تفسير سورة إبراهيم (11)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:42-46].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا السياق الكريم الغرض منه تقوية عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر على دعوته التي يدعو بها إلى ربه، وحمله على الثبات حتى يبلغ دعوته وينصره ربه عز وجل.

فها هو تعالى يقول له: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، يا رسولنا! لا تظن أو تحسب أننا غافلون عما يفعل الظالمون، والظالمون هنا: المشركون، الكافرون، الخارجون عن سنن الله وتعاليمه في خلقه.

الشرك بالله تعالى أفحش الظلم وأقبحه

وأعيد إلى أذهانكم أن الظلم ظلمات، وأن الظلم أنواع، لكن من أشدها قبحاً الشرك بالله عز وجل:

أولاً: لقول الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

ثانياً: أيخلق الله إنساناً ويرزقه ويحفظه في حياته ويطلب منه عبادة معينة فيرفضها ويعبد بها غيره؟ كيف تتصورون هذا الظلم؟ لا أفظع منه أبداً، ولهذا كل الذنوب تحت مشيئة الله إن شاء غفرها وإن شاء أخذ بها، إلا هذا الذنب الذي هو الشرك فإن الله أعلم وأخبر أنه لا يغفره، وجاء ذلك في سورة النساء في آيتين: الأولى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً [النساء:48].

الثانية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:116].

والسر عرفتموه أم لا؟ أيخلقك ويرزقك ويخلق الحياة كلها من أجلك ويدعوك إلى أن تعبده فتعبد غيره؟ أي ظلم أفظع من هذا؟

ومثاله بيناه: شخص في بيتك أنت ربيته وأطعمته وسقيته وكسوته وعلمته، ثم يقابلك بالإعراض عنك وعدم ذكرك والنظر إليك، أي قبح أكثر من هذا؟ فلهذا أحذر المستمعين والمستمعات من الشرك.

مظاهر الشرك بالله تعالى

وللشرك مظاهر، منها: دعاء غير الله، فالذي يسأل حاجته من غير الله أشرك بربه؛ لأن الدعاء حق الله عز وجل إذ قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فمن دعا غير الله جعل ذلك المدعو مثل الله، وانصرف عن الله وأقبل على هذا المخلوق، سواء كان ملكاً من ملائكة السماء أو كان نبياً أو كان ولياً أو كان عبداً صالحاً أو كان ما كان.

ومن مظاهره: الحلف بغير الله، والآن سمعنا من يقول: والنبي، فالحلف بغير الله شرك، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، فالحلف بالشيء تعظيم له وإجلال وإكبار، وإلا فكيف تحلف به؟ تحلف لتعظمه، فمن يستحق التعظيم غير الله؟ لا أحد، إذاً: فمن حلف بغير الله فقد أشرك، فلا تقل: والنبي، ولا والكعبة، ولا والقرآن أبداً، ما عندنا إلا: بالله ووالله فقط، وإن حلفت بصفات الله وقلت: وخالق السموات والأرض، ومنزل هذه الأمطار، ورب البشرية، فأنت تحلف بالله.

أما الحلف بغير الله -سواء كان بالنبي أو بغيره- فهو محرم تحريماً قطعياً وشرك تجب التوبة منه وعدم الإقرار عليه.

وليس عندنا مظاهر الركوع والسجود لغير الله، لكن كان بعض الجاهلين يركعون أمام القبر ويسجدون بين يدي قبر الضريح، أي ضريح من الأولياء، وهذا شرك لا يشك فيه ذو عقل ودين، فلا ركوع ولا سجود إلا لله، حتى إذا صافحت أخاك أو سيدك أو أميرك لا تنحن وتركع، صافحه وأنت مستقيم.

أراد المسلمون في الروضة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يركعوا له أو يسجدوا، فقال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ).

العوام والجهال عندنا في بلادنا الإسلامية ينذرون للأولياء، يقول: يا سيدي فلان! إذا حصل لي كذا وكذا سأفعل كذا وكذا. إما أن يذبح شاة وإما أن يأتي بشموع لذلك الضريح، أو يأتي بأزر حريرية على القبر، هذا شاهدناه وما زال هناك من يفعله وإن قل والحمد لله.

النذر لله، من نذر لغير الله عبد غير الله عز وجل، والنذر لله أن تقول: يا رب! إن فرجت ما بي ذبحت شاة لوجهك، أو صليت ركعتين أو صمت يوماً أو يومين، فهذا مع الله عز وجل نعم، أما مع عباده: يا سيدي فلان! ويا مولاي فلان! إن حصل لي كذا سنفعل كذا، فهذا والله شرك في النذر، والله يقول: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، فيجب أن ننذر لله عز وجل، ومن نذر يجب عليه أن يفي ولا يؤخر.

والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، قررنا هذه الحقيقة، فكل من يأخذ أموال الناس بدون حق ظلم، الذي يسب ويشتم مؤمناً بدون حق ظلم، الذي يقتل أو يسفك دم مؤمن بدون حق ظلم، وهذا وضع الشيء في غير موضعه، حتى الإسراف في الأكل والشرب كما تقدم أيضاً ظلم، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]، زيادة الطعام أو الشراب على البطن تتأذى به ويضرك ويفسد صحتك، فهو ظلم ووضع للشيء في غير موضعه.

هكذا يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، بل الكل بين يديه وهو على علم بهم، وهو إما أن يؤجل العذاب إلى يوم القيامة؛ ليكون أشد، وإما أن يؤجله إلى حين يستوجبونه وينزله بهم.

وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، أي: من كفار مكة وغيرهم.

معنى قوله تعالى: (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)

قال تعالى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ [إبراهيم:42]، لا تقل: ما دام أنه ما أنزل العذاب فهو غافل عنهم أو لا يدري، لا تحسب هذا الحسبان أبداً، ولا تظن هذا الظن، وإنما الحكمة أنه يؤخرهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، ألا وهو يوم القيامة، العيون ما تنظر هنا وهنا مثل الآن أبداً، إنما تنظر فوق فقط إلى حيث العذاب ينزل، شخص البصر: إذا امتد وارتفع، فهم يستطيعون أن يلتفتوا يميناً أو شمالاً، لا تظن أن الله غافل عنهم ما يدري ما يفعلون، ما يكيدون لرسولنا، ولكن العلة في ذلك أنه يؤخرهم ليوم القيامة أو حتى تحين ساعة هلاكهم؛ لأن لها حداً محدوداً وساعة معدودة.

وأعيد إلى أذهانكم أن الظلم ظلمات، وأن الظلم أنواع، لكن من أشدها قبحاً الشرك بالله عز وجل:

أولاً: لقول الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

ثانياً: أيخلق الله إنساناً ويرزقه ويحفظه في حياته ويطلب منه عبادة معينة فيرفضها ويعبد بها غيره؟ كيف تتصورون هذا الظلم؟ لا أفظع منه أبداً، ولهذا كل الذنوب تحت مشيئة الله إن شاء غفرها وإن شاء أخذ بها، إلا هذا الذنب الذي هو الشرك فإن الله أعلم وأخبر أنه لا يغفره، وجاء ذلك في سورة النساء في آيتين: الأولى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً [النساء:48].

الثانية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:116].

والسر عرفتموه أم لا؟ أيخلقك ويرزقك ويخلق الحياة كلها من أجلك ويدعوك إلى أن تعبده فتعبد غيره؟ أي ظلم أفظع من هذا؟

ومثاله بيناه: شخص في بيتك أنت ربيته وأطعمته وسقيته وكسوته وعلمته، ثم يقابلك بالإعراض عنك وعدم ذكرك والنظر إليك، أي قبح أكثر من هذا؟ فلهذا أحذر المستمعين والمستمعات من الشرك.

وللشرك مظاهر، منها: دعاء غير الله، فالذي يسأل حاجته من غير الله أشرك بربه؛ لأن الدعاء حق الله عز وجل إذ قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فمن دعا غير الله جعل ذلك المدعو مثل الله، وانصرف عن الله وأقبل على هذا المخلوق، سواء كان ملكاً من ملائكة السماء أو كان نبياً أو كان ولياً أو كان عبداً صالحاً أو كان ما كان.

ومن مظاهره: الحلف بغير الله، والآن سمعنا من يقول: والنبي، فالحلف بغير الله شرك، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، فالحلف بالشيء تعظيم له وإجلال وإكبار، وإلا فكيف تحلف به؟ تحلف لتعظمه، فمن يستحق التعظيم غير الله؟ لا أحد، إذاً: فمن حلف بغير الله فقد أشرك، فلا تقل: والنبي، ولا والكعبة، ولا والقرآن أبداً، ما عندنا إلا: بالله ووالله فقط، وإن حلفت بصفات الله وقلت: وخالق السموات والأرض، ومنزل هذه الأمطار، ورب البشرية، فأنت تحلف بالله.

أما الحلف بغير الله -سواء كان بالنبي أو بغيره- فهو محرم تحريماً قطعياً وشرك تجب التوبة منه وعدم الإقرار عليه.

وليس عندنا مظاهر الركوع والسجود لغير الله، لكن كان بعض الجاهلين يركعون أمام القبر ويسجدون بين يدي قبر الضريح، أي ضريح من الأولياء، وهذا شرك لا يشك فيه ذو عقل ودين، فلا ركوع ولا سجود إلا لله، حتى إذا صافحت أخاك أو سيدك أو أميرك لا تنحن وتركع، صافحه وأنت مستقيم.

أراد المسلمون في الروضة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يركعوا له أو يسجدوا، فقال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ).

العوام والجهال عندنا في بلادنا الإسلامية ينذرون للأولياء، يقول: يا سيدي فلان! إذا حصل لي كذا وكذا سأفعل كذا وكذا. إما أن يذبح شاة وإما أن يأتي بشموع لذلك الضريح، أو يأتي بأزر حريرية على القبر، هذا شاهدناه وما زال هناك من يفعله وإن قل والحمد لله.

النذر لله، من نذر لغير الله عبد غير الله عز وجل، والنذر لله أن تقول: يا رب! إن فرجت ما بي ذبحت شاة لوجهك، أو صليت ركعتين أو صمت يوماً أو يومين، فهذا مع الله عز وجل نعم، أما مع عباده: يا سيدي فلان! ويا مولاي فلان! إن حصل لي كذا سنفعل كذا، فهذا والله شرك في النذر، والله يقول: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، فيجب أن ننذر لله عز وجل، ومن نذر يجب عليه أن يفي ولا يؤخر.

والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، قررنا هذه الحقيقة، فكل من يأخذ أموال الناس بدون حق ظلم، الذي يسب ويشتم مؤمناً بدون حق ظلم، الذي يقتل أو يسفك دم مؤمن بدون حق ظلم، وهذا وضع الشيء في غير موضعه، حتى الإسراف في الأكل والشرب كما تقدم أيضاً ظلم، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]، زيادة الطعام أو الشراب على البطن تتأذى به ويضرك ويفسد صحتك، فهو ظلم ووضع للشيء في غير موضعه.

هكذا يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، بل الكل بين يديه وهو على علم بهم، وهو إما أن يؤجل العذاب إلى يوم القيامة؛ ليكون أشد، وإما أن يؤجله إلى حين يستوجبونه وينزله بهم.

وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، أي: من كفار مكة وغيرهم.

قال تعالى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ [إبراهيم:42]، لا تقل: ما دام أنه ما أنزل العذاب فهو غافل عنهم أو لا يدري، لا تحسب هذا الحسبان أبداً، ولا تظن هذا الظن، وإنما الحكمة أنه يؤخرهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، ألا وهو يوم القيامة، العيون ما تنظر هنا وهنا مثل الآن أبداً، إنما تنظر فوق فقط إلى حيث العذاب ينزل، شخص البصر: إذا امتد وارتفع، فهم يستطيعون أن يلتفتوا يميناً أو شمالاً، لا تظن أن الله غافل عنهم ما يدري ما يفعلون، ما يكيدون لرسولنا، ولكن العلة في ذلك أنه يؤخرهم ليوم القيامة أو حتى تحين ساعة هلاكهم؛ لأن لها حداً محدوداً وساعة معدودة.

ثم يقول تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ [إبراهيم:43]، أهطع يهطع: إذا أسرع في الجري، هذه الصورة لهم في عرصات القيامة، أبصارهم خاشعة وهم يجيبون دعوة الداعي إلى جهنم مهطعين ورءوسهم مقنعة، وإقناع الرأس كما يكون إلى الأسفل يكون إلى الفوق، ولكن المراد هنا الفوق.

لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إبراهيم:43]، ما يغمضون أعينهم أبداً من شدة الهول والعذاب وما يشاهدونه ويرونه، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إبراهيم:43] أبداً، الآن الحمد لله؛ ننظر وبعد ذلك نغمض أعيننا لنستريح، لكن في تلك الحالة: مُهْطِعِينَ [إبراهيم:43]، مسرعين إلى الداعي مجيبين الدعوة ورءوسهم عالية وعيونهم وأبصارهم شاخصة كأنك تشاهدهم.

لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إبراهيم:43]، والطرف: طرف العين، ما يغمضون أعينهم، ما يرجعون بها إلى ربهم.

وَأَفْئِدَتُهُمْ [إبراهيم:43]، أي: قلوبهم، هَوَاءٌ [إبراهيم:43]، فارغة لا عقل فيها ولا وعي ولا إدراك، أكثر من المجانين، ما فيها قوة إدراك ولا إبصار ولا فهم ولا وعي، هذه قلوبهم فارغة تماماً.

ثم قال تعالى لرسوله: وَأَنذِرِ النَّاسَ [إبراهيم:44]، بعدما حمله على الصبر وبين له أنه ما هو بغافل عن هؤلاء المجرمين الظالمين وإنما يؤخرهم ليوم كذا، وبين ذلك اليوم وبين مظاهره وما يتم فيه، قال له: يا رسولنا! وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [إبراهيم:44]، والإنذار: التخويف، خوفهم من عذاب يأتيهم، حذرهم منه ليأخذوا بالحذر فيؤمنوا ويسلموا ويطهروا قلوبهم ويزكوا أرواحهم بالإيمان والعمل الصالح.

أنذر الناس أبيضهم وأسودهم، اللفظ عام للبشرية كلها: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [إبراهيم:44]، خوفهم من يوم يأتيهم عذاب الدار الآخرة، وقد يأتي العذاب في الدنيا بأنواع البلاء من خسف أو إغراق أو أمراض وأوجاع أو تسليط ظالم عليهم.

وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا [إبراهيم:44]، أي: أشركوا وكفروا، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا [إبراهيم:44]، أي: يا ربنا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [إبراهيم:44]، أعطنا فترة كما أعطيتناها في الدنيا نعبدك فيها ونوحدك.

أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ [إبراهيم:44]، ولا نرفضها ولا نتكبر عنها ولا نعرض عنها بحال، نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم:44] الذين ترسلهم لنا، وهل هذا الطلب يعقل أو يقبل؟ انتهى العمل وانتهت داره، جاءت دار الجزاء وأخذه والحصول عليه، لكن هذا الذي تسمعون والله العظيم ليقولنه بالحرف الواحد، كما أخبر تعالى؛ إذ كتبه في كتاب المقادير، وسوف يقولون هذا القول.

يا رسولنا! أنذر الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [إبراهيم:44]، عذاب يفقد العذوبة من الحياة كلها، سمي العذاب عذاباً لأنه يفقد عذوبة الطعام والشراب والنوم والمشي والجلوس تماماً فلا يبقى عذوبة في شيء، هذا العذاب، لا يبقى معه ما تستطعمه أو تتلذذ به.

وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا [إبراهيم:44]، المشركون الكافرون، ويدخل في ذلك الفسقة والفجرة والمشركون، ولكن إذا كانت الذنوب دون الشرك والكفر فيرجى لهم أن يدخلوا النار ويخرجوا منها، أو لا يدخلونها ابتداء.

ماذا يقولون؟ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ [إبراهيم:44]، اليوم أعرضوا عنها أم لا؟ ما استجابوا، يضحكون من رسول الله ويسخرون وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم:44] الذين ترسلهم إلينا، ولن نعود كما كنا نكفر بالرسل ونكذبهم.

معنى قوله تعالى: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال)

فقال تعالى: قل لهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم:44]، جاء في سورة النحل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38]، كانوا يحلفون في جماعات: والله لا يبعث الله من يموت، فلا تسمعوا لهذه الكلمة ولا تحفلوا بها، إنما يريد أن يعطل حياتكم فقط. كانوا يعتقدون أن لا بعث أبداً، فقالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الصافات:16-17]، أيضاً.

فمن هنا قال تعالى لهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ [إبراهيم:44]، حلفتم من قبل في الدنيا: مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم:44]، والآن تقولون: اعترفنا ونريد أن نرجع إلى الدنيا لنعبد الله ولا نشرك به، وفي هذا تقريع وتوبيخ وخزي وعار لهم.


استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النحل (25) 4608 استماع
تفسير سورة النحل (4) 4014 استماع
تفسير سورة إبراهيم (9) 3695 استماع
تفسير سورة الحجر (12) 3616 استماع
تفسير سورة النحل (13) 3549 استماع
تفسير سورة النحل (3) 3509 استماع
تفسير سورة إبراهيم (12) 3466 استماع
تفسير سورة النحل (16) 3367 استماع
تفسير سورة النحل (1) 3235 استماع
تفسير سورة الحجر (6) 3167 استماع