تفسير سورة الحجر (3)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألف ألفٍ وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن مع هذه الآيات من سورة الحجر، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ * وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر:12-18].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر:12]، اللفظ يحتمل معنيين، ذكرهما أهل التفسير من الصحابة والتابعين.

قالوا: من الجائز أن يكون القرآن، يدخله الله في قلوب المجرمين ولا ينتفعون به أبداً كأن لم يسمعوه، فهم يسمعونه يدخل في قلوبهم ويسلكه الله فيها ثم يخرج ولم ينتفعوا بشيء منه، وذلك لفقدان الاستعداد لقبول الحق بسبب الشرك والحسد والبغي والعناد والظلم، والفساد.

قالوا: وجائز أن يسلك الكفر والشرك والعناد والحسد في قلوبهم حسب سنة الله عز وجل فيهم، من أصر على الكفر وعلى الفسق والفجور والحسد؛ تمكن ذلك منه وانخرط في قلبه واختلط به، فأصبح أعمى لا يسمع ولا يبصر.

والمخبر بهذا هو الله جل جلاله، قال تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ كما سلكناه في الأمم السابقة نسلكه اليوم في قلوب المجرمين، وكلا التوجيهين حق، إما أن القرآن لا يتخلل قلوبهم فيسلكها ولا ينتفعون به؛ لأنهم أموات لا يعون ولا يسمعون.

وأما الوجه الثاني وهو صحيح: أن الإجرام والكذب والعناد والمكابرة والشرك وهذه العظائم تخللت في قلوبهم وانتظمت بها فلا تخرج، فتدعوهم وتصيح فيهم وتبين لهم وتقرأ القرآن فلا يستفيدون.

هذا الذي أخبر الله تعالى به، وفائدة ذلك لنا: أن نطهر قلوبنا من تلك الأنجاس والأرجاس التي تحول بيننا وبين سماع كلام الله وقبول هدايته، فلا حسد ولا ظلم ولا بغي ولا شرك ولا كفر، ولكن إيمان واستقامة وحب للخير وعيش على الهدى والمعروف.

بالمناسبة: زارني بعض الإخوان من ديارنا الجزائرية وذكر لي فظيعة من الفظائع، فكان لابد وأن نوصي الحاضرين من أبنائي أن يقوموا بواجبهم.

هذه الفظيعة: هي أنه بعد أن انتشر التوحيد على يد ابن باديس وقبله العقبي والإبراهيمي وغيرهم من العلماء، وانتهت القباب والقبور والطرق والعبادات الباطلة، أخبروني أنهم الآن في وقت الفتنة أعادوها من جديد، فهم يبنون القباب ويذبحون لها، ويجمعون الفلوس للذبائح على القبور، فأنا: أشهد الله أني قد بلغت، فيا معشر إخواننا الجزائريين يجب أن لا تستسلموا لهذا الباطل وأن لا تشاركوا فيه أبداً، فلا يعبد إلا الله.

والذي يذبح لولي نقول له: يا ليت الولي حي يأكل ويشرب فنقول: أنك أكرمت عبداً صالحاً، ولكنه ميت، فالذي يذبح على قبره خرج من ملة الإسلام، ارتد وكفر وعبد غير الله عز وجل.

والذي ينادي ميتاً: يا سيدي فلان المدد، أغثني، أعطني، زوجني، كذا.. فقد جعله مثل الله أو أعظم، واعتقد أنه يسمع كلامه وأنه يعطيه ويمنعه، فأي شرك أعظم من هذا الشرك؟

والله نسأل أن ينزل نقمته على الذين يدعون إلى هذا الباطل ويشجعون عليه.

بعد ما طهرت هذه البلاد من هذه الأباطيل يريدونها من جديد أن تنغمس فيها؛ لأن الفرصة ما زالت متاحة، والفتنة دائرة.

ووصيتي لكل مؤمن ومؤمنة أن لا يدعو إلا الله، والله الذي لا إله غيره ما أجاز لك الكتاب ولا السنة ولا أئمة الإسلام ولا علماء الملة أن تقول: يا رسول الله المدد، أو يا رسول الله أنا في حماك أعطني كذا وكذا.. والله لا يجوز، وإنه لشرك، فالذي ترفع الأكف إليه ويسأل هو الله خالق الكون كله، مدبر الحياة، رب السماوات والأرضين، رب العالمين، الذي نحن بين يده كالنملة في كفك، يسمعك حيث ناديت، ويراك حيث كنت، فهو خالقك ومدبر أمرك، فكيف نجعل مخلوقاً من المخلوقات إلهاً ندعوه مع الله، أو نتقرب إليه ونتزلف إما بالشموع أو بالمناديل أو بكذا وكذا..

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ [الحجر:12]، أي: الشرك والكفر والنفاق والحسد والعناد، فسنة الله أن يدخل هذه في القلب لأن صاحبها أراد ذلك ورغب فيه ودافع عنه واعتقده فيمتلئ قلبه به فِي قُلُوبِ [الحجر:12]، قلوب من؟ الْمُجْرِمِينَ [الحجر:12]، لا المؤمنين، لا الصالحين، بل المجرمين الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها، حولوها إلى أنفس شياطين، هؤلاء ينخرط فيهم الكفر والشرك ويلصق بهم لصوقاً دائماً، أما المؤمنون الموحدون الصالحون المستقيمون فهيهات هيهات.

والله يقول: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر:12] ما قال: في بني هاشم ولا قريش ولا فلان أو فلان بل فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر:12]، فكل من أجرم على نفسه فصب عليها أطنان الذنوب والآثام فاسودت وتعفنت ولم تعد روحاً صالحة فإنه يطيب له أن يسمع الكفر ويتلذذ به، أو يدعو إليه ويحارب من أجله كما يفعل المشركون والكافرون، هذا معنى قوله تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر:12].

ثم بين ذلك تعالى فقال: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الحجر:13]، أي: لا يؤمنون بالقرآن.. بالنبوة المحمدية.. بالتوحيد الإلهي.. بالبعث الآخر، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ [الحجر:13]، أي: مضت سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الحجر:13]، وقد مضت سنة الله في الأولين، فأيما شعب أو أمة يبعث الله فيهم رسولاً ويدعوهم فيحاربونه ويقفون في وجهه ويتحدونه ويعاندونه ويطالبونه بالآيات والمعجزات إلا سلط الله عليهم البلاء والشقاء وأبادهم ودمرهم، مضت سنة الأولين فإما أن نستقيم وإما أن تنزل بنا البلايا والرزايا والمحن.

ولا نذهب بعيداً! يا عقلاء! يا سادة الناس! أما استعمركم الشرق والغرب من بريطانيا إلى فرنسا وأذلوكم وحكموكم؟ والله لو كان آباؤنا وأجدادنا مستقيمين والله ما كان الله ليسلط عليهم عدواً كافراً يسوسهم، والله ما كان ولن يكون، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [غافر:51]، ولكن أفسدوا قلوبهم بالشرك والكفر والفسق والفجور والخيانة والتلصص والإجرام ومن ثم سلط الله عليهم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا حتى بلجيكا أو هولندا العجوز، هولندا سادت إندونيسيا بكاملها مائة سنة وهم مائة مليون.

يقول تعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الحجر:13]، أي: مضت، أما أباد قوم عاد؟ بلى. أمة من أعظم الأمم.

أما أهلك قوم ثمود وقوم صالح؟ بلى. أبادهم.

أما أهلك قوم شعيب وفرعون؟ بلى. مائة ألف فارس على خيولهم أغرقوا في البحر.

إذاً: و إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فالمسلمون الآن كما قلت لكم: يتهيئون لنقمة إلهية، والله العظيم، وإني لعلى علم مما أقول، إما أن يتوبوا، وإما أن تنزل بهم بلايا ورزايا ما عرفوها.

والطريق الذي ندعو إليه: أن يجتمع رؤساءهم في الروضة الشريفة أو في الكعبة المشرفة ويبايعوا أحدهم إماماً لهم، ويقدموا الدستور الإسلامي ويطبقوه في الشرق والغرب، ويكون إمام المسلمين هو الإمام، ومن دونه ولاة يقومون مقامه، وتطبق شريعة الله، فيحلون الحلال ويحرمون الحرام، وينهضون بالواجبات والتعليم و.. و..، ثم ما هي إلا فترة أربع سنوات وإذا بهم أهل لأن يسودوا العالم بكامله.

أما أن نعرض عن كتاب الله وهدي رسوله، ونعيش على القوانين الهابطة الساقطة ويتحكم فينا الهوى والشهوات وتترك الصلاة، وتمنع الزكاة، ويعتقد الباطل ويكفر بالله ونحن ساكتون فلا يرضى ربنا هذا، وكما نزلت بآبائنا المحن ستنزل بنا أسوأ وأشد، وستذكرونها لما تتجلى الحقائق.

ثم قال تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا [الحجر:14] طول النهار فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14]، صاعدون هابطون، ما آمنوا!

سبحان الله! هذا ما أخبر الله به، وهو يحمل وجهين صحيحين أيضاً: أحدهما: لو فتحنا أبواب السماء بالملائكة يهبطون ويصعدون طول النهار والله ما آمنوا؛ لأن الله كتب ذلك في قلوبهم.

والمعنى أنهم لشدة كفرهم وعنادهم طالبوا وقالوا: لو تأتينا بالملائكة فرد عليهم تعالى: لو أننا فتحنا أبواب السماء طوال النهار والملائكة يهبطون ويصعدون وهم يشاهدون فإنهم سيقولون: سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا [الحجر:15]، عيوننا سكرت، لا تشاهد شيئاً، ثم لا يؤمنون، وهذا بالنسبة إلى كفار قريش ومن ماتوا على الكفر كـ أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط وفلان وفلان، فإنهم شاهدوا أفضل المعجزات وأعظمها، فما آمنوا، وهذه نتيجة القلب إذا تمكن منه الكفر وتأصل فيه فإنه يسود ويظلم ويتعفن وينتن ولن يهتدي صاحبه أبداً، مهما تأتيه بالآيات وبالمعجزات فإنه لا يستجيب، فلهذا نحذر من الذنوب أن تتراكم على قلوبنا فنعمى ونهلك.

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا [الحجر:14]، يعني: طول النهار، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا [الحجر:14-15]، والسكران لا يميز بين شيء وشيء، ولا يفرق ولا يعرف، فيقولون: أبصارنا سكرت، فينكرون طلوع وهبوط الملائكة، ويقولون: بل نحن قوم مسحورون، سحرنا محمد هذا.

من المخبر بهذه الأخبار؟

إنه الله جل جلاله وعظم سلطانه، خالق كل شيء، ومن بيده كل شيء، فاعتقد واجزم بما تسمع وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14]، أي: الملائكة الذين يطالبون بهم، سيقولون: نحن مسحورون فقط أو عيوننا سكرانة، كيف تهبط الملائكة وتطلع؟!

والوجه الثاني: لو أن الله فتح لهم أبواب السماء ويسر لهم الصعود إلى الملكوت الأعلى.. إلى السماء الدنيا، وصاروا يصعدون طول النهار في الملأ ما آمنوا بأن محمداً رسول الله، سيقولون: آه هذا سحر، سحركم محمد، وهل الإنسان يطلع إلى السماء؟ مستحيل هذا، كيف يكون هذا؟ ويثبتون على كفرهم؛ حفاظاً على العقيدة الفاسدة والآمال الباطلة، والفكر الهابط؛ ليبقوا كذلك يتروحون ويترفعون، لا أقل ولا أكثر.

ولو أن أحداً بعثه الله - وقد بعثنا الله كلنا لو أجبنا نداء الله- ودخل في دار الكفر لوجد هذا السلوك بعينه، يؤمن أهل القلوب الحية والبصائر، ويدخلون في الإسلام بهذه المعجزات، وأما أصحاب الأموال والفروج والدنيا وكذا.. والله يعاندون أكثر من أبي جهل وعقبة بن أبي معيط ، ويردون كل حجة تقولها، ويضربون لذلك الأمثال ويقولون ويقولون..

وقد بلغني الآن مع الأسف من دكتور، يقول: أنه سمع وشاهد في إذاعة بلد عربي - دبي- أربعة علماء اجتمعوا يقررون أن المولد النبوي من السنن الإسلامية، وأن الأمة مجمعة على سنيته، وأنه وأنه..

وأكثر من هذا أنهم قالوا: ذاك الذي يقول: أنا جالس على كرسي في البيت الذي دفن فيها أبو الرسول صلى الله عليه وسلم -يقصدون أني قلت هذا الكلام- وأنتم تذكرون أيام كانت المدينة على الأصل القديم، مررنا ببيت أبو طالب مدفون فيها، وهذا قبل أربعين سنة أو ثلاثين سنة وكان الحجاج والزوار يتجمعون على الباب والهيئة تطردهم.

يقولون: يتبجح ذاك الشيخ ويقول: أنا جالس على الكرسي فوقه.

هل أنا أقول هذا الكلام؟

لا. أنا أقول: أبو الرسول صلى الله عليه وسلم في النار.. في جهنم، أخبر الرسول بذلك، ونهاه الله أن يستغفر له: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].

أبعد هذا نقول: أبو الرسول في الجنة؟ كيف نكذب الله ونبقى مسلمين؟

سبحان الله العظيم! الشاهد عندنا: أن علماء يذيعون على شاشة التلفاز أن المولد من السنن، وأنه أجمع المسلمون على كذا وكذا، مع العلم أننا قررنا بالعلم الصحيح: أن المولد ما عرف إلا في القرن الرابع، سنة أربعمائة وخمسة وعشرين بدأ المولد في البيوت والمساجد؛ اقتداءً بالنصارى فقط، أما الثلاثة القرون فوالله ما عرفوا مولداً، ولا احتفلوا ولا ذبحوا، ولا قالوا بذلك ثلاثمائة سنة، ولكنه العناد -والعياذ بالله- وإن كان لهم شعار ينتسبون به إلى السنة.

عرفتم هذه الحقيقة؟ لأن القلوب إذا صدئت وتعفنت بأوضار الدنيا وأوساخها فإن أصحابها يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون، فهيا نزكي نفوسنا ونطهرها بهذه العبادات كما شرعها الله، بإيماننا بالله ولقائه فنصبح فوق مستوى هؤلاء الهابطين، وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15] سحرنا محمد وإلا كيف نطلع للسماء ونهبط؟!

ثم قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الحجر:16] هذه مظاهر علم الله وقدرته وحكمته ورحمته، تلك المظاهر الإلهية التي أوجبت عبادته وحده دون من سواه، وأوجبت محبته أكثر من النفس والأهل والمال والولد، وأوجبت الخوف منه والرعب والارتعاب أكثر من أي مخوف.

وَلَقَدْ [الحجر:16] من القائل؟ الله وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الحجر:16]، كما في قوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] والبروج جمع برج، وهو في لغة العرب: البناء العالي الأبيض، ومنه تبرجت المرأة إذا ظهرت للرجال، والتبرج حرام على النساء، فيجب أن تبقى المرأة في بيتها فإذا خرجت كاشفة عن وجهها تبرجت كالبرج يراها الناس، والبروج اثنا عشر برجاً، والمراد من البروج: الكواكب العظيمة التي تنزل بها الشمس والقمر طول العام.

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الحجر:16] هذه البروج التي تتنقل الشمس والقمر فيها، وهي كواكب عظيمة بيضاء، والعرب تخيلوا تلك البروج وهي منازل الشمس والقمر وأطلقوا عليها الأسماء الآتية:

قال: [ وهي البروج الإثنا عشر: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت]. فهم تتبعوا منازل الشمس فتخيلوا الحوت والجمل والثور وكذا وأطلقوها عليها وهي اثنا عشر برجاً، تتنقل بها الشمس طول العام من الربيع إلى الشتاء.

يقول الله وقوله الحق: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الحجر:16] من الجاعل؟ الله، لو تجتمع البشرية كلها على أن يخلقوا كوكباً فقط ويلصقونه في السماء ويبقى ثابتاً أو يدور في فلكه لا يستطيعون، مستحيل.

إذاً: من خلق هذه الأفلاك وهذه الكواكب؟

لابد من خالق، مستحيل أن تكون بدون خالق، ونحن نقول: نضع لك كوباً من الشاي على طاولة ونقول: اشرب، ستقول: من أوجد هذا الكأس؟ فيقال لك: لا أحد، هذا أوجد نفسه. ستقول: كيف ذلك؟

فنقول لك: شاي تنكر وجوده على الطاولة بدون فاعل، فكيف بهذا الملكوت العظيم؟

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر:16] اخرج من هذه الكهرباء إلى البر، وشاهد الكواكب والنجوم في السماء كيف زينتها، فلولاها لكانت مظلمة سوداء لا يرى فيها شيء، ثم إذا بالكواكب في أفلاكها تضيء الكون كله.

من فعل هذا؟ اللات أو العزى أو سيدي عبد القادر أو مولاي إدريس؟ من فعل هذا؟

لا إله إلا الله، قلها ولا تحزن ولا تخف.

كم مرة نقول: ائتونا بعلماء الكون والفلسفة والصناعات.. وحتى السحرة، نقول لهم: انقضوا لا إله إلا الله بأحد أمرين: إما بأنه لا إله أبداً، وإما بأن الله معه إله آخر.

والله ما ينقضونها، فهذه القضية (لا إله إلا الله) ارفع بها صوتك، فلو تجتمع الخليقة كلها بعقلائها على أن ينقضوها لا يستطيعون.

إن قالوا: (لا إله) قلنا: يا عميان يا مجانين! من خلقكم؟ كيف تكلمتم ؟ أنتم مخلوقون أم لا؟

وإن قالوا: الآلهة اثنين أو ثلاثة، والله لا يستطيعون أن يثبتوا هذا بحال من الأحوال. من هو الذي يكون مع الله؟ عيسى؟ عيسى نفخ الله الروح في أمه فكان، فكيف يكون إلهاً؟

فهمتم هذه الكلمة أم لا؟ قل: لا إله إلا الله فلن تستطيع البشرية ولا الجن أن ينقضوها ولا أن يبطلوها بأحد أمرين إما بتعدد الآلهة وإما بأنه لا خالق ولا رازق.

قال تعالى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [الحجر:17] تذكرون عالم الجن بينهم وبين عالم الملائكة تجانس، كلاهما روح، والآن الملائكة والله تحف بكم في الحلقة ولكنكم لا ترونها ولا تلمسونها والشياطين كذلك يكونون مع الإنسان في قلبه في جسمه فلا يلمسهم ولا يراهم. لم؟

لأن الله تعالى وهبنا أبصاراً وعيوناً لا تستطيع أن ترى كل شيء، لا ترى إلا في حدود ما أقدرها الله عليه فقط، ولو أعطانا عيوناً وأبصاراً كأبصار الملائكة لرأينا الملائكة ورأينا الجن، لكنه سبحانه أعطانا عيوناً على حسب حاجتنا في هذه الدنيا.

والدليل لتفهموا أكثر: أنَّ موسى الكليم عليه الصلاة والسلام لما ناجاه ربه وكلمه كفاحاً في جبل الطور تاقت نفسه واشتاق إلى أن يرى الله عز وجل قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: ما لك القدرة على رؤيتي، أنا أعطيتك بصر لترى هذه المادة في هذه الحياة فقط، فلا تستطيع أن تنظر إلى العالم الآخر، ولكن من باب تطييب نفسه وإقناعه أمره أن ينظر إلى الجبل أمامه فإن استقر في مكانه فسوف تراني، وهو أعظم من عينيك أنت.

وتجلى الجبار للجبل فاندك فما كان من موسى إلى أن صعق، صعق على الأرض كما أخبر الله بذلك، وأخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم.

أيضاً: تعرفون النفخات في البوق الذي يعرف بالصور في القرآن الكريم:

النفخة الأولى: نفخة الفناء، إذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى لا يبقى حي على وجه الأرض.

النفخة الثانية: بعد أربعين سنة، وهل هي مثل سنيننا هذه؟ الله أعلم. والظاهر أنها من سنيننا هذه، فبعد أربعين سنة ينفخ نفخة البعث، ونكون قد تكونا كما يتكون الخردل والبصل في الأرض؛ لأنه بعد النفخة الأولى -نفخة الفناء- تتغير الأرض تماماً وتتبخر وتهدأ من جديد، وعجب الذنب موجود فيها، وتكون كالصحيفة البيضاء أو كالقرص العجين، وننبت تحت الأرض فتنمو أجساد البشر كلهم، وحين يكتمل نموها ينفخ إسرافيل النفخة الثانية فتنزل الأرواح وتدخل في تلك الأجساد ويقومون لله رب العالمين: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ [يس:51] أي: القبور إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51] إلى الله.

النفخة الثالثة: نفخة الصعق، وهذه انقسم العلماء فيها قسمين، والصواب والصحيح أنها نفخة الصعق بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الخليقة كلها على صعيد واحد حية تنتظر الجزاء فينفخ إسرافيل نفخة فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) كحملة العرش ومن إليهم، قال تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] للحساب والجزاء. هنا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأكون أول من يفيق ) وهذه منزلة عالية!

( فأكون أول من يفيق من الخليقة من الصعقة وإذا بأخي موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم لم يصعق بأن جوزي بصعقة الطور ). أي: أن الله جازاه بصعقة الطور في الدنيا عن صعقة الآخرة، عوضه الله تعالى.

قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:68-69].

انتبهوا! ما خلقنا عبثاً.

قال: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [الحجر:17] أي: حفظ السماوات من الشياطين فلا تستطيع أن تدخلها وتسترق السمع من الملائكة من أجل أن لا يفسد دين هذه الأمة، فقد كانت الشياطين تعرج إلى السماء فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم حجبوا ومنعوا فلا يدخلون، إذا حاول أحدهم أن يدخل يرمى بكوكب أو بشهاب فيحترق، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9] لأن هذا الدين دين البشرية العام، يجب أن يبقى كما هو، لا فساد ولا خبث، ولكن العفريت لما يرجم بالشهاب ينقل الكلمة إلى آخر فينقلها إلى الكهان، فيزيدون عليها تسعة وتسعين في المائة كذباً.

إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر:18] والشهاب من الشهب، وهي: قبس من النار يحرقه، ونشاهد هذا في السماء فأكبر شهاب مبين: الشهاب الثاقب كما في سورة الصافات، قولوا: آمنا بالله ولقائه وبمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

معاشر المستمعين! نقرأ الآيات مرة ثانية لتتذكروا، قال تعالى: كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر:12] عرفتم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الحجر:13] من أعداء الله وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15] ولا يؤمنون وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر:16-18]. هذه مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته.

من يشاركه في هذا؟ لا أحد، إذاً: لا إله إلا الله.

هداية الآيات

قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات:

أولاً: بيان سنة الله تعالى في المكذبين المعاندين، وهي أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ].

سنته اليوم وبعد اليوم وقبل اليوم، المكذب المعاند لا يؤمن حتى يرى العذاب.

[ ثانياً: مطالبة المكذبين ] المجرمين [ بالآيات كرؤية الملائكة لا معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم يؤمنوا به ] لأنهم سيرون الملائكة وبعده يغيبون فيقولون لنا: ما رأينا. فماذا نصنع؟ ولكن القرآن آية ومعجزة قائمة موجودة في صدورنا وفي كتبنا.

من أنزل هذا الكتاب؟ من ادعى أنه قاله؟ هل ادعت البشرية شيئاً من هذا؟

لا. إذاً: القرآن هو أكبر آية، وهذه منة من الله عز وجل.

القرآن الكريم أكبر آية يدل على صدق نبوة الرسول وعلى التوحيد وعلى شريعة الإسلام إذ هذا الكتاب فيه مائة وأربع عشرة سورة، حفظه الله فلا يستطيع أحد أن يغير فيه ولو كلمة واحدة، ما نقصت منه كلمة ولا زيدت فيه كلمة بل ولا حرف.

أما يكفي هذا الدليل على وجود الله؟

أيوجد كلام بدون متكلم؟

أيوجد عمل بدون عامل؟

أتوجد مظاهر رحمة بدون رحيم؟

مستحيل. فلهذا نقول: لا إله إلا الله.

[ ثالثاً: بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فيما حملت الآيات من مظاهر لذلك، بدءاً من قوله: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الحجر:16] إلى الآية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم ].

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.