد الملازم للمساجد فجاءت أمه أم حارثة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شاكية باكية قالت: يا رسول الله! أخبرني عن حارثة أين هو؛ في النار فأبكيه أم في الجنة فأفرح لما هو فيه؟ قال: (يا أم حارثة أمجنونة أنت؟! إنها ليست جنة ولكنها جنان، وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى).

قال الله جلا في علاه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، وقال جل في علاه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10].

لله قوم أخلصوا في حبه فاختصهم ورضي بهم خداما

قوم إذا هجم الظلام عليهم قاموا فكانوا سجداً وقياما

يتلذذون بذكره في ليلهم ونهارهم لا يفترون صياما

فسيفرحون بورد حوض محمد وسيسكنون من الجنان خياما

وسيغنمون عراساً بعرائس ويبوءون من الجنان مكانا

وتقر أعينهم بما أخفى لهم وسيسمعون من الجليل سلاما

هذا طريقهم فأين السالكون؟ وهذا وصفهم فأين المشمرون؟

كان رجل من الموالي اسمه صهيب وكان يكثر قيام الليل والبكاء، فعوتب على ذلك فقال: إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه.

الوقفة الثالثة: الملتقى الجنة.

عن رافع بن عبد الله قال: قال لي هشام بن يحيى الكناني : لأحدثنك حديثاً رأيته بعيني وشهدته بنفسي، قلت: حدثني يا أبا الوليد .

قال: غزونا أرض الروم سنة ثمان وثلاثين وكنا رفقة من أهل البصرة وأهل الجزيرة، وكنا نتناوب الخدمة والحراسة وإعداد الطعام وكان معنا رجل يقال له سعيد بن الحارث ذو حظ من عبادة يصوم النهار ويقوم الليل، وكنا نحرص على تخفيف النوبة عليه لطول قيامه وكثرة صيامه، فكان يأبى إلا بالقيام بكل المهمات وما رأيته في ليل ولا نهار إلا في حالة جد واجتهاد , فأدركني وإياه النوبة ذات ليلة في الحراسة وكنا قد حاصرنا حصناً من حصون الروم فاستصعب علينا، فرأيت من سعيد في تلك الليلة من الجلد والصبر على العبادة ما جعلني أحتقر نفسي.

قال: فلما أصبح الصباح لم ينم، فقلت له: خفف على نفسك فلنفسك عليك حق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اكلفوا من العمل ما تطيقون)، فقال لي: يا أخي! إنما هي أنفاس تعد وعمر يفنى وأيام تنقضي، فأنا رجل ينتظر الموت في أي لحظة.

فبكيت لجوابه ودعوت الله لي وله بالعون والتثبيت، ثم قلت: نم قليلاً لتستريح، فإنك لا تدري ما يحدث من أمر العدو، فنام تحت ظل خيمته وتفرق أصحابنا في أرض المعركة، وأقمت في موضعي أحرس رحالهم وأصلح طعامهم، فبينما أنا كذلك إذ سمعت كلاماً يأتي من ناحية الخيمة، فعجبت فليس هنا إلا سعيداً نائماً، ظننت أن أحداً جاءه ولم أره.

فذهبت إلى جانب الخيمة فلم أر أحداً وسعيد على حاله نائماً إلا أنه كان يتكلم في نومه ويضحك، أصغيت إليه وحفظت كلامه، ثم مد يده وهو نائم كأنه يأخذ شيئاً ثم ردها بلطف وهو يضحك ثم قال: الليل إذاً! ثم وثب من نومه وهو يرتعد خائفاً، فاحتضنته إلى صدري حتى سكن وهدأ، وجعل يهلل ويكبر ويحمد الله، فقلت: ما شأنك؟ فقد رأيت منك عجباً وسمعت منك عجباً، فحدثني بما رأيت!

قال: أعفني من ذلك، فذكرته حق الصحبة وقلت: لعل الله ينفعني بما تقول، فحدثني عما رأى في منامه قال: جاءني رجلان لم أر قط مثل صورتهما كمالاً وحسناً فقالا: أبشر يا سعيد فقد غفر ذنبك, وشكر سعيك, وقبل عملك, واستيجب دعاؤك, وعجلت لك البشرى في حياتك، فانطلق معنا حتى ترى ما أعد الله لك من النعيم، قال: فأتيت على حور, وقصور, وجوار, وغلمان, وأنهار, وأشجار, فأدخلوني في قصري ثم إلى دار فيه حتى انتهيت إلى سرير عليه واحدة من الحور العين كأنها اللؤلؤ المكنون، فقالت لي: قد طال انتظارنا إياك! فقلت لها: أين أنا؟ فقالت: أنت في جنة المأوى، قلت: ومن أنت؟ قالت: أنا زوجتك الخالدة, فمددت يدي إليها، فردتها بلطف وقالت: أما اليوم فلا، إنك راجع إلى الدنيا، قلت: لا أريد الرجوع، فقالت: لا بد من ذلك وستقيم هناك - يعني في الدنيا- ثلاثا ثم تفطر عندنا إن شاء الله تعالى، فقلت: بل الليلة، قالت: إنه كان أمراً مقضياً، ثم قامت من مجلسها، فوثبت لقيامها، فإذا أنا قد استيقظت، وأنا أسألك بالله ألا تحدث بحديثي هذا واسترني ما حييت!

قلت: أبشر فلقد كشف الله لك ثواب عملك، ثم قام وتطهر واغتسل ومس طيباً ثم حمل سلاحه ونزل إلى أرض القتال وهو صائم وظل يقاتل حتى الليل، فلما انصرف أصحابه وهو فيهم قالوا: يا أبا الوليد لقد رأينا من هذا الرجل عجباً، حرص على الشهادة وطرح نفسه تحت السهام والرماح، وكل ذلك يصرف عنه، قلت في نفسي: لو تعلمون خبره لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً!

قال: فأفطر على قليل من الطعام وبات ليله قائماً، فلما أصبح صنع كصنيعه بالأمس، وفي آخر النهار عاد هو وأصحابه وذكروا عنه مثلما ذكروا بالأمس، حتى إذا كان اليوم الثالث انطلقت معه وقلت: لا بد أن أشهد أمره وأرى ما يكون، فلم يزل يقاتل ويكبد الأعداء الخسائر وينكل بهم ويصنع الأعاجيب وهو يبحث عن القتل والموت في مظانه، وأنا أراه وأرعاه بعيني ولا أستطيع الدنو منه، حتى إذا نزلت الشمس للغروب وهو أنشط ما كان، فإذا برجل من أعلى الحصن قد تعمده بسهم فوقع في نحره فخر صريعاً وأنا أنظر إليه، فصحت بالناس، فحملوه وبه رمق من حياة وجاءوا به، فلما رأيته قلت له: هنيئاً لك ما تفطر عليه الليلة، يا ليتني كنت معك فأفوز فوزاً عظيماً، فعض شفته السفلى وأومأ لي ببصره وهو يضحك وقال: اكتم أمري.. والملتقى الحنة، ثم قال: الحمد لله الذي صدقنا وعده! فوالله ما تكلم بشيء غيرها، ثم فاضت روحه وآيات الله تناديه: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].

هذي الجنان تزينت فتفتحت أبوابها طرباً إلى العشاق

أينام من عشق الجنان وحورها وكرائم الجنات للسباق

بل كيف يغفل موقن بعظيم سلـ ربه وبذا النعيم الباقي

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً, وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً)، فذلك قول الله جلا في علاه: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].

فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا أرحم الراحمين.




استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3540 استماع
بر الوالدين 3408 استماع
أحوال العابدات 3408 استماع
يأجوج ومأجوج 3346 استماع
البداية والنهاية 3333 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3268 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3250 استماع
أين دارك غداً 3202 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3095 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3094 استماع