المسلم بين غربتين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أيها الإخوة: عنوان هذه الكلمة هو (المسلم بين غربتين) وفي نهاية الكلمة أحب أن أسمع من بعض إخواني تحليلاً صحيحاً لهذا العنوان، يبين لنا ما هو المقصود بهاتين الغربتين المذكورتين في العنوان.

فأما الغربة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قد بين لنا في أحاديث كثيرة -ثلاثة وعشرين حديثاً أو تزيد على ذلك- أن الإسلام بدأ في أول أمره غريباً، وأنه سيعود في آخر أمره غريباً كما بدأ أول مرة، حتى إن من العلماء من قال: إن الإسلام سينتهي برجل واحد، كما ابتدأ برجل واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة... والمقصود بالغربة في هذا الحديث؛ هو بعض معانيها اللغوية، فإن العرب يطلقون الغربة على عدة معانٍ:

فيطلقون الغربة على معنى الخفاء والغموض، ومنه قول بعض العلماء؛ أو تسميتهم للألفاظ ذات الدلالة غير الواضحة، في الأحاديث النبوية: غريب الحديث.

فالمقصود بالغريب هنا، هو: اللفظ الذي يوجد في معناه غموض وخفاء ويحتاج إلى كشف وبيان؛ هذا معنىً من معاني الغربة.

المعنى الثاني: من معاني الغربة هو: معنى النـزوح والخروج عن الوطن، ومن ذلك قول الشاعر:

وما كان غض الطرف منا سجية     ولكننا في مدحج الغربان

أي: غريبان، فهما قد نـزحا عن وطنهما.

ومن معاني الغربة أيضاً: أن يوجد الإنسان بين قوم غير قومه، وفي بلد غير بلده، وأهل غير أهله، فهو بينهم غريب؛ لأنهم لهم حال وله حال إلى معان أخرى كثيرة.

وكل هذه المعاني متحققة في معنى غربة المسلم، فالمسلم غريب بمعنى أنه قد نـزح عن وطنه وخرج عنه، إذ أن الإنسان إذا خلف في القوم الذين يقتدي بهم، شعر بالغربة، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يتمثل بقول الشاعر:

إذا ما مضى القرن الذي أنت     فيهمُ وكلفت في قرن فأنت غريب

والمسلم غريب أيضاً، بمعنى أن الناس من حوله في العموم، مخالفون لما هو عليه، عقيدة وسلوكاً ومنهجاً، ولذلك يشعر بينهم بالغربة، بمعنى المخالفة لما هم عليه.

وكذلك المسلم يشعر بالغربة، بمعنى الغموض والاستخفاء؛ لأنه يجد في كثير من الأحيان أن المكانة والحظوة والشهرة والسمعة، هي لغير المتقين، وغير الصالحين من أهل الرياضة، أو أهل الفن، أو المال، أو الجاه أو غيرهم.

هذه بإجمال بعض مشاعر الغربة، التي تنطلق من المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وتنطبق على المعنى الشرعي لها، ويوافقها واقع المسلم في كل زمان وفي كل مكان.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى إشارة مجملة بقوله: {بدأ الإسلام غريباً} فأشار إلى أن هذا الدين بدأ غريباً، والغربة هنا تعني غربة الإسلام في أول مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم.

المقصود ببداية الإسلام غريباً

وإلا فلو نظرنا إلى الدين جملة، وإلى معنى الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدنا أن أول البشر وهو أبونا آدم كان نبياً مكلماً وكان بنوه كذلك تعلموا منه الدين، وكانوا على شريعة من الحق، بل قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[إن الناس ظلوا على شريعة من الهدى عشرة قرون]].

فالمقصود ببداية الإسلام في هذا الحديث، بدايته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول مبعثه بدأ غريباً بفرد واحد وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه سيعود.

المقصود بقوله: وسيعود غريباً

ونستطيع أن نعبر عن كلمة: سيعود بمعنى أنه سينتهي غريباً أيضاً فسيئول الأمر بالمسلمين إلى غربة كالغربة الأولى، ثم ينتهي شأن الدين تماماً، كما كان الحال في الجاهلية الجهلاء، التي لم يكن فيها بريق من نور الهداية إلا القليل.

فهذه الغربة الأخيرة، التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: {وسيعود غريباً} تحتمل المعنى الذي أشرت إليه وهو في نظري معنى قوي، فيكون الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ما سيكون عليه الأمر بعد خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد نـزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقتالهم للدجال، وقتلهم له، واستقرار شأن الإسلام في الأرض، وضربه بجرانه فيها، حيث يبدأ الإسلام بعد ذلك يتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يضعف شأن المسلمين، وحتى يبعث الله الريح الطيبة، فتقبض روح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فلا يبقى أحد في الأرض يقول الله الله، أي: لا يبقى أحد في الأرض يقول: لا إله إلا الله.

فهنا نقول: إن الإسلام عاد غريبا كما بدأ، واستحكمت الغربة استحكاماً، لا مطمع في زوالها وارتفاعها بعده، هذا الاحتمال الأول في الحديث، وعلى هذا الاحتمال، يكون قوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} بمعنى العودة التي لا مطمع في الخروج منها؛ لأن الشيء إذا بدأ في صورة وعاد في صورة إلى نفس الصورة، نقول: إنه عاد عودة لن يتغير بعدها.

أما الاحتمال الثاني -وهو معنى أشمل للحديث- فهو: احتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشار بهذا الحديث إلى ما سيحصل للمسلمين من ضعف وتقصير في جوانبهم العقائدية، والعملية وغيرها، وهذا أمر بدأ منذ زمن قديم، ونستطيع أن نقول إنه بدأ في زمن مبكر جداً من تاريخ الإسلام، واستمر في المسلمين إلى هذا اليوم، وإلى أن يشاء الله، وهو يتفاوت بين زمان وزمان ومكان ومكان.

فقد تستحكم الغربة في بلد من البلدان، حتى يضيق الخناق على المؤمنين وتكتم أنفاسهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بشيء من دينهم، ولا من شعائرهم، وقد يتنفس المسلمون الصعداء في بلد آخر وترتفع رايتهم، بل قد يكتب لهم النصر والتمكين في بلد من البلدان، فالغربة تتفاوت بين مكان ومكان.

وكذلك تتفاوت بين زمان وزمان في سائر الأمكنة، فقد يعيش المسلمون غربة شديدة، ثم يبعث الله المجدد الموعود أو المجددين الموعودين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن، الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فبمجيء هؤلاء المجددين يضعف شأن الغربة، ويستحكم شأن الدين والإسلام، وترتفع الغربة شيئاً ما.

إذاً: فالغربة تتفاوت بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان.

هذا هو المعنى الثاني، وعليه يجب التنبيه إلى أمر، وهو: أن وجود الغربة المستحكمة في الأمة المحمدية، أمر غير ممكن ولا متصور وجوده، إلا بعد انتهاء عهود المسيح عيسى بن مريم، والمهدي، ومجيء الريح الطيبة، التي تقبض أرواح المؤمنين، أما قبل ذلك فلا يتصور أن تعيش الأمة الإسلامية غربة مستحكمة، في جميع البلدان وفي جميع الأزمان.

والسبب في هذا، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث المتواتر الذي يقطع بصحته وثبوته كل طالب علم، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تزال طائفة من هذه الأمة، على الحق منصورة ظاهرة، تقاتل حتى يأتي أمر الله وحتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال}.

ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، أحد هذه المواضع في كتابه القيم: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أنه لا يتصور وجود أمة جاهلية مطلقة في الأمة المحمدية أبدا، اللهم إلا ما يكون بعد قبض أرواح المؤمنين فهنا لا يبعد أن تنقرض الأمة المحمدية وتنتهي، وتسيطر الجاهلية على الأرض كلها قبيل قيام الساعة.

وإلا فلو نظرنا إلى الدين جملة، وإلى معنى الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدنا أن أول البشر وهو أبونا آدم كان نبياً مكلماً وكان بنوه كذلك تعلموا منه الدين، وكانوا على شريعة من الحق، بل قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[إن الناس ظلوا على شريعة من الهدى عشرة قرون]].

فالمقصود ببداية الإسلام في هذا الحديث، بدايته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول مبعثه بدأ غريباً بفرد واحد وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه سيعود.

ونستطيع أن نعبر عن كلمة: سيعود بمعنى أنه سينتهي غريباً أيضاً فسيئول الأمر بالمسلمين إلى غربة كالغربة الأولى، ثم ينتهي شأن الدين تماماً، كما كان الحال في الجاهلية الجهلاء، التي لم يكن فيها بريق من نور الهداية إلا القليل.

فهذه الغربة الأخيرة، التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: {وسيعود غريباً} تحتمل المعنى الذي أشرت إليه وهو في نظري معنى قوي، فيكون الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ما سيكون عليه الأمر بعد خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد نـزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقتالهم للدجال، وقتلهم له، واستقرار شأن الإسلام في الأرض، وضربه بجرانه فيها، حيث يبدأ الإسلام بعد ذلك يتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يضعف شأن المسلمين، وحتى يبعث الله الريح الطيبة، فتقبض روح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فلا يبقى أحد في الأرض يقول الله الله، أي: لا يبقى أحد في الأرض يقول: لا إله إلا الله.

فهنا نقول: إن الإسلام عاد غريبا كما بدأ، واستحكمت الغربة استحكاماً، لا مطمع في زوالها وارتفاعها بعده، هذا الاحتمال الأول في الحديث، وعلى هذا الاحتمال، يكون قوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} بمعنى العودة التي لا مطمع في الخروج منها؛ لأن الشيء إذا بدأ في صورة وعاد في صورة إلى نفس الصورة، نقول: إنه عاد عودة لن يتغير بعدها.

أما الاحتمال الثاني -وهو معنى أشمل للحديث- فهو: احتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشار بهذا الحديث إلى ما سيحصل للمسلمين من ضعف وتقصير في جوانبهم العقائدية، والعملية وغيرها، وهذا أمر بدأ منذ زمن قديم، ونستطيع أن نقول إنه بدأ في زمن مبكر جداً من تاريخ الإسلام، واستمر في المسلمين إلى هذا اليوم، وإلى أن يشاء الله، وهو يتفاوت بين زمان وزمان ومكان ومكان.

فقد تستحكم الغربة في بلد من البلدان، حتى يضيق الخناق على المؤمنين وتكتم أنفاسهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بشيء من دينهم، ولا من شعائرهم، وقد يتنفس المسلمون الصعداء في بلد آخر وترتفع رايتهم، بل قد يكتب لهم النصر والتمكين في بلد من البلدان، فالغربة تتفاوت بين مكان ومكان.

وكذلك تتفاوت بين زمان وزمان في سائر الأمكنة، فقد يعيش المسلمون غربة شديدة، ثم يبعث الله المجدد الموعود أو المجددين الموعودين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن، الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فبمجيء هؤلاء المجددين يضعف شأن الغربة، ويستحكم شأن الدين والإسلام، وترتفع الغربة شيئاً ما.

إذاً: فالغربة تتفاوت بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان.

هذا هو المعنى الثاني، وعليه يجب التنبيه إلى أمر، وهو: أن وجود الغربة المستحكمة في الأمة المحمدية، أمر غير ممكن ولا متصور وجوده، إلا بعد انتهاء عهود المسيح عيسى بن مريم، والمهدي، ومجيء الريح الطيبة، التي تقبض أرواح المؤمنين، أما قبل ذلك فلا يتصور أن تعيش الأمة الإسلامية غربة مستحكمة، في جميع البلدان وفي جميع الأزمان.

والسبب في هذا، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث المتواتر الذي يقطع بصحته وثبوته كل طالب علم، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تزال طائفة من هذه الأمة، على الحق منصورة ظاهرة، تقاتل حتى يأتي أمر الله وحتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال}.

ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، أحد هذه المواضع في كتابه القيم: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أنه لا يتصور وجود أمة جاهلية مطلقة في الأمة المحمدية أبدا، اللهم إلا ما يكون بعد قبض أرواح المؤمنين فهنا لا يبعد أن تنقرض الأمة المحمدية وتنتهي، وتسيطر الجاهلية على الأرض كلها قبيل قيام الساعة.

لقد كانت البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في جميع شئونها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وقد سيطرت الروح الجاهلية على الدنيا كلها وعلى الأجناس كلها، واتسم ذلك العصر بالجهل، والهوى، والنقص، والتحيز، والتعسف وغيره من خصائص البشر حين يتخلون عن الديانات السماوية.

ومع هذه الجاهلية، فقد غاب تأثير الديانات السماوية في الأرض أو كاد، حتى إنك لا تكاد تجد في الأرض من المستقيمين على دين الله، إلا أفراداً يعدون على الأصابع.

وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى قال: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطاناً، وإن الله تبارك وتعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} وإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قال الله تعالى لنبيه: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنـزلت عليكم كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: يا رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك فاغزهم نغزك وأنفق عليهم فسننفق عليك، وأبعث جنداً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك.}.

هذا الحديث العظيم -أيها الإخوة- أريد أن أقف عنده وقفات لنستدل منه:

أولاً: بعض جوانب الانحراف البشري، الذي وقع فيه الناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أشار عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، إلى انحراف الناس في عدة جوانب:

الانحراف في النواحي الدينية

الجانب الأول: انحراف النواحي الدينية، وفساد حملة الأديان السماوية، من اليهود والنصارى وغيرهم، وهذا الانحراف يكون:

أولاً: بخروج الناس عن الأديان السماوية، بعد ما دخلوا فيها، كما يكون بعدم دخولهم في الأديان السماوية أصلاً، وأخطر صورة من صور الانحراف على مدى التاريخ، هي الشرك بالله عز وجل؛ ولذلك بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث، حيث قال: {وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطاناً}.

الانحراف في الجوانب التشريعية

الجانب الثاني: هو: الانحراف في الجوانب والأوضاع التشريعية، حيث كان الناس يتحاكمون فيما بينهم إلى أوضاع، ونظم، وأعراف، وتقاليد ما أنـزل الله بها من سلطان، إنما كانت بمحض الهوى والآراء البشرية.

وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجانب، في قوله في بداية الحديث القدسي: {كل مال نحلته عبداً حلال، كل مال نحلته عبدا حلال } فهذا إشارة إلى ما كان أهل الجاهلية يفعلونه بأموالهم حيث كانوا يجعلون الأموال لأصنامهم وغير ذلك، وقد أنكر الله عز وجل عليهم بقوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة:103] فهذه إشارة إلى جانب، وهو: انحراف الأوضاع التشريعية.

ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: { وحَرَّمت عليهم ما أحللت لهم} وهذا ما أنكره الله عز وجل في كتابه، حيث قال: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59] فأشار إلى ما آتاهم الله من رزق، فجعلوا منه الحلال والحرام، هل هو بشرع الله أم بالهوى والافتراء؟!

فساد المصلحين

الجانب الثالث من جوانب انحراف البشرية، التي أشار إليها الحديث النبوي، وهذا الانحراف هو قاصمة الظهر- وهو: فساد المصلحين، فإن البشرية، مهما بلغ فيها الانحراف يمكن أن ترجع إلى شرع الله عز وجل وإلى دينه بشرط، هذا الشرط أن يوجد في البشرية من ينهى عن الفساد في الأرض ويدعو إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].

فمهما بلغ الانحراف؛ يمكن أن يرجع الناس إلى الدين، بشرط أن يقوم أناس مصلحون، يدعون إلى دين الله وشرعه، وهؤلاء بالضبط هم الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو حديث المجدد الذي أشرت إليه سابقا، لكن إذا غاب هؤلاء المصلحون، أو انحرفوا فماذا يصلح الناس؟

ولذلك كان بعض السلف يخاطب القراء، وطلاب العلم، والعلماء، والمحدثين، فيقول لهم:

يا معشر القراء يا ملح البلد     ما يصلح الملح إذا الملح فسد

يعني إذا كنتم أنتم- وأنتم ملح الناس وأنتم زين الناس وأنتم صلاح الناس- فسدتم، فكيف يصلح الناس إذا جاءت العلة من قِبلِكم، فمن أين تأتي العافية؟!

وهذه المشكلة التي قامت في الجاهلية، حيث انحرف الناس، حتى أصحاب الديانات السماوية من اليهود والنصارى.

وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: {وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم -والمقت هو أشد البغض- عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} أي: حتى أصحاب الكتب السماوية، انحرفوا، ومقتوا، وسقطوا من عين الله عز وجل، إلا بقايا منهم، وكلمة بقايا تدل على القلة، وأن هؤلاء الصالحين آثار باقية، بعدما انحرف اليهود والنصارى وغيرهم.

وهذه البقايا التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، يمكن أن نقول: إنهم كانوا غرباء في الجاهلية، غربة شديدة فلننظر كيف كانت غربة هؤلاء:-

نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار -بعد ما ذكر هذا الانحراف المجمل- إلى وجود قلائل صالحين، هؤلاء القلائل كانوا متفرقين في الدنيا كلها.

فالأمة العربية -مثلاً- وهي تعاني أشد ألوان الانحراف الذي ذكرناه، وقد ابتليت بانحطاط شديد، في أخلاقها وأديانها وعقائدها، حتى وصلت إلى الحال التي يصفها أبو رجاء العطاردي كما في صحيح البخاري أنهم: [[كانوا يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجراً هو أخير منه، تركوا الحجر الأول، وعبدوا الحجر الجديد]] ووصلوا إلى الحال الذي كان يأخذ بعضهم أربعة أحجار، فيضع ثلاثة منها تحت قِدْره، ويجعل الحجر الرابع له إلهاً يعبده ويصلي إليه، فإذا لم يجد حجراً حثا حثوةً من تراب، جاء بالشاة، فحلبها على هذا التراب فصلى إليه.

وإلى حد الانحطاط الخلقي، الذي كانت النساء فيه -البغايا- يضعن أعلاماً على بيوتهن، حتى يعرفهن الناس فيأتوا إليهن طلباً للرذيلة والخنا والفساد.

وحتى صارت الأمة العربية، لا تعدو أن تكون أمة ذليلة، تابعة لإحدى الدولتين العظميين آنذاك، فارس أو الروم، ومع هذا الانحطاط الشديد الذي ابتليت به الأمة العربية، كان يوجد فيها قلائل ممن يسمون بالحنفاء، وهؤلاء الحنفاء هم الذين بقوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن أشهرهم زيد بن عمرو بن نفيل، وكان هذا الرجل يبحث عن الدين الصحيح، فذهب إلى الشام والتقى بـاليهود، وسألهم عن الدين الصحيح، فلم يجد عندهم علماً، وقالوا لا يمكن أن تكون معنا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله فقال: إنما أفر من لعنة الله، فسألهم عن الدين، فقالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ديانة إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً.

قالوا: فسألهم أين يوجد هذا الدين؟ فلم يذكروا له خبراً، فخرج إلى النصارى، فلم يجد عندهم علماً، وسألهم عن الدين الصحيح قالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، دين إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، فسألهم أين يوجد؟ فلم يذكروا له من ذلك خبراً، فخرج رضي الله عنه وأرضاه، حتى إذا ظهر في الصحراء، رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني على دين إبراهيم حنيفاً، وما أنا من المشركين.

وقد ورد أنه قتل في الصحراء، حيث تعرض له بعض الناس وقتلوه، وورد في صحيح البخاري أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يسند ظهره إلى الكعبة، وينظر إلى قريش وهم يعبدون الأصنام، فيقول لهم: يا معشر قريش! ثم يقول لهم: هذه الشاة خلقها الله عز وجل وأنـزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض العشب، ثم أنتم تذبحونها لغير الله فينكر عليهم أن يذبحوا لغير الله.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أيضاً، أنه التقى به فقدمت له شاة مشوية أو مصلية، فابتعد عنها زيد بن نفيل وقال: لا آكل مما ذبح لغير الله.

وكذلك كان إذا علم أن رجلاً يريد أن يئد ابنته -جرياً على العادة الموجودة، في بعض القبائل في الجاهلية -جاء إليه وقال: لا تئدها، فأنا أكفلها لك؛ لأنهم كانوا يئدون البنات أحياناً؛ لما يجدونه من الجوع والمسغبة، فكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول لمن هَمَّ بوأد ابنته لا تئدها وعَلَّي طعامها وشرابها، فيفتديها منه وفي ذلك يتمدح الشاعر بقوله:

ومنا الذي منع الوائدات      وأحيا الوئيدة لم تؤأد

فافتخروا بتدخله في منع وأد البنات، وبالمناسبة مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه في الجنة فهو مسلم.

إن زيد بن عمرو بن نفيل لم يكن وحيداً في الجاهلية، بل كان يوجد أفراد متفرقون على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانوا يعيشون غربة شديدة في ذلك الوقت، فهذه غربة.

ولما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم، كان مبعثه انتصاراً لهؤلاء الغرباء، المشردين المضطهدين، الذين قتلوا في سبيل الله أو أوذوا أو ضويقوا.

كان مبعثه صلى الله عليه وسلم انتصاراً لهؤلاء القوم، بل كان مبعثه انتصاراً لديانات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه جاء بالدين الذي جدد دين الأنبياء السابقين جميعاً، فكان مبعثه انتصاراً للحقيقة، وهذا جزء من معنى قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] فقد نصر الله عز وجل رسله في الحياة الدنيا، نصرهم بالتمكين لدينهم، سواء في وقتهم أو على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونصرهم بخذلان أعدائهم ومناوئيهم في وقتهم أو بعد ذلك على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى يدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

كان مبعثه صلى الله عليه وسلم، انتصاراً للرسل والأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وقد بعث غريباً فرداً مطلقاً غرابة مستحكمة، ومر وقت من الأوقات، لم يكن في الدنيا كلها مسلم إلا رجل واحد، هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الدنيا كلها تقف في صف وفي معسكر، وهو معسكر الكفر والشرك بالله عز وجل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وحده، يقف في المعسكر الآخر، غريباً وحيداً فريداً ليس معه إلا الله عز وجل.

الجانب الأول: انحراف النواحي الدينية، وفساد حملة الأديان السماوية، من اليهود والنصارى وغيرهم، وهذا الانحراف يكون:

أولاً: بخروج الناس عن الأديان السماوية، بعد ما دخلوا فيها، كما يكون بعدم دخولهم في الأديان السماوية أصلاً، وأخطر صورة من صور الانحراف على مدى التاريخ، هي الشرك بالله عز وجل؛ ولذلك بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث، حيث قال: {وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطاناً}.