أهمية الوقت وخطورة إهمال تربية الأولاد


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! لقد أقسم الله تبارك وتعالى بالوقت في مواضع عدة، فأقسم جل في علاه بالليل، وأقسم بالضحى، وأقسم بالفجر، وأقسم بالعصر، والله لا يقسم إلا بعظيم، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله العلي العظيم.

وقد أقسم الله بالوقت لعظيم أهميته، ولعظيم خطورته، فالوقت هو الأعمار التي نمتلكها، وهو رأس المال، والوقت إذا مضى فإنه لا يرجع أبداً، فمن منا يستطيع أن يُرجع ساعة من العمر الذي مضى، أو دقيقة، بل ثانية؟! فكلنا نزين المعصم بالساعة، ونحن ننظر إلى عقارب الساعة تسير إلى الأمام، ولا ترجع إلى الخلف أبداً، فقد زينا المعاصم بالساعات ولكن قليلاً منا هم الذين عرفوا قيمة الساعات والأوقات.

وقد قال جل في علاه مبيناً أصناف الناس في استغلال أوقاتهم: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]، فالناس أصناف ثلاثة: قسم لا يشعر بالوقت، ولا يعرف أهميته، ولا يدرك خطورة تضييعه، فهؤلاء يكتشفون أنهم كانوا في حسرة وندامة عند ساعات الاحتضار، وأمنيتهم حينئذ أن يزدادوا في العمر ساعة؛ حتى يستدركوا ما فات.

وقسم يعرفون قيمة الوقت وأهميته، لكنهم أصيبوا بالكسل والفتور، فهممهم لم توصلهم إلى ما يريدون.

والقسم الثالث: أقوام لله درهم! عرفوا قيمة الوقت، وعرفوا أن الوقت هو العمر، وجعلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره، وحسن عمله) شعاراً لهم في حياتهم، فعرفوا قيمة الليل، وعرفوا قيمة النهار، فالليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود ووعيد، قال عمر بن عبد العزيز : الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما.

لقد بين الله جل في علاه حقيقة هذه الحياة وأنها لا تعدو عن كونها أشياء أربعة، فقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، ثم بين طريق النجاة فيها فقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، فالحياة لا تعدو عن كونها أشياء أربعة، كما قال ربنا تبارك وتعالى: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد، وشبهها تبارك وتعالى بالمطر الذي يعجب الكفار نباته، ثم في لحظات يصفر ويصبح حطاماً، ثم تبدو الحقيقة التي لا بد منها في الآخرة: إما عذاب شديد للذين ضيعوا الأعمار والأوقات، وإما مغفرة من الله ورضوان.

إن السباق في الحياة الدنيا على نوعين: إما سباق على الدرهم والدينار كما هو الواقع اليوم، وتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الدينار، وإما سباق على مرضاة الله تبارك وتعالى، ولكل سباق خط نهاية، ونهاية السباق إما نعيم دائم، أو عذاب مقيم، إما: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت.

والسباق يحتاج إلى مطية، والمطية لا بد أن تكون قوية؛ حتى نستطيع أن نقطع السباق، ففي طريق السباق مصاعب وعقبات وآهات وآلام، فإذا نام المسافر واستطال الطريق فمتى يصل إلى المقصود؟ فالمطية: هي الليل والنهار، فنركب مطية الليل ثم ننزل، ثم نركب مطية النهار ثم ننزل، ثم نركب مطية الليل.. وهكذا، حتى نصل إلى آخر السباق.

هناك قصيدة لـسعيد بن مسفر وهي جميلة أسماها: الأيام مطايا، يقول فيها:

هذه الأيام مطايا

أين العدة قبل المنايا؟

أين الأنفة من دار الأذايا؟

أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟

إن بلية الهوى لا تشبه البلايا

وإن قضية الزمان لا كالقضايا

يا مستورين! ستكشف الخفايا

إن ملك الموت لا يقبل الوساطة ولا يأخذ الهدايا

أيها الشاب! ستسأل عن شبابك

أيها الشيخ! تأهب لعتابك

أيها الكهل! تدبر أمرك قبل سد بابك

يا مريض القلب! قف بباب الطبيب

يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب

لذ بالجناب قليلاً، وقف على الباب طويلاً

واستدرك العمر قبل رحيله

وأنت بداء التفريط عليلاً

يا من نذر الموت عليه تدور!

يا من هو مستأنس في المنازل والدور!

لو تفكرت في القبر المحفور

وما فيه من الدواهي والأمور

كانت عين العين منك تدور

يا مظلم القلب! وما في القلب نور

الباطن خراب والظاهر معمور

إنما ينظر للبواطن لا للظهور

يا من كلما زاد عمره زاد اسمه!

يا من يجول في المعاصي فكره وهمه!

يا قليل العبر وقد دق عظمه!

يا قليل العبر وقد تبين أن القبر عما قليل يضمه!

كيف نعظ من نام قلبه لا عقله وجسمه؟!

فالأيام تقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد، وما من يوم تشرق شمسه إلا ومناد ينادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني إذا مضيت لا أرجع أبداً.

فهاهي الأعمار تنقضي، وهاهي الليالي تنطوي، وهكذا هي الحياة، فهاهو المسلسل يعيد نفسه من جديد، انقضت بالأمس اختبارات وامتحانات، وها نحن وإياكم نستقبل أيام الإجازات، فعلى أي حال سنستقبلها؟ هل نستقبلها كما استقبلناها في المرات الماضية والأعمار تضيع هدراً؟ فلو رأيت إنساناً يسير في طريق من الطرقات وبيده رزمة من الريالات، فصار يقذف بها يمنة ويسرة لعددت هذا مجنوناً غير عاقل، مع أن المال يعوض، فماذا تقول في الذي يهدر العمر، ويضيع الساعات، ولا يعرف قيمة الدقائق والثواني؟!

جاء أحدهم إلى العمل متأخراً، وجاء بعذرٍ أقبح من ذنب، قلت له: ما الذي أخرك؟ قال: أطلت السهر ليلة البارحة، قلت: في قيام وقراءة قرآن؟ قال: أتهزأ بي؟! وأنا أعرفه لا يكاد يصلي صلاة الظهر في جماعة، ثم قال: قناة رياضية عرضت ثلاث مباريات من الدوري الأوروبي، شاهدتها مباراة تلو الأخرى، أي: بمعدل ساعتين لكل مباراة! فهذا أضاع ست ساعات أمام الشاشات والقنوات!

أعمارنا تضيع هدراً، فمتى سنعرف قيمتها؟ ومتى سنعرف أن العمر أغلى من الذهب والفضة؟ سنعرف ذلك إذا حاسبنا أنفسنا، وصدقنا مع أنفسنا، فاسأل نفسك يا ابن العشرين! واسأل نفسك يا ابن الثلاثين! واسأل نفسك يا ابن الأربعين والخمسين! كيف انقضت السنوات؟ وكيف انطوت تلك الساعات واللحظات؟ والله إنها أسرع من البرق، انظر إلى قرص الشمس هل يقف؟ هل توقفت الشمس يوماً عن الغروب أو تأخرت يوماً عن الشروق؟

إن مرور الأيام والليالي ليس له إلا دليل واحد وهو: أنني أنا وأنت نقترب من النهاية كلما انقضى يوم وكلما انقضت ليلة، فالعمر والليالي في نقصان، وأنا وأنت نقترب إلى آخر اللحظات، فننتقل أنا وإياك من دار إلى دار، وهي دور أربع، نتنقل من هذه الدار إلى تلك الدار حتى نصل إلى دار القرار، فكنت في بطن أمك في ظلمة يرعاك الله في ذلك المكان، وكنت آمناً مطمئناً في تلك الدار، فخرجت تبكي عندما تغير الحال، فلما استشعرت النور، واستشعرت الفرحة والسرور رضيت بدار الدنيا.

أنت الذي ولدتك أمك باكياً

والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

فخرجت من بطن أمك إلى هذه الدار، فكم ستمكث فيها؟ الله أعلم، لكن خيركم في هذه الدار من طال عمره وحسن عمله، وشركم في هذه الدار، من طال عمره وساء عمله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك).

والناظر في حال كثير من الناس يرى أنهم لا يستعدون للدار التي بعد هذه الدار.

وما دنياك إلا مثل ظل

أظلك حيناً ثم آذن بالزوال

فدار الدنيا سريعة الانقضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل ساعة تحت شجرة ثم تركها)، فالدنيا ساعة.

وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأٍ من بني سلمة وهم يعمرون داراً من دورهم فقال: (الأمر أسرع من هذا يا بني سلمة)، فالأمر أسرع من أن يعمر الناس الدار ويسكنونها.

وكم ستمكث في هذه الدار؟ الله أعلم، فالدنيا امتحان وابتلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز)، فمن بلغه الله الستين فقد أعذره، من بلغه الله الستين فماذا ينتظر؟! كان السلف إذا بلغ أحدهم الأربعين اعتزل الدنيا، واستعد للقاء الله، واشترى كفنه، ولازم المسجد، ولازم الصيام والقيام.

ثم ستنتقل من هذه الدار إلى دار ثالثة: وهي دار القبور، وهي إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، ولك الخيار فأنت الذي تختار، كما قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، ثم ستخرج من تلك الدار، وسيتقرر المصير، فإما إلى جنة، وإما إلى نار، وليست الخسارة أن تخسر صفقة مالية، أو تخسر وظيفة، أو تخسر أي أمر من أمور الدنيا، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45].

وينادون ويسألون كما قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112]، سيسألون عن الأوقات وعن الأعمار وعن الخمسين والستين، قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، فأما الذين فرطوا وضيعوا فيقولون: كما قال تعالى: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113] أي: فاسأل أولئك الذين عرفوا قيمة اللحظات والدقائق والليالي والأيام، ثم يأتيهم التوبيخ الشديد: قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، وقال: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]، بلى قادر، وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28].

وقال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا وسيقف بين يدي ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].

أحبتي في الله! كثير من الناس فرطوا في أوقاتهم، وفرطوا في أعمالهم، ومع زيادة التفريط ضيعوا أبناءهم ومن يعولون، فمع بداية أيام الإجازات انقلبت الموازين في البيوت، فأصبح الليل نهاراً، والنهار ليلاً، وأصبح الأبناء في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل بلا حسيب وبلا رقيب!

واعلم -بارك الله فيك- أنك إن غفلت عن تربية هؤلاء فإن الشارع يربي، والشاشات والقنوات تربي، وأصحاب السوء يربون، والمخدرات والمسكرات تربي، وقد يكون الابن صالحاً لكن مع التفريط والإهمال يصبح من الضائعين.

جاءني أحد الآباء يبكي بدموع حارة وقد مات ابنه، ويريد أن يعرف: هل تسبب هو في ضياعه؟ قال: كان ابني من الصالحين، من الذين يحافظون على الصلوات، ويحفظون القرآن، وفجأة بدأت أحواله تتغير، وبدأ يكثر السهر، وبدأ يلازم الشارع أكثر من لزومه للبيت، وبدأت طباعه تتغير، والطيور على أشكالها تقع.

فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه

فكم فاسقاً أردى مطيعاً حين آخاه

يقول هذا الرجل: وبدأ ابني يسرق، وبدأ يحتال ويكذب، وأهملت الأمر في أوله، ثم بدأ الأمر يتعاظم شيئاً فشيئاً، فبدأت أتتبعه، ثم اكتشفت أن ابني صار مدمناً للمخدرات، فطلبت له العلاج، وأخذته هنا وأخذته هناك، وسافرت به إلى كل مكان، وكان يرفض العلاج، وكلما رجعنا من السفر عاد إلى أصحاب الشر؛ فأخذوه مرة ثانية، فحاولت نصحه بكل الطرق وبشتى الأحوال ولم يكن يستجب للعلاج، فقررت أن أحبسه في الدار، فحبسته في دار فيها دورة مياه - أعزكم الله- يأكل ويشرب، ولا يغادر المكان، وقلت: أحبسه حتى يقضي الله بيني وبينه أمراً كان مفعولاً، فبدأ صياحه يزيد، وقلت لأمه ولأخواته ولأقاربه: لا تفتحوا له الباب، ولا تأخذكم الشفقة والرحمة عليه، لا نريد أن نخسره، فقد خسرناه بما فيه الكفاية، ونريد أن نسترجع ابننا من الضياع الذي بدأ يسير عليه، وصار بكاؤه وصياحه يخف يوماً بعد يوم، وبدأ يستجيب لنا، لكن أصحاب السوء كانوا يترددون حول بيتنا ويسمعونه، إنهم قريبون منه.

ومضت أيام فجاءت جدة العيال لزيارتهم، فلما سمع صوتها أخذ يبكي ورفع صوته بالبكاء قائلاً: ارحميني يا جدة! واسمعيني يا جدة! أنا تبت، وأنا كذا وكذا، فرقت الجدة لأمره، وفتحت له الباب، فالتقطه أصحاب المخدرات مرة أخرى، وخرج معهم، يقول الأب: جئت من وظيفتي في ذلك اليوم فرأيت بابه مفتوح، قالوا لي: جدته فتحت له الباب، قال: فألقي في روعي أني لن أرى ابني بعد ذلك اليوم، مضى يوم ومضى اليوم الثاني، بحثت عنه في كل مكان، ولم يبق جحر ضب إلا دخلته، وفي اليوم الثالث تعبت وأيست من وجوده، أين يختبئون؟ أين يذهبون؟ لا أعلم، وبعد أيام وفي ساعة متأخرة من الليل إذا طارق يطرق الباب، فقلت: اللهم! إني أعوذ بك من طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير، فتحت الباب فإذا بسيارة الشرطة، قالوا لي: أنت فلان بن فلان؟ قلت: نعم، قالوا لي: البس ثيابك فنحن نريدك في أمر هام، فلبست الثياب وانطلقت معهم، فأخذوني إلى مجمع من المجمعات يغلق في تلك الساعات من الليل، فأدخلوني في سرية وفي هدوء تام، وأخذوني إلى دورات المياه، وقالوا لي: تعرف على هذه الجثة، فنظرت إليه فإذا هو ابني ابن التاسعة عشرة من العمر قد فارق الحياة، فأين أصحابه؟ وأين الذين أوصلوه إلى تلك النهاية؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!

ومثل هذا كثير، فكم خسرنا من أبنائنا بمثل هذه الصورة؟ وهذا بسبب تفريط الآباء، وبسبب تضييع البيوت للأمانة، وعدم حفظ الأوقات، فنتركهم هملاً في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل، فلا صلاة فجر يصلونها، ولا صلاة جماعة يحافظون عليها.

فما المطلوب منا أن نصنعه للأبناء؟

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وكيف يكون ذلك؟ يكون ذلك بأن نربيهم على فعل الطاعات، ونربيهم على ترك الفواحش والمنكرات، ونهيئ لهم في البيوت البيئة الصالحة التي يعبدون الله فيها، فنطهر البيوت من الفواحش والمنكرات.

وأزيدكم من الشعر بيتاً؛ حتى تعرفوا مقدار المأساة!

بالأمس القريب جاءني رجل يستفتي، فقلت له: ما سؤالك؟ قال لي: سؤالي عظيم، فالأمر أكبر مما تتصور، استر علي ستر الله عليك، قلت له: ما القضية؟ قال: لي زوجتان، أتعاهد هذه، وأتعاهد تلك، ولي ابن في سن العشرين، يغدو ويروح بلا حسيب وبلا رقيب، فأدمن شرب الخمور فأردت أن أدخله مصحة لكن فات الأوان، فقد اعتدى ابني على ابنتي ابنة السابعة عشرة وهو في حالة سكر شديد! فقلت له: صحح الموقف، قال: مضى وقت التصحيح؛ فالبنت حبلى من الزنى من أخيها وهي الآن في الشهر الرابع!

هذا ما يحدث في بيوت المسلمين اليوم، قلت له: فماذا أصنع؟ قال: أريد أن يقام عليه القصاص، لا أريد أن أراه بعد اليوم، لكن ماذا أصنع بالبنية التي تحمل ابناً في بطنها؟!

وليست هذه بالمرة الأولى التي نسمع بمثل هذا، أما آن لنا أن ننتبه ونربي البنين والبنات، فنهيئ لهم البيئة الصالحة، ونتخلص من الشاشات والقنوات التي أفسدت أخلاق البنين والبنات؟!

اتقوا الله عباد الله! واحفظوا بيوتكم، واحفظوا أبناءكم، واحفظوا أعراضكم، واحفظوا صغاركم، وطهروا بيوتكم من المخالفات قبل أن يقع الفأس على الرأس.

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

اللهم طهر بيوتنا وبيوت المسلمين من الفواحش والمنكرات يا رب العالمين!

اللهم أصلح البنين والبنات، والنساء والأطفال يا حي يا قيوم!

اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين!

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين، وصن أعراضنا، واحقن دماءنا، وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تؤاخذنا بالتقصير، إنك -يا مولانا- نعم المولى ونعم النصير.

عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3545 استماع
بر الوالدين 3429 استماع
أحوال العابدات 3413 استماع
يأجوج ومأجوج 3350 استماع
البداية والنهاية 3337 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3272 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3256 استماع
أين دارك غداً 3207 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3099 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3098 استماع