تفسير سورة النحل (15)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:75-78].

ضلال المشركين باتخاذ عبادة الأصنام زلفى ووسيلة إلى الله تعالى

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أذكركم بأن الآيات نزلت في مكة، وأن أهل مكة كانوا يعبدون الأصنام المعروفة في التاريخ وهي: هبل، واللات، والعزى، ومناة.

هذه الأصنام جيء بها من الشام، جاء بها أحد الهالكين - عمرو بن لحي- وورثها في هذه الديار، بحجة أنها تشفع لهم عند الله فيستغيثون بها ويدعونها ويتضرعون بين يديها، كل ذلك من أجل أن يدفع الله عنهم البلاء ويرزقهم العافية والخير في الدنيا، لا أنهم يعبدونها على أنها خلقت ورزقت، وإنما توسلاً بها إلى الله، وقد أخبر تعالى في هذه القضية بقوله من سورة الزمر: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي: قربى.

والبشرية في ذلك الوقت وقبله وبعده ما كان يوجد بينهم منكر لوجود الله، لا في العرب ولا العجم، لا في الأولين ولا الآخرين، كلهم يؤمنون بخالقهم ورازقهم وأنه الله عز وجل، وإنما يعبدون معه غيره بتزيين الشيطان لهم ذلك.

فطوائف عبدوا الملائكة، لأنهم يؤمنون بأن لله ملائكة؛ إذ بلغهم هذا بواسطة الرسل والكتب الإلهية، لكن عبدوها تقرباً بها إلى الله، فعبدوها بدل أن يعبدوا الله، وأوضح دليل على ذلك عالم النصارى اليوم، فإنهم يعبدون عيسى لا لكونه الخالق الرازق أبداً، بل يتوسلون بعبادته إلى الله، بدعوى أنه ابن الله وأنه روح الله.

وانتقل هذا المرض إلى العالم الإسلامي لما ذهبت القرون النورانية الذهبية الثلاثة، فانتشر بين المسلمين عبادة غير الله، فأصبحوا يعبدون القبور، قبر سيدي فلان وفلان، ويبنون عليها قباباً ويصنعون لها توابيت، ويضعون عليها الحرير والستائر، ويجمرونها بالبخور يوم الخميس وليلة الإثنين، ويسألون ويستغيثون ويستعيذون بالأموات، وهم يؤمنون بالله ولكنهم يحلفون بها، وينذرون لها النذور: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان! إذا تحقق لي كذا فسأذبح لك كذا، أو آتيك بكذا. نساءً ورجالاً، وما نجا وسلم من ذلك إلا العدد القليل، ولكن -والحمد لله- لما انتشرت الدعوة الإسلامية بواسطة هذه الآلات خف ذلك الحال وقل، وأصبح أكثر المؤمنين موحدين، لا يحلفون بغير الله ولا يستغيثون بغير الله، ولا يعكفون على قبر ولي من أولياء الله، ولا يشدون رحلاً لزيارته والعكوف حوله، وسبب ذلك ما دبره الله لعباده من هذه الاتصالات، حيث اتصل العالم الإسلامي بعضه ببعض، وبلغتهم دعوة الله عز وجل، بالكتب والصحف والإذاعات كذلك، فخف -والحمد لله- ذلك البلاء.

المراد بالمثل وبيان حاصل المثلين المضروبين

فهيا بنا مع المثلين اللذين ضربهما الله عز وجل، والأمثال تضرب لأجل تفقيه الناس وتبصيرهم، وإزالة الغفلة والغباوة عن عقولهم، الأمثال: صفة تشبّه بصفة فيعقل الإنسان من ذلك خطأه أو صوابه.

وقد ضرب الله في هذه الآيات مثلين: أولهما: لعبد صالح مؤمن بصير، وآخر جاهل أحمق لا يدري شيئًا.

والمثل الثاني: ضربه تعالى لعبد أبكم لا يسمع ولا ينطق، وضربه لنفسه عز وجل. فما الفرق بين هذا وذاك؟ اسمعوا الآيات شيئاً فشيئاً:

المقصود بضرب مثل حال العبد المملوك وحال من رزق رزقًا حسنًا

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا [النحل:75] يملكه غيره ويتصرف فيه، والعبد المملوك -على الصحيح- لا يملك شيئاً إلا ما قل، وإلا فماله كله لسيده، وهذه اختلف فيها الفقهاء: فذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا حرج أن يملك شيئاً بإذن سيده، وذهب الجمهور إلى أنه لا يملك شيئاً، فهو وماله لسيده.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] ولا على درهم ولا حبة عنب ولا تمرة.. فهو عاجز؛ لأنه مملوك لسيده، لا يستطيع أن يعطيه شيئاً أبداً ، والثاني: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا [النحل:75] إنسان رزقه الله المال والحرية يتصرف في ماله كيف يشاء فيعطي هذا ويمنع هذا، يلبس كذا ويشرب كذا؛ لما أعطاه الله عز وجل فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75] والله لا يستويان، ما قال: هل يستويان. قال: (هل يستوون)؛ لأن (مَنْ) تدل على التعدد.

هذا المثل الأول: رجل فقير مملوك لا يملك شيئاً أبداً كالصنم والحجر، ورجل له مال ورزق يتصرف فيه، كمحمد صلى الله عليه وسلم، هل يستويان؟ لا يستويان.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] هذا الأول، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا [النحل:75] العلم والمعرفة وغيرهما فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75]؟ الجواب: لا. والحمد لله.

إذاً: هل تستوي الأصنام والتماثيل التي تعبد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر وينهى، ويعلم ويربي؟ لا والله، إذاً: فكيف يكرهون رسول الله ويدبرون عن كلامه ويعرضون ويحاربونه ويعادونه، ويكبون على الأحجار يدافعون عنها وينافحون طول حياتهم، أين العقول؟

الجهل أصل كل ضلالة وشقاء

حقاً كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75]، وهذه الحقيقة التي نكررها: كل بلاء، كل شقاء، كل شر، كل خبث، كل فساد مرده والله إلى الجهل، فليذكر هذا العقلاء العارفون بربهم، الجهل هو سبب كل أنواع البلاء والفساد، ونضرب لذلك مثلاً فنقول: أيما قرية عندكم -يا بني فلان- فأعلمكم في القرية أتقاكم لله، ونحلف على هذا بالله، أعلمهم بالله أتقاهم، وأقلهم خبثاً وشراً وفسادًا، وأجهلهم أكثرهم شراً وفسادًا، والعالم كله هكذا، من كان أعلمنا كان أتقانا لربنا، والله عز وجل يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فقد حصر الخشية فيهم، فأخرجها عن الجهال وجعلها في العلماء، فالذي يتقي الله هو من عرف الله وعرف جلاله وجماله وكماله وقدرته ورحمته وألطافه وإحسانه، فهو يحبه ويعبده، وأما الذي ما عرفه فكيف يعبده؟ الذي ما عرف ما يحب الله من الاعتقادات الصحيحة والأقوال السليمة والأفعال الصالحة، كيف يعبد الله؟ الذي ما يعرف ما يكره الله من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة كيف يتركها؟ لا يستطيع، فلا بد من العلم.

والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، هذا أمر أم لا؟ ومن المأمور؟ أليس الناس؟ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من كان لا يعلم يجب أن يسأل ليعلم، ولا يحل لأحد أن يعيش العام والأعوام وهو لا يعرف ما يحب الله ولا ما يكره الله، بل يجب أن يسأل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فلو علم أهل مكة ما عبدوا الأصنام والأحجار وتقربوا إليها وتوسلوا بها، ولذا لما علموا كفروا بالأصنام والأحجار وعبدوا الله عز وجل. فهذا المثل الأول.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أذكركم بأن الآيات نزلت في مكة، وأن أهل مكة كانوا يعبدون الأصنام المعروفة في التاريخ وهي: هبل، واللات، والعزى، ومناة.

هذه الأصنام جيء بها من الشام، جاء بها أحد الهالكين - عمرو بن لحي- وورثها في هذه الديار، بحجة أنها تشفع لهم عند الله فيستغيثون بها ويدعونها ويتضرعون بين يديها، كل ذلك من أجل أن يدفع الله عنهم البلاء ويرزقهم العافية والخير في الدنيا، لا أنهم يعبدونها على أنها خلقت ورزقت، وإنما توسلاً بها إلى الله، وقد أخبر تعالى في هذه القضية بقوله من سورة الزمر: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي: قربى.

والبشرية في ذلك الوقت وقبله وبعده ما كان يوجد بينهم منكر لوجود الله، لا في العرب ولا العجم، لا في الأولين ولا الآخرين، كلهم يؤمنون بخالقهم ورازقهم وأنه الله عز وجل، وإنما يعبدون معه غيره بتزيين الشيطان لهم ذلك.

فطوائف عبدوا الملائكة، لأنهم يؤمنون بأن لله ملائكة؛ إذ بلغهم هذا بواسطة الرسل والكتب الإلهية، لكن عبدوها تقرباً بها إلى الله، فعبدوها بدل أن يعبدوا الله، وأوضح دليل على ذلك عالم النصارى اليوم، فإنهم يعبدون عيسى لا لكونه الخالق الرازق أبداً، بل يتوسلون بعبادته إلى الله، بدعوى أنه ابن الله وأنه روح الله.

وانتقل هذا المرض إلى العالم الإسلامي لما ذهبت القرون النورانية الذهبية الثلاثة، فانتشر بين المسلمين عبادة غير الله، فأصبحوا يعبدون القبور، قبر سيدي فلان وفلان، ويبنون عليها قباباً ويصنعون لها توابيت، ويضعون عليها الحرير والستائر، ويجمرونها بالبخور يوم الخميس وليلة الإثنين، ويسألون ويستغيثون ويستعيذون بالأموات، وهم يؤمنون بالله ولكنهم يحلفون بها، وينذرون لها النذور: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان! إذا تحقق لي كذا فسأذبح لك كذا، أو آتيك بكذا. نساءً ورجالاً، وما نجا وسلم من ذلك إلا العدد القليل، ولكن -والحمد لله- لما انتشرت الدعوة الإسلامية بواسطة هذه الآلات خف ذلك الحال وقل، وأصبح أكثر المؤمنين موحدين، لا يحلفون بغير الله ولا يستغيثون بغير الله، ولا يعكفون على قبر ولي من أولياء الله، ولا يشدون رحلاً لزيارته والعكوف حوله، وسبب ذلك ما دبره الله لعباده من هذه الاتصالات، حيث اتصل العالم الإسلامي بعضه ببعض، وبلغتهم دعوة الله عز وجل، بالكتب والصحف والإذاعات كذلك، فخف -والحمد لله- ذلك البلاء.

فهيا بنا مع المثلين اللذين ضربهما الله عز وجل، والأمثال تضرب لأجل تفقيه الناس وتبصيرهم، وإزالة الغفلة والغباوة عن عقولهم، الأمثال: صفة تشبّه بصفة فيعقل الإنسان من ذلك خطأه أو صوابه.

وقد ضرب الله في هذه الآيات مثلين: أولهما: لعبد صالح مؤمن بصير، وآخر جاهل أحمق لا يدري شيئًا.

والمثل الثاني: ضربه تعالى لعبد أبكم لا يسمع ولا ينطق، وضربه لنفسه عز وجل. فما الفرق بين هذا وذاك؟ اسمعوا الآيات شيئاً فشيئاً:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا [النحل:75] يملكه غيره ويتصرف فيه، والعبد المملوك -على الصحيح- لا يملك شيئاً إلا ما قل، وإلا فماله كله لسيده، وهذه اختلف فيها الفقهاء: فذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا حرج أن يملك شيئاً بإذن سيده، وذهب الجمهور إلى أنه لا يملك شيئاً، فهو وماله لسيده.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] ولا على درهم ولا حبة عنب ولا تمرة.. فهو عاجز؛ لأنه مملوك لسيده، لا يستطيع أن يعطيه شيئاً أبداً ، والثاني: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا [النحل:75] إنسان رزقه الله المال والحرية يتصرف في ماله كيف يشاء فيعطي هذا ويمنع هذا، يلبس كذا ويشرب كذا؛ لما أعطاه الله عز وجل فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75] والله لا يستويان، ما قال: هل يستويان. قال: (هل يستوون)؛ لأن (مَنْ) تدل على التعدد.

هذا المثل الأول: رجل فقير مملوك لا يملك شيئاً أبداً كالصنم والحجر، ورجل له مال ورزق يتصرف فيه، كمحمد صلى الله عليه وسلم، هل يستويان؟ لا يستويان.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] هذا الأول، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا [النحل:75] العلم والمعرفة وغيرهما فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75]؟ الجواب: لا. والحمد لله.

إذاً: هل تستوي الأصنام والتماثيل التي تعبد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر وينهى، ويعلم ويربي؟ لا والله، إذاً: فكيف يكرهون رسول الله ويدبرون عن كلامه ويعرضون ويحاربونه ويعادونه، ويكبون على الأحجار يدافعون عنها وينافحون طول حياتهم، أين العقول؟

حقاً كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75]، وهذه الحقيقة التي نكررها: كل بلاء، كل شقاء، كل شر، كل خبث، كل فساد مرده والله إلى الجهل، فليذكر هذا العقلاء العارفون بربهم، الجهل هو سبب كل أنواع البلاء والفساد، ونضرب لذلك مثلاً فنقول: أيما قرية عندكم -يا بني فلان- فأعلمكم في القرية أتقاكم لله، ونحلف على هذا بالله، أعلمهم بالله أتقاهم، وأقلهم خبثاً وشراً وفسادًا، وأجهلهم أكثرهم شراً وفسادًا، والعالم كله هكذا، من كان أعلمنا كان أتقانا لربنا، والله عز وجل يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فقد حصر الخشية فيهم، فأخرجها عن الجهال وجعلها في العلماء، فالذي يتقي الله هو من عرف الله وعرف جلاله وجماله وكماله وقدرته ورحمته وألطافه وإحسانه، فهو يحبه ويعبده، وأما الذي ما عرفه فكيف يعبده؟ الذي ما عرف ما يحب الله من الاعتقادات الصحيحة والأقوال السليمة والأفعال الصالحة، كيف يعبد الله؟ الذي ما يعرف ما يكره الله من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة كيف يتركها؟ لا يستطيع، فلا بد من العلم.

والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، هذا أمر أم لا؟ ومن المأمور؟ أليس الناس؟ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فكل من كان لا يعلم يجب أن يسأل ليعلم، ولا يحل لأحد أن يعيش العام والأعوام وهو لا يعرف ما يحب الله ولا ما يكره الله، بل يجب أن يسأل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فلو علم أهل مكة ما عبدوا الأصنام والأحجار وتقربوا إليها وتوسلوا بها، ولذا لما علموا كفروا بالأصنام والأحجار وعبدوا الله عز وجل. فهذا المثل الأول.

المثل الثاني: ضربه الله لأبكم أصم لا يسمع ولا ينطق، وضربه لنفسه هو عز وجل أيضًا، سبحان الله العظيم! وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [النحل:76]، اثنان من الرجال، أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:76]، أبكم لا يسمع ولا ينطق، والبكم: الصمم، وهو عدم النطق وعدم السماع أيضاً.

أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ [النحل:76]، حمل ثقيل على أبيه أو على أخيه أو ابن عمه أو مولاه الذي يقوم بشأنه، كلّ عليه كالحمل، كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ [النحل:76]، لا يقدر على شيء، ما يسمع، ولا يبصر، كيف يعيش هذا المخلوق؟! كيف يتحمل مسئوليته أخوه أو عمه أو أبوه؟! وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]، حيثما يقول له: اذهب إلى كذا.. امش إلى كذا.. لا يأتي بخير، أبكم ما ينطق وما يسمع، هذا مثل الأصنام التي تعبد والعياذ بالله تعالى:

أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:76]، هل يستوي هذا الأبكم الأصم الذي لا يسمع، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، لا يستويان أبداً، والمراد بقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:76]، يعني: نفسه عز وجل، ذهب إلى هذا ابن جرير الطبري وكثير من المفسرين، وهو أن هذا المثل ضربه الله لنفسه، فهو تعالى العدل، وهو على صراط الجنة يدعو الناس إليها، فكيف يستويان؟

إذاً: بطلت عبادة غير الله، فالعابدون لغير الله ساقطون هابطون؛ إذ لا بصيرة لهم ولا سمع يسمعون به، وهذا هو المثل الثاني.

يقول تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ [النحل:76]، الأبكم: الذي لا يسمع ولا ينطق، وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ [النحل:76]، على من يخدمه أو يعيّشه معه، ثقيل عليه كالحمل الثقيل، أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]، اذهب إلى السوق، إلى البستان إلى كذا.. ما يستطيع ولا يقدر على شيء، كالصنم

وهو َمَثل الأصنام، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:76] والحق والخير، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، إلى دار السلام، إلى السعادة والكمال في هذه الدنيا، هل يستويان؟ الجواب: والله لا يستويان. ومعنى هذا: أنه بطلت عبادة غير الله، ولن يصح أبداً بحال من الأحوال أن نلتفت إلى غير ربنا، لا بالدعاء والضراعة، ولا بالتوسل والاستغاثة، ولا بالنذر ولا بالركوع ولا بالسجود، ولا بالرهبة والرغبة أبداً، إنما الله فقط هو الذي يرهب ويرغب فيما عنده ويعبد ويذل له ويخضع، أما غير الله - سواء كان ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو أصناماً أو أحجاراً- فالكل لا يستحقون أن يعبدوا، وهذان المثلان بهما تطهرت هذه الديار وأصبحت كلها أنوارًا تشع.

ثم قال تعالى وقوله الحق: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النحل:77]، هذه حقيقة.

حقيقة الغيب وبيان وجوب التوسل إلى الله عالم الغيب بما شرع

قل لا يعلم الغيب إلا الله. الغيب: ما غاب عن أسماعنا وأبصارنا، الغيب لله هو الذي يعلمه، فهو الذي يدبر الأمر كيف يشاء، وهو الذي يعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويسعد ويشقي، وهو أعلم بالخلق؛ لأنه خالقهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

إذاً: له غيب السماوات والأرض، فيجب أن نقبل عليه، مستغيثين، مستعيذين، متواضعين، متوسلين بما طلب منا أن نتوسل به إليه، وبم نتوسل إلى الله؟ هل بسيدنا رسول الله؟ أم بابنته فاطمة ؟ أو بصهره علي ؟ بم نتوسل؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]، هيا نتوسل إلى الله بما يحب أن نتوسل به إليه، فمثلاً عندنا: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )، قلهما ورددهما وأنت ماش وأنت قاعد، تتوسل بهما إلى الله ليرضى عنك ويحبك، قم فتوضأ إن كنت على غير وضوء، واستقبل بيت الله، وقل: الله أكبر، وادخل في مناجاة مع الله بالدقائق إن شئت أو بساعة كاملة، واسأله حاجاتك وطلباتك، واستعذ به مما تخاف، وسله كل ما تريد؛ لأن الواجب علينا هو أن نتوسل إلى الله بما يحب أن نتوسل به إليه من هذه العبادات التي شرعها من أجل التوسل إليه بها، فنتملق دائماً لله ونتوسل إليه ليسعدنا ولا يشقينا، ويعزنا ولا يذلنا، وجلوسنا هذا توسل إلى الله، فكل من جاء لحلقة علم يريد أن يعرف ويتعلم كان متوسلاً إلى الله بجلوسه. أما أن نتوسل بالأموات والأصنام والأحجار فهذا خطأ فاحش، وضلال مبين، لا يجوز أبداً أن تقول: يا رسول الله! امدد يديك، يا رسول الله! أنا في حماك .. أنا بجوارك، كما يفعل العوام، هذا باطل والله لا يجوز، فلنتق الله ولنوحد الله في عبادته.

قال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، متى نلقى ربنا؟ الغيب لله. متى تقوم الساعة؟ الأمر لله. من منا المقبول ومن المردود؟ الأمر لله، الغيب لله. إذاً: من منا سيسعد ومن منا سيشقى؟ الغيب لله. فلنرجع إلى من بيده الغيب وبيده ملكوت كل شيء، هذا الذي نطرح بين يديه ونسأله.

معنى قوله تعالى: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب)

وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، ما المراد بالساعة؟ الساعة: هي اللحظة التي تقوم فيها القيامة، وتنتهي فيها هذه الحياة؛ إذ الظرف والوقت الذي تنتهي فيه هذه الحياة الدنيا يسمى بالساعة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، فجأة فقط، وساعتنا نحن الصغيرة القليلة، ساعة موتنا من يعلمها؟ علمها عند الله عز وجل، وهي أقرب ما يكون.

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل:77]، ولمح البصر سريع؛ لأن أمر الله تعالى بين الكاف والنون، كن فيكون فقط، هذه أقل من لمح البصر، كن فكان.

قال تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل:77]، قال: الساعة، وهي الساعة المعروفة، البشرية كلها قبل الإلحاد والعلمانية كانوا يؤمنون بالدار الآخرة وأن الحياة هذه تنتهي أيضاً، فهي الساعة المعهودة.

عموم قدرة الله تعالى

إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، (أَوْ) هنا بمعنى: بل هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل:77]، لا يعجزه شيء، وقد أحاط علمه بكل شيء، فلا توجد ذرة في الكون لا يعلمها الله، وكيف وهو خالقها، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]؟

ثانياً: حكمته -والله- لا يخلو منها شيء، فهي من الذرة إلى المجرة؛ لأن كل شيء أوجده الله لحكمة، فليس هناك لهو ولا عبث، وحكمته توجد في كل شيء، ولا يخلو منها شيء، وكذا قدرته لا يعجزها شيء، علمه أحاط بكل شيء، إذاً: فهذا الذي يستحق أن نذعن له ونخضع ونذل ونسأله حاجاتنا ونطلب منه ما نريد، لا التماثيل ولا الأصنام ولا القبور ولا الأحجار.

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل:77]، لا يستثنى من هذا العموم شيء أبداً، وقد قال السيوطي في تفسيره: إلا وجود ذات كذاته. ولا حاجة إلى هذا أبداً، فهو تعالى يخاطبنا بما نعلم، ربنا على كل شيء يريده قدير: خَلْق السماوات وإفناؤها، وخلق الأرض وإبادتها كما يشاء، ولا أقول: إلا ذاته تعالى؛ فلا داعي لهذا، ولكن حين تسأله عز وجل اسأله ما جرت سنته بوقوعه، لا تغل في الدعاء، لا تقل: اللهم ردني شاباً كما كنت وأنت في السبعين والثمانين، ولا تقل المرأة: يا رب حولني إلى ذكر وهي أنثى، هذا لا يجوز، هذا هو الغلو في الدعاء.