تفسير سورة إبراهيم (8)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:31-34].

تقرير الأمر في الآية الكريمة لوحدانية الله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات: قول ربنا جل ذكره: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31] من الآمر ومن المأمور؟ الله هو الآمر والمأمور هو مصطفاه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صاحب هذا الأمر موجود متكلم عليم حكيم هو الله، ومن قال له: افعل وبلغ أليس رسولاً؟ والله إنه لرسول، إذاً: كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل بعيد عن الشبهات والضلالات أن يرد هذه القضية، ما من آية في كتاب الله إلا وهي تقرر عقلاً أن الله موجود حي قيوم عليم حكيم، لا إله إلا هو، وأن محمداً عبده ورسوله ونبيه، والله ما يستطيع ذو عقل أن يردها، كيف يكون كتاب الله بين يديه، ويكون الله غير موجود ويقول: لا إله؟! أي عقول هذه أو فهوم؟! حتى الحيوانات لا تفهم هذا الفهم، هل يستطيع أحدنا أن ينفي قلماً في جيب أحد يقول: هذا ما وجد ولا أوجده أحد؟ فكيف تنفي من أوجد الملكوت كله علويه وسفليه؟!

مفارقة بين أمر الكفرة بالتمتع في الحياة وأمر المؤمنين بالتقرب بالعبادة

الشاهد عندنا في قول ربنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِعِبَادِيَ [إبراهيم:31]، قبل هذه الآية قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم:30]، أمره أن يقول للمشركين والكافرين والملاحدة: تمتعوا في هذه الدنيا بطعامكم وشرابكم ونسائكم وأولادكم، تمتعوا، ثم مصيرهم إلى أين؟ إلى النار.

وقال هنا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِعِبَادِيَ [إبراهيم:31] الذين آمنوا بي وأحبوني وعرفوا جلالي وكمالي، وآمنوا برسالة رسولي، هؤلاء -والله- أحياء.

وأكرر وأعيد القول: المؤمن بصدق حي، والكافر ميت، المؤمن حقاً وصدقاً حي؛ لأن الإيمان بمثابة الروح، فإذا دخلت الروح في جسد حيي، ودلالة الحياة أنك إذا أمرته يطيع، وإذا نهيته يطيع، وإذا ناديته أجاب واستمع نداك، والميت هل يطيع إذا أمرته؟ أو يجيب النداء إذا ناديته؟

ما تتحقق به إقامة الصلاة المزكية للنفس

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم:31] بي رباً وإلهاً، لا رب غيري ولا إله سواي، هؤلاء قل لهم يا رسولنا، مرهم بأن يقيموا الصلاة يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31]، الصلاة تقام أو تصلى؟ الصلاة تقام؛ لأنها لا تقف على قدميها وتصبح صلاة نورانية تزكي القلوب والأرواح والنفوس وتطهرها إلا إذا كانت قائمة، ليس فيها انحراف ولا ميل ولا سقوط ولا تقديم ولا تأخير.

وإقام الصلاة يكون أولاً -معشر المستمعين- بالطهارة الجسدية والقلبية، بحيث يكون المصلي موحداً لله لا يعرف عبادة غير الله، ويكون طاهر البدن والثوب والمكان الذي يصلي فيه، ويستقبل بيت الله سواء كان في الشرق أو الغرب.

ثانياً: أن يفعلها كما نزل جبريل من السماء إلى رسول الله في مكة وصلى به يوماً وليلة، فعرفه بأوقات الصلاة وهيئتها وكيفيتها، والحمد لله؛ فكما صليتم المغرب يجب أن نصلي المغرب هكذا، وكما نصلي العشاء بعد ساعة ونصف فينبغي أن نصلي العشاء كذلك، صلينا الصبح غداً أو اليوم نصليه كما صلينا، هكذا تؤدى بأركانها وبواجباتها وسننها وآدابها، وسر ذلك: هو أنها تنتج وتولد طاقة نورانية في قلب المؤمن، أي: تزكي نفسه، أي: تطهرها، وقد أفلح من زكى نفسه وخاب وخسر من دساها، وهذا حكم الله، أما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

أفلح من زكاها؛ كان أبيض أو أسود، عربياً أو عجمياً، أفلح وفاز بالنجاة من النار وبدخول الجنة دار الأبرار، ولا فوز أعظم من هذا الفوز، ذلك هو الفوز العظيم: وهو النجاة من عالم الشقاء، من عالم العذاب من جهنم ودركاتها، ثم دخول الجنة دار النعيم المقيم في الملكوت الأعلى، ذلك هو الفوز العظيم.

والنفس بم تزكى؟ بم تطيب؟ بم تطهر؟

أولاً: بالإيمان، آمن حق الإيمان ثم أقم الصلاة، الصلاة عملية تزكية لا نظير لها، إلا أنها ومع الأسف إذا لم تؤد على الوجه المطلوب كما بينها جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تفشل في أداء تلك المهمة، ويدخلها العبد ويخرج منها ولا شيء، والدليل على هذا أنه يدخل يصلي ويخرج يعصي الله عز وجل، يسب، يشتم، يحسد، يقول الباطل، أين آثار الصلاة؟

إقام الصلاة: أداؤها على الوجه المطلوب الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولاً: النية، والاعتقاد الصحيح، ثم الأداء لتلك الأعمال والأقوال كما أداها رسول الله وبين له جبريل.

إقامة الصلاة المشروعة نافية للخبث والفساد

وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31]، دعامة ثانية من دعائم المجتمع الطاهر، المجتمع السعيد، المجتمع العزيز، المجتمع الكامل، إي والله العظيم، وأيما مجتمع يخلو من هذين الأمرين فوالله لا سعادة لأهله ولا طهارة ولا صفاء ولا كمال، لأن الشعب، الأمة، القبيلة، الأسرة كلهم إذا أقاموا الصلاة، فهل يبقى فيهم زنا، فجور، كذب، خداع، غش، باطل، منكر؟ والله لا يبقى، ولا نحتاج إلى شرطي واحد ولا بوليس أبداً.

يا شيخ! كيف تقول: ما نحتاج إلى شرطي؟

والجواب: دولة رسول الله عشر سنوات كم كان شرطياً عندها؟ دولة أبي بكر ثلاث سنوات كم كان عنده من شرطي وبوليس؟ دولة عمر عشر سنوات كم كان عندها؟ ماذا نصنع بالبوليس والشرطي؟ كلنا شرطي وكلنا بوليس، إذ كلنا أتقياء وأطهار، لا نرضى بالباطل ولا بالشر ولا بالخبث بحال من الأحوال، فماذا نصنع -إذاً- بالحرس؟ والله الذي لا إله غيره إن هذا لهو الحق.

لو أقمنا الصلاة كما أراد الله وأمر الله وبين رسول الله لانتفى انتفاءً كاملاً كل شر وبخل وخبث وفساد، وقد قلنا لهم: جربوا، أوجدوا لنا قرية من القرى في الشرق أو الغرب يقيم أهلها الصلاة ويجتمعون نساءً ورجالاً وأطفالاً كل مساء بعد المغرب على تلاوة كتاب الله وتدارسه، ثم بعد سنة واحدة نفحص ونتتبع، إن وجدناها يوجد فيها خبث أو شر أو فساد فحينئذ قد تشكون في كتاب الله، ووالله ما يبقى خبث ولا شر ولا ظلم ولا فساد.

الإنفاق دعامة إيمانية قرينة لإقام الصلاة

ثانياً: وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31]، ومرهم بأن ينفقوا أموالهم، ينفقونها سراً وعلانية، والسر الغالب فيه الصدقات التي يراد بها وجه الله، ليست الواجبة الملزمة للعبد كالزكاة، والعلنية الزكاة، ثم قد توجد حال تصبح الصدقة التطوعية الإعلان بها أفضل، لأنها تحمل الآخرين على أن يتطوعوا.

والشاهد عندنا: أنه إذا أقمنا الصلاة والفقراء حولنا والمساكين فكيف يكون ذلك؟ كيف نقيم الصلاة وهم حولنا جياع، عراة، يتألمون من الجوع والمرض؟ فمن هنا فرض الله الزكاة، فرض الله هذه الصدقة، ينفقونها سراً وعلانية، (وينفقوا) بصيغة المضارع المقتضية للحدوث والتجدد.

أنموذج لمجتمع متطهر متكافل

وهنا أعيد القول، أبلغ والله يعلم: لو أن أهل القرية أو أهل الحي في المدن وهم مجتمعون على الإيمان والإسلام يجتمعون في مسجدهم الجامع لهم، الذي يتسع لأفراد الحي أو القرية، أو يوسعونه حتى يتسع، ويصلون المغرب ويجلسون بعده جلوسنا هذا، النساء وراء الستائر، والأطفال صفوف كالملائكة بين يدي الرجال، والرجال أمامهم، ويتلو كل رجل آية من كتاب الله يتغنى بها حتى تحفظ، ويرددها المربي المعلم حتى يحفظها الصغير والكبير والذكر والأنثى، ثم يأخذ في بيانها وشرحها ويضع أيديهم على المطلوب منها، فإن كان عقيدة اعتقدوها، وعقدوها في قلوبهم بحيث لا تنحل إلى يوم القيامة، وإن كان واجباً نهضوا به، وإن كان محرماً عزموا على تركه والبعد عنه، وإن كان أدباً على الفور أخذوا يسمون ويرتفعون بآدابهم وكذلك أخلاقهم الفاضلة، وذلك كل ليلة طول العام.

ثم يوجدون في محرابهم صندوقاً من الحديد، ويقول المربي: معشر الأبناء والإخوان! يا نساء المؤمنين! من زاد على قوته درهم فليودعه في هذا الصندوق، لم؟ من أجل ألا يبقى بيننا من يمد يده، من يتألم لجوعه أو يتحسر لفقره.

معشر الأبناء! معاشر المؤمنين والمؤمنات! ندعوكم، باسم الله، من زاد على قوته درهم فليودعه هذا الصندوق، لا تقل: كيف؟ ها أنتم تودعون فلوسكم في البنوك الربوية، من زاد على قوته درهم فليودعه في هذا الصندوق، وهذا الصندوق له لجنة تربت وتكونت في ذلك المسجد، رجالها: العالم المربي والإمام المصلي والمؤذن وشيخ الحارة أو عمدة الحي، خمسة رجال ربانيون كلهم صدق وطهر ووفاء، والله ما تمضي أكثر من أربعة أشهر حتى يمتلئ الصندوق ويفيض، فإن كانوا في صحراء فإنهم يستطيعون أن ينموا ذلك المال بما ينموا به من الغنم والإبل، وإن كانت الأرض زراعية ينشئون مزارعاً تستوفي تلك الأموال وتوفر أضعافها، أو أرضاً صناعية ينشئون مصنعاً ينتجون به، وفي نهاية السنة من كان أودع ماله لله، لا يريد فضيلة ولا زائداً، يريد الحسنة من الله، لا يعطى شيئاً، والذين أودعوا أموالهم على أن تنمو لهم وتكثر يعطونهم بحسب ما أودعوا، هنا المال الزائد ينفق على من؟ على أهل القرية، يزوجون به العزب، ويبنون به الدار لمن سقطت داره، ويطعمون من جاع، ويكسون من عري، والله ما يبقى بينهم من يسأل غير الله، ومن ثَمَّ تطمئن النفوس، فكل يقول: لم نشح؟ لم نبخل ونحن آمنون والحمد لله؟ إذا مت فأطفالي في حماية هذه الجماعة لا يخافون ولا يرهبون، لم نكنز المال؟ لم ندخره؟ ما فائدة الادخار؟ فتكون الأمة قائمة على أصول الدين لا يجوع بينها جائع ولا يعرى عار، وتنتهي مظاهر البخل والشح وحب الدنيا والتكالب عليها.

ثم تلك الآداب التي يتلقونها كل يوم هي التي تمسح القلوب من أوساخ الدنيا وأوضارها الباطلة، وتمحو كل أثر من آثار الشهوات والباطل، والله ليفيضن المال عنهم وليحولنه إلى بعض القرى، هذا الذي أراده الله بهذه الآية.

قُلْ [إبراهيم:31] يا رسولنا لعبادي المؤمنين ليكملوا ويسعدوا ويتهيئوا للسعادة في الملكوت الأعلى، ليطيبوا ويصفوا، يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31]، عرفتم سر هذا الأمر؟ تكوين مجتمع رباني، وقد قلت لكم: العهد النوراني هل كان فيه من يشحت أو يسأل أو يسرق أو يكذب أو يفجر؟ سدت حاجاتهم وقضيت.

الغفلة سبب التقصير في القيام بالتربية والتعليم المسجدي

قد يقول قائل: لم يا شيخ تردد هذا الكلام طول العام، وكتبت رسائل عامة وزعتها على المسلمين، وما هناك قرية أبداً اجتمعوا ولا أهل حي في مدينة اجتمعوا، لم؟ هل كلفوا بما لا يطيقون؟

أسألكم بالله يا عقلاء يا رحماء: إذا دقت الساعة السادسة ألا يقف العمل في المصانع والمزارع والمتاجر؟ يقف، عادة البشر هذه، يتطهرون ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، وإن ضاق وسعوه، ويجتمعون كل ليلة اجتماعنا هذا، لأننا نقرأ آية ونحفظها ونفسرها ونعزم على تطبيقها ومن الغد ونحن نطبقها يوماً بعد يوم، فما يمضي أربعون يوماً حتى يتغير ذاك الوجه لتلك القرية وذلك المجتمع، ما المانع؟ نحن الآن في حيرة، ما المانع؟ ولا مانع أبداً، لا حكومة تمنع ولا سلطان يقهر، كيف نفسر ذلك؟ نقول: ذنوبنا هي التي أوقعتنا في هذا الهبوط.

جربوا، فما أكثر القرى وما أكثر المدن والأحياء، لم لا يجتمعون على هذا النظام؟ يكونون لجنة في المسجد من إمام المسجد وشيخ القرية أو عمدتها، ثلاثة أو خمسة نفر، هؤلاء يكفي وجودهم في أن يربوا أهل القرية، ما يشذ بينهم شاذ ولا يتطرف متطرف، وإن تطرف أحد استدعوه وأدبوه ثم نفوه وطردوه، ويسودهم الأمن والطهر والصفاء، ويصبحون حقاً أحياء غير أموات، بلغوا معشر المستمعين والمستمعات وموعدنا معكم يوم القيامة.

معنى قوله تعالى: (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال)

إذاً: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31] عجلوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إبراهيم:31]، ألا وهو القيامة، لا شراء ولا بيع، ما تشتري نفسك ولا تبيع ابنك وتعوض نفسك، ولا خلال: لا صداقة ولا مودة ولا محبة، نؤاخذ بذنوبنا، فقط ينظر إلى النفس زكية أو خبيثة، فإن كانت زكية طاهرة فإلى دار السلام، وإن كانت خبيثة منتنة فإلى دار البوار، والله ما سوى هذا بيع ولا شراء ولا خلة ولا صداقة ولا شفاعة، وعند موتنا في القبر تبتدئ هذه القضية.

ما ننسى حكم الله الخالد: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، عجلوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إبراهيم:31]، والخلال والخلة: الصداقة والمودة والمحبة، فحين يكون الإنسان في قبره هل يجد من يشتريه ويبيعه؟ هل يجد صداقة وخلة بينه وبين الناس تنفعه؟ والله ما ينفع، هذا في القبر فكيف بيوم القيامة؟

إذاً: هيا نعجل، بماذا؟ نقيم الصلاة وننفق مما رزقنا الله سراً وعلانية، نعم، أفراد ينفقون أو يقيمون الصلاة ليسوا هم الأمة، لا بد أن يكون على الأقل ثلثا أهل القرية أو ثلثا أهل المدينة، أما خمسة في المائة أو عشرة في المائة فماذا يجدون؟ ماذا ينفعون؟ لو أخرجوا مالهم كله وتصدقوا به هل يجدي؟ لا يجدي، فلا بد -إذاً- من الاجتماع.

وأكرر القول: ما بلغنا أن أهل قرية في العالم الإسلامي -باستثناء البلاد الشيوعية- منعوا من إقام الصلاة أو إيتاء الزكاة أبداً، ما هناك من منعهم، وإنما إذا أصبحوا يحاربون الحاكم فالحاكم يغضب وما يرضى ويضربهم على رءوسهم، هذه سنة الله عز وجل، ولا عجب فيها ولا غرابة، لم نحارب الحكام ونحن أسوأ منهم؟ أين آدابنا؟ أين أخلاقنا؟ أين إيماننا؟ أين صلاحنا؟ أين استقامتنا؟ لو وجدت لغطت أهل بلادنا وأصبحوا كلهم ربانيين نساءً ورجالاً، أما أن نجاهر بالفسق والفجور والباطل والكذب والخيانة والشرك -والعياذ بالله- وسوء الفهم والإدراك ونقول: الحكومة والحاكم! عبث هذا القول، وقد جر من البلاء ما تسمعون وتعرفون، والذي لا إله غيره إني لعلى علم يقيني بما أقول، وسوف تسمعون هذا يوم القيامة.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات: قول ربنا جل ذكره: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31] من الآمر ومن المأمور؟ الله هو الآمر والمأمور هو مصطفاه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صاحب هذا الأمر موجود متكلم عليم حكيم هو الله، ومن قال له: افعل وبلغ أليس رسولاً؟ والله إنه لرسول، إذاً: كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل بعيد عن الشبهات والضلالات أن يرد هذه القضية، ما من آية في كتاب الله إلا وهي تقرر عقلاً أن الله موجود حي قيوم عليم حكيم، لا إله إلا هو، وأن محمداً عبده ورسوله ونبيه، والله ما يستطيع ذو عقل أن يردها، كيف يكون كتاب الله بين يديه، ويكون الله غير موجود ويقول: لا إله؟! أي عقول هذه أو فهوم؟! حتى الحيوانات لا تفهم هذا الفهم، هل يستطيع أحدنا أن ينفي قلماً في جيب أحد يقول: هذا ما وجد ولا أوجده أحد؟ فكيف تنفي من أوجد الملكوت كله علويه وسفليه؟!

الشاهد عندنا في قول ربنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِعِبَادِيَ [إبراهيم:31]، قبل هذه الآية قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم:30]، أمره أن يقول للمشركين والكافرين والملاحدة: تمتعوا في هذه الدنيا بطعامكم وشرابكم ونسائكم وأولادكم، تمتعوا، ثم مصيرهم إلى أين؟ إلى النار.

وقال هنا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِعِبَادِيَ [إبراهيم:31] الذين آمنوا بي وأحبوني وعرفوا جلالي وكمالي، وآمنوا برسالة رسولي، هؤلاء -والله- أحياء.

وأكرر وأعيد القول: المؤمن بصدق حي، والكافر ميت، المؤمن حقاً وصدقاً حي؛ لأن الإيمان بمثابة الروح، فإذا دخلت الروح في جسد حيي، ودلالة الحياة أنك إذا أمرته يطيع، وإذا نهيته يطيع، وإذا ناديته أجاب واستمع نداك، والميت هل يطيع إذا أمرته؟ أو يجيب النداء إذا ناديته؟

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم:31] بي رباً وإلهاً، لا رب غيري ولا إله سواي، هؤلاء قل لهم يا رسولنا، مرهم بأن يقيموا الصلاة يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31]، الصلاة تقام أو تصلى؟ الصلاة تقام؛ لأنها لا تقف على قدميها وتصبح صلاة نورانية تزكي القلوب والأرواح والنفوس وتطهرها إلا إذا كانت قائمة، ليس فيها انحراف ولا ميل ولا سقوط ولا تقديم ولا تأخير.

وإقام الصلاة يكون أولاً -معشر المستمعين- بالطهارة الجسدية والقلبية، بحيث يكون المصلي موحداً لله لا يعرف عبادة غير الله، ويكون طاهر البدن والثوب والمكان الذي يصلي فيه، ويستقبل بيت الله سواء كان في الشرق أو الغرب.

ثانياً: أن يفعلها كما نزل جبريل من السماء إلى رسول الله في مكة وصلى به يوماً وليلة، فعرفه بأوقات الصلاة وهيئتها وكيفيتها، والحمد لله؛ فكما صليتم المغرب يجب أن نصلي المغرب هكذا، وكما نصلي العشاء بعد ساعة ونصف فينبغي أن نصلي العشاء كذلك، صلينا الصبح غداً أو اليوم نصليه كما صلينا، هكذا تؤدى بأركانها وبواجباتها وسننها وآدابها، وسر ذلك: هو أنها تنتج وتولد طاقة نورانية في قلب المؤمن، أي: تزكي نفسه، أي: تطهرها، وقد أفلح من زكى نفسه وخاب وخسر من دساها، وهذا حكم الله، أما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

أفلح من زكاها؛ كان أبيض أو أسود، عربياً أو عجمياً، أفلح وفاز بالنجاة من النار وبدخول الجنة دار الأبرار، ولا فوز أعظم من هذا الفوز، ذلك هو الفوز العظيم: وهو النجاة من عالم الشقاء، من عالم العذاب من جهنم ودركاتها، ثم دخول الجنة دار النعيم المقيم في الملكوت الأعلى، ذلك هو الفوز العظيم.

والنفس بم تزكى؟ بم تطيب؟ بم تطهر؟

أولاً: بالإيمان، آمن حق الإيمان ثم أقم الصلاة، الصلاة عملية تزكية لا نظير لها، إلا أنها ومع الأسف إذا لم تؤد على الوجه المطلوب كما بينها جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تفشل في أداء تلك المهمة، ويدخلها العبد ويخرج منها ولا شيء، والدليل على هذا أنه يدخل يصلي ويخرج يعصي الله عز وجل، يسب، يشتم، يحسد، يقول الباطل، أين آثار الصلاة؟

إقام الصلاة: أداؤها على الوجه المطلوب الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولاً: النية، والاعتقاد الصحيح، ثم الأداء لتلك الأعمال والأقوال كما أداها رسول الله وبين له جبريل.

وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [إبراهيم:31]، دعامة ثانية من دعائم المجتمع الطاهر، المجتمع السعيد، المجتمع العزيز، المجتمع الكامل، إي والله العظيم، وأيما مجتمع يخلو من هذين الأمرين فوالله لا سعادة لأهله ولا طهارة ولا صفاء ولا كمال، لأن الشعب، الأمة، القبيلة، الأسرة كلهم إذا أقاموا الصلاة، فهل يبقى فيهم زنا، فجور، كذب، خداع، غش، باطل، منكر؟ والله لا يبقى، ولا نحتاج إلى شرطي واحد ولا بوليس أبداً.

يا شيخ! كيف تقول: ما نحتاج إلى شرطي؟

والجواب: دولة رسول الله عشر سنوات كم كان شرطياً عندها؟ دولة أبي بكر ثلاث سنوات كم كان عنده من شرطي وبوليس؟ دولة عمر عشر سنوات كم كان عندها؟ ماذا نصنع بالبوليس والشرطي؟ كلنا شرطي وكلنا بوليس، إذ كلنا أتقياء وأطهار، لا نرضى بالباطل ولا بالشر ولا بالخبث بحال من الأحوال، فماذا نصنع -إذاً- بالحرس؟ والله الذي لا إله غيره إن هذا لهو الحق.

لو أقمنا الصلاة كما أراد الله وأمر الله وبين رسول الله لانتفى انتفاءً كاملاً كل شر وبخل وخبث وفساد، وقد قلنا لهم: جربوا، أوجدوا لنا قرية من القرى في الشرق أو الغرب يقيم أهلها الصلاة ويجتمعون نساءً ورجالاً وأطفالاً كل مساء بعد المغرب على تلاوة كتاب الله وتدارسه، ثم بعد سنة واحدة نفحص ونتتبع، إن وجدناها يوجد فيها خبث أو شر أو فساد فحينئذ قد تشكون في كتاب الله، ووالله ما يبقى خبث ولا شر ولا ظلم ولا فساد.




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النحل (25) 4589 استماع
تفسير سورة النحل (4) 4008 استماع
تفسير سورة إبراهيم (9) 3687 استماع
تفسير سورة الحجر (12) 3609 استماع
تفسير سورة النحل (13) 3542 استماع
تفسير سورة النحل (3) 3503 استماع
تفسير سورة إبراهيم (12) 3462 استماع
تفسير سورة النحل (16) 3360 استماع
تفسير سورة النحل (1) 3227 استماع
تفسير سورة الحجر (6) 3158 استماع