خطب ومحاضرات
استجيبوا لربكم
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، وأسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عنوان هذا اللقاء المبارك في هذه الليلة المباركة: استجيبوا لربكم.
وقد جاءت هذه الكلمات من رب الأرض والسماوات في سياق سورة الشورى، بل في آخر صفحة من صفحاتها، وهذه السورة مكية، ففيها وعد ووعيد، وفيها إنذار من رب العالمين، وفيها أوامر ونواهي، وقد توعد الله الذين خالفوا ولم يستجيبوا بعذاب أليم، ووعد الله أولئك الذين استجابوا لله والرسول بمغفرة ورضوان من رب العالمين.
وحتى يكون لهذه الآية وقع في نفوسنا، وأثر على قلوبنا فتعالوا نسترجع الآيات التي قبلها، ثم ننظر لماذا قال الله جل وعلا: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ [الشورى:47]؟!
قال سبحانه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ *وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44-46].
ثم قال جل في علاه بعد هذه الموعظة القرآنية: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ [الشورى:47-48]، فيقرر الرب تبارك وتعالى مخبراً عن نفسه في هذه الآية الكريمة: أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، وأن من هداه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ثم أخبر عن الظالمين من كفرة وعصاة ومجرمين أنهم لما رأوا النار وعاينوها حقيقة تمنوا الرجعة إلى الدنيا فقالوا: هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44] وهذا كما قال الله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:27-33].
إن أعظم المواعظ هي مواعظ القرآن، وأبلغ المواعظ هي مواعظ الرحمن جل في علاه الذي قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57-58].
وتأمل في قولهم لما عاينوا العذاب: هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ، فإنهم يتمنون ولكن قد انتهى وقت الأمنيات، ثم قال الله: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا أي: على النار والأهوال، خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أي: لحقهم الذل والعار في ذلك اليوم؛ بسبب عصيانهم وتمردهم، وعدم استجابتهم لأوامر رب العالمين، يَنْظُرُونَ أي: إلى النار، مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قال مجاهد : يعني: طرف ذليل حقير منكسر يسارقون النظر خوفاً من الوقوع بها، وهذا الذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة.
ثم قال سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45]، يظهر في ذلك اليوم مقدار الربح والخسارة، والخسارة الحقيقية في ذلك اليوم العظيم أن تخسر نفسك وأهلك، وأن تخسر أحبابك وأقاربك في ذلك اليوم العظيم، يوم يفرّق بينهم إما إلى جنات وإما إلى دركات العذاب المقيم حيث يخسرون لذاتهم وشهواتهم ويخسروا أنفسهم؛ لأنهم لم يستجيبوا لرب العالمين، أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ أي: دائم أبديٌ سرمديٌ، لا خروج لهم منه ولا محيص، وليس هناك من ينصرهم في ذلك الموقف، أو يكون لهم شفيعاً أو نصيراً، كما قال الله: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:46] فأين أصحابهم وشياطينهم لينصرونهم أو يعينوهم أو يخففوا عنهم؟ فليس لهم نجاة ولا خلاص من ذلك اليوم العظيم.
وبعد أن ذكر الله تلك الأهوال والأمور العظام حذر منها وأمر بالاستعداد قبل فوات الأوان، فقال: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا دافع ولا مانع له، فهو يأتي كلمح البصر، كما قال جل في علاه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50].
فالأشقياء يومئذ يقولون: أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:10-13]، مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:118].
فاستجيبوا لربكم بتوحيده وعدم الإشراك به، استجيبوا لربكم بفعل أوامره وترك نواهيه، واستجيبوا لربكم بحب أوليائه ومعاداة أعدائه، واستجيبوا لربكم بحب رسوله وطاعة أوامره وترك نواهيه، واستجيبوا لربكم بالمحافظة على الصلوات، والمداومة على الطاعات، واستجيبوا لربكم بترك النواهي واجتناب المحرمات، فإن لم تستجيبوا: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي: ليس لكم حصون تتحصنون بها، ولا مكان يستركم، فالله محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95].
فالمقصود: استيجبوا لربكم قبل أن يأتي ذلك اليوم العظيم، وعليك يا محمد! -صلوات ربي وسلامه عليه- أن تحذر الناس وتبلغهم هذا الأمر العظيم، وتذكر لهم يوم القيامة وما فيه من الشدائد والأهوال، فإن أعرضوا فإنما عليك البلاغ، وهذا هو المطلوب من الرسل ومن أتباع الرسل ومن الدعاة المخلصين، قال الله عن رسوله: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ [الغاشية:21-24]، ثم قال له: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].
ثم بين الله حال الإنسان عند النعم والرخاء والفرح، وحاله عند النقم والبلاء والشدة، فهناك أناس لا يعرفون الله إلا في الشدة، وأما في الرخاء فهم في لهو ولعب وضياع، كما قال الله: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا [الإسراء:83-84].
قال الله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، قال ابن القيم رحمه الله: ففي الاستجابة لله وللرسول حياة، وعلى قدر الاستجابة تكون هذه الحياة، فبعض الناس قد يأخذ بشيء ويترك شيئاً، فحياته على مقدار الشيء الذي يأخذه، وفيه من الموت بمقدار ما ترك من أوامر الله والتجرؤ على نواهيه، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] أي: بنور الله تبارك وتعالى، وبوحي السماء الذي أنزله على أمين الوحي في الأرض، قال الله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].
فالمطلوب مني ومنك بعد سماع المواعظ القرآنية: الاستجابة لله وللرسول، كما قال الله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
والمطلوب كما قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم:43-45].
والمطلوب كما قال الله: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:31-32].
فها نحن ندعى إلى الاستجابة لأوامر الله قبل أن يحل ذلك اليوم العظيم، ولما دعي أولئك القوم وأمروا بالاستجابة أجابوا وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وكان شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي فقال أبو طلحة لـأنس: اخرج وانظر ما شأن هذا الذي ينادي، فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال أبو طلحة : اخرج فأهرقها، قال: فأهرقتها حتى جرت بها سكك المدينة، فلما قرأت عليهم الآيات: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، فكانت إجابتهم أن قالوا وقد ذعنوا لله رب العالمين: انتهينا ربنا! انتهينا ربنا، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51].
وليس للعبد ولا للأمة خيار غير الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
جاء عند مسلم (أنه لما تنزل قوله تبارك وتعالى في أواخر سورة البقرة: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] جاء الصحابة، وجثوا على ركبهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أمرنا بما نستطيع ففعلنا: أمرنا بالصلاة فصلينا، وأمرنا بالصيام فصمنا، وأمرنا بالجهاد والقتال في سبيل الله فجاهدنا، وأمرنا بالنفقة والبذل والعطاء فأعطينا، ولقد تنزلت آية لا طاقة لنا بها، من منا يستطيع ألا يحدث نفسه، أو يستطيع أن يكتم ما في داخله عن حديث نفسه؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين لما دعوا إلى الاستجابة لله وللرسول فقالوا: سمعنا وعصينا؟! ولكن قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، فلما ذلت لها أنفسهم، وقرت بها قلوبهم، تنزل قوله تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
فلما أيقنوا وتيقنوا واستجابوا لأمر ربهم تبارك وتعالى، وذلت بها الأنفس والقلوب، نسخ الله تلك الآية بقوله تبارك وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286]، فليس للمؤمن والمؤمنة خيار إلا الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
عبد الله! إن لله عبودية في الرخاء، ولله عبودية في الشدة، وينجح الكثير في تحقيق عبودية الرخاء، بينما يفشل الكثير في تحقيق عبودية الشدة، وهل الحياة إلا امتحان واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وهل يظهر الطيب ويظهر الرجال والنساء الصادقون والصادقات إلا في مواقف الشدة والامتحان والاختبار والابتلاء؛ لذلك سنة الله ماضية في امتحان الأولين والآخرين؛ ليعلم الصادق من الكاذب.
في مرة من المرات -حتى تعلم أن الأوامر كانت شديدة على أولئك الرجال والنساء فلم يتخلف منهم رجل واحد عن الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول- ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من أولئك الرجال الصادقين المستجيبين لأوامر الله وأوامر الرسول قائلاً له: (اذهب إلى مكة وائتني برأس
فانظر كيف أن النبي لم يرسل كتيبة ولا أرسل جيشاً كاملاً، وإنما أرسل رجلاً واحداً؛ لأن الرجل منهم في ذلك الحين كان يعدل ألفاً، لأن الرجل من أولئك الرجال الصادقين كان يعدل ألفاً من الرجال.
وخرج عبد الله بن أنيس وحيداً حتى وصل إلى منى حيث أقام خالد الهذلي معسكره، وهناك جاء -والحرب خدعة- وقال له: أنا جئت حتى أنضم إليك وإلى أولئك الذين يريدون أن يقتلوا محمداً صلوات ربي وسلامه عليه، فقربه منهم وأدناه، وبعدها بحين إذا به يسير هو وإياه بعيداً عن الخيام وعن أعين الناس؛ فانتهز الفرصة عبد الله بن أنيس واخترط سيفه فاجتز رقبة الرجل، ورجع يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المهمة قد تمت على أكمل وجه.
والوحي كان قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الجندي قد قام بالمهمة على أكمل وجه، فما إن رآه النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: (أفلح الوجه! خذ عصاتي توكأ عليها أعرفك بها يوم القيامة) وقليل هم المتوكئون! فلما مات عبد الله بن أنيس أمر بتلك العصا أن تدخل معه في كفنه، آية وعلامة على أنه أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومهما كانت الظروف والأحوال فلا بد من الاستجابة لأوامر الله ونواهيه ليس في الرخاء فقط، ولكن في الشدة تظهر معادن الرجال وحقيقة النساء، فالعبودية لا بد أن تحقق لله في الرخاء، ولا بد أن تحقق لله في الشدة.
تأملوا معي في بيعة العقبة وكيف تمت تلك البيعة، فقد تمت بنودها وشروطها على أن يكون الثمن الجنة إن استجابوا لله وللرسول، وحققوا بنود تلك البيعة.
وقد تكلم العباس حين التقى مع وفد الأوس والخزرج فقال: يا معشر الأوس والخزرج! إن محمداً في منعة في قومه ولكنه أبى إلا أن يلحق بكم، فإن أردتم وظننتم أنكم ستوفون له ببيعته فأنتم وما أردتم، وإلا فدعوه فإنه في منعة من قومه، فقال أولئك الرجال الصادقون المستجيبون: انتهيت يا عم النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال: انتهيت، فقالوا: يا رسول الله،! خذ لنفسك ولربك ما شئت وما أردت، فقرأ عليهم القرآن، ثم قرأ عليهم بنود تلك البيعة.
فهذه البيعة نحن في أمس الحاجة اليوم إلى أن نجدد بنودها، ونحن في أمس الحاجة إلى أن نستجيب لبنود تلك البيعة، فوالله إن واقعنا اليوم في أمس الحاجة إلى تجديد تلك البيعة بكل ما فيها على أن نعلم أن الثمن الجنة.
بايعوا على النصرة في العسر واليسر، وبايعوا على النفقة في المنشط والمكره، وبايعوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبايعوا على أن يقولوا كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم، وبايعوا على أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم مما يُمنع منهم إزرهم -أي: نساءهم-.
فقال أبو الهيثم بن التيهان للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلا عليهم بنود البيعة: يا رسول الله! بيننا وبين القوم -يعني: اليهود في المدينة- عهود ومواثيق إن نحن قطعناها من أجل الله ورسوله ثم أظهرك الله أترجع إلى قومك وتتركنا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (بل الدم الدم! والهدم الهدم! أنا منكم وأنتم مني) قالوا: يا رسول الله! إن نحن وفينا بهذه البيعة، بكل ما فيها فماذا لنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: مد يدك نبايعك، فقام أصغر القوم أسعد بن زرارة يبين للقوم مدى خطورة هذه البيعة التي قد أقدموا عليها، فقال: يا قوم! أتدرون على ماذا تبايعون؟ أنتم تبايعون على عداوة القاصي والداني، وسترميكم العرب من قوس واحدة، وأنتم تبايعون على ضياع الأموال، وهدر الدماء، وانتهاك الأعراض، وعلى ترميل النساء، وتيتيم الأطفال، فهذه هي حقيقة البيعة التي تبايعون عليها، فإن كنتم صادقين فعز الدنيا وعز الآخرة، وإلا فذل الدنيا وخزي الآخرة.
قالوا: انتهيت من كلامك يا أسعد ! قال: نعم انتهيت، قالوا: يا رسول الله! مد يمينك نبايعك، فبايعوه على أن يكون لله وللرسول ما وعدوا ويكون لهم الثمن الجنة.
ثم انظر وانظري مدى صدق هؤلاء القوم واستجابتهم لأوامر الله وأوامر الرسول، فبعد أن بايعوا وعانقوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إنا أهل حرب ورثناها كابراً عن كابر، وإن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بعد، لكن هذا دليل على صدق استجابتهم وبيعتهم التي صدقها الله تبارك وتعالى حين قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10].
ثم المواقف تبين مدى صدق هؤلاء الرجال قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18] ونظر الله إلى تلك القلوب الصادقة وإلى تلك القلوب المستجيبة رجالاً ونساءً فقال: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8]، فرضي الله عنهم لما استجابوا لأوامره ونواهيه في الشدة والرخاء، وفي السراء والضراء.
وكم نحن بحاجة إلى صادقين مستجيبين! وكم نحن بحاجة إلى صادقات مستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول في زمن تكالب علينا أعداؤنا من كل مكان!
فنريد أن نحيي تلك البيعة، ونريد أن نحيي ذاك الثمن العظيم، ونريد أن تشتاق الأنفس إلى ما عند الله في جنات النعيم، ثم مرت الأيام والشهور ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بأولئك الذين بايعوا إلى المدينة.
ثم بدأت المناوشات بين معسكر الكفر وبين معسكر الإيمان، وبدأ الكر والفر يمنة ويسرة، فخرجت قافلة من قريش تريد الشام، فاعترضها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ذهاباً، لكنها استطاعت أن تتجاوز ذلك الطريق، لكن تربص لها النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في طريق العودة، فعلمت قريش بالخبر، فخرجت بجندها وصناديدها وكبرائها وفرسانها بألف رجل مدججين بالسلاح، في حين خرج محمد صلى الله عليه وسلم مع نفر من أصحابه لا يتجاوزون الثلاثمائة من الرجال بلا عدة وبلا عتاد أرادوا العير فإذا بهم يلاقون النفير.
فالآن يظهر مدى الاستعداد، وتظهر مدى الاستجابة لله وللرسول، فقد بايعوا في الرخاء على أن يوفوا ويكون الثمن الجنة، والآن أصبح الموقف جللاً، والخطب عظيماً، وتغيرت الأحوال، وتبدلت الظروف، وتآمر المتآمرون، واجتمع الأعداء لاستئصال جذور الإسلام ومحاربة أهله، فماذا هم صانعون في مثل هذا الموقف العظيم؟!
قال الله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:5-8].
فلما استجابوا واستعانوا بربهم قال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فالأمر شورى بينهم، فليس هو -بأبي وأمي- مستبداً برأيه، ولا طاغوتاً من الطواغيت.
قال تعالى: أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، فقال: أشيروا علي أيها الناس؟! أشيروا علي أيها الناس؟! فأبدى المهاجرون رأيهم كـ أبي بكر وعمر .. إلى آخر أولئك الرجال.
والمهاجرون لم يخرجوا إلا وعندهم الاستعداد للاستجابة في كل زمان، وفي كل مكان، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يكرر: أشيروا علي أيها الناس؟! لأن ثقل المعركة سيقع على كاهل الأنصار، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي أولئك الرجال الذين بايعوه عند العقبة في تلك الليلة المباركة على النصرة داخل المدينة.
فالآن هو خارج المدينة أمام جيش عرمرم، وهو في ظروف لم تكن على البال ولا في الحسبان، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم المهاجرون وأحسنوا الكلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم رأي الأنصار، ثم قال: أشيروا علي أيها الناس؟! فتكلم سيد الأوس والخزرج سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، قال: يا رسول الله! كأنك تعنينا؟ -اسمع بارك الله فيك كيف تكون الاستجابة لأوامر الله، وأوامر الرسول في الرخاء وفي الشدة، مهما تبدلت الأحوال ومهما تغيرت الظروف- يا رسول الله! لقد آمنا بك، واتبعناك وصدقناك، فخذ حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، عاد من شئت وسالم من شئت، خذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، ووالله للذي أخذته أحب إلينا مما تركت، والله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها، ما تخلف منا رجل واحد، والله لو خضت البحر لخضناه أمامك ما تخلف منا رجل واحد!
ومن تلك الكلمات العظيمة التي قالها المستجيبون لله وللرسول قالوا: (والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون)، فهكذا تكون الاستجابة لله وللرسول في الرخاء والشدة مهما تغيرت الظروف والأحوال.
(يا رسول الله! إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله وعدني إحدى الطائفتين)، قال تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:42].
ففي المواقف يظهر الرجال، وفي المواقف تظهر النساء الصادقات المستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول، وفي مثل هذه الظروف التي نحياها اليوم نريد أن نرى مواقف الصادقين والصادقات، والمستجيبين والمستجيبات، ففي الرخاء الكل يدعي.. وأما في الشدة:
فكل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاك
فاشتدت الظروف والأحوال على أصحاب محمد صلوات ربي وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، ومع هذا ما تخلف منهم رجل واحد، والأيام تبرهن على صدقهم، وعلى مدى استجابتهم، والأيام والليالي تبين على أنهم استجابوا لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فانتصروا في بدر، وذاقوا حلاوة الانتصار، فأراد الله أن يربيهم فأذاقهم طعم الهزيمة يوم أحد حتى يعرفوا أسباب تلك الهزيمة، فيتجنبوا تلك الأسباب التي لا بد أن يتذوقوها حتى يعرفوا مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار، فالذي حدث في أحد أنه انقلبت الموازين بعد أن خالفوا أوامر الله وأوامر الرسول، فلعدم استجابة واحدة لأوامر الله وأوامر الرسول انقلب الحال حتى كاد يقتل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم العظيم.
وتخيلوا عدم استجابة واحدة قلبت الموازين رأساً على عقب! فكم هي أعداد عدم الاستجابات اليوم؟! أما تداعى القوم علينا كما تتداعى الأكلة على القصعة من كل مكان ومن كل حدب وصوب؟
فقد أصبحنا اليوم عالماً مستضعفاً مستذلاً من جميع الأطراف ومن كل النواحي، ولو كان عندنا استجابة كما كانت عند أولئك الرجال والنساء لما تجرأ علينا أولئك القوم.
لكن لا بد أن ننصف ونقول: لا زال هناك مستجيبون ومستجيبات، فلا بد أن ننصف ونقول: إنه لا زال هناك مستجيبون ومستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتخيل معي في يوم أحد ذلك اليوم العظيم قتل أكثر من سبعين من كبار الصحابة، بل قتل أسد الله حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وقتل سعد بن الربيع وأنس بن النضر، وقتل أولئك الرجال الأفذاذ، ورجعوا محملين بالهموم، نبيهم شج رأسه، وكسرت رباعيته، رجعوا وبهم غم لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، لكن الله قال: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:166-167].
فالشاهد: أنهم رجعوا من المعركة في يوم السبت في النصف من شوال في السنة الثالثة من الهجرة بكل ما تحملوه من الهموم والغموم، وبما تحملوه من المصائب والآلام، فتخيلوا جروحاً تنزف، وأشلاءً تقطعت، وهذا فقد حبيباً! وهذا فقد قريباً! ثم الله يطالبهم في اليوم الثاني بالاستعداد للخروج مرة ثانية، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان تراجع في كلامه وقال: على ما فعلنا بهم لكننا لم نخرج ولم نحقق ما خرجنا من أجله، فراودته نفسه بالرجوع لمهاجمة المدينة مرة ثانية.
فأذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للخروج مرة ثانية، فالمعركة في يوم السبت وفي نهار الأحد أمروا بالاستعداد والخروج مرة ثانية، فكيف تكون استجابتهم مع ما تحملوه من هموم وغموم وجروح وآلام؟!
وكانت الاستجابة كاملة في اليوم الثاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخرج معنا إلا من خرج في اليوم الأول)، فتحامل الرجال على أنفسهم وخرجوا استجابة لأوامر الله وأوامر الرسول، فسطر الله تلك الاستجابة في آيات عظيمة تقرأ حتى يرث الله الأرض ومن عليها: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].
فانظر إلى صدق الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول، فمن استجاب فإنما يستجيب لنفسه، ومن نكص على عقبيه فإنما ينكص على نفسه، ومَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
ومن استجاب لأوامر الله وأوامر الرسول فهو المستفيد الأول من هذه الاستجابة، يستفيد منها في الدنيا، ويستفيد منها في الآخرة، فأما في دنياه فقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
وأما في الآخرة فقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] قالوا: الحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الرحمن الرحيم، وأما من أعرضوا، وأما من غيروا، وأما من بدلوا فلا يلومون إلا أنفسهم، ولن يضروا الله لا من قريب ولا من بعيد، يقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
فالمطلوب: استجيبوا لله وللرسول، والمطلوب: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31].
فاستجيبوا أحبتي! لأوامر الله وأوامر الرسول، وعلى قدر الاستجابة الحقيقية تكون الحياة الحقيقية، وعلى قدر الإقبال على الله يكون مقدار إقبال الله على هذا العبد، (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً) حتى يصل المستجيبون إلى درجة عالية، (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
فيصبح الله له كل شيء، يصبح له السمع الذي يسمع به، والبصر الذي يبصر به كما جاء في الحديث.
فأسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وإياكم من المستجيبين لأوامر الله وأوامر الرسول، وأسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم من الصادقين المستغفرين الرجاعين المنيبين إلى رب السماوات والأرضين.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وإياكم هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وول علينا خيارنا، واكفنا شرارنا، وانصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وقوِّ عزائمهم، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب الأنام! واكبت عدوك وعدونا من يهود ونصارى وحاقدين ومنافقين، إنهم لا يعجزونك ولا يخفون عليك، يا عليم يا خبير يا قوي يا عزيز! ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
انها النار | 3542 استماع |
بر الوالدين | 3421 استماع |
أحوال العابدات | 3410 استماع |
يأجوج ومأجوج | 3348 استماع |
البداية والنهاية | 3335 استماع |
وقت وأخ وخمر وأخت | 3269 استماع |
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب | 3254 استماع |
أين دارك غداً | 3204 استماع |
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان | 3097 استماع |
أين أنتن من هؤلاء؟ | 3096 استماع |