همم وقمم
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
همم وقمملأن الناس هِممٌ، وَرُبَّ هِمة أحْيَتْ أمة..
فكُن رجلًا رِجله في الثرى ♦♦♦ وهامَةُ هِمَّتِه في الثريَّا
••••
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ
فَلا تَقنَعْ بما دونَ النجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ
كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
فلماذا نرضى بالدون؟ لماذا نبيع الأدنى بالأعلى بيع الخاسر المغبون؟ لماذا نرضى بالقليل من العمل؟ لماذا نزهد في العلم؟ لماذا لم تكن همتنا كالجبال في فعل الخيرات والسباق إلى الطاعات: في الدعوة إلى الله، في الاستقامة على طاعة الله، في العمل للإسلام، في اتباع النبي على الصلاة والسلام، في التضحية لأجل هذا الدين الذي ارتضاه لنا رب العالمين، في اغتنام الفرص والأوقات لطاعة رب الأرض والسموات؟! لماذا؟!
ما الهمة؟
قيل: "هي ألا يرضى الإنسان باليسير مع إمكان الكثير، وألا يرضى بالأدنى مع إمكان الأعلى"، وقيل: "هي استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور" [1].
والمعنى كما يقول ابن الجوزي: "فلو كانت النبوة مثلًا تأتي بكسب لم يجز أن يقنع بالولاية، ولو صح أن يكون ملكًا لم يرضَ أن يكون بشرًا، والمقصود: أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في القول والعمل..." [2].
علو الهمة في الكتاب والسنة وحياة السلف:
قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50]، وقال: ﴿ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 9]، وقال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقال تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148].
إن هذه الآيات وأمثالها تُحرك النفوس الأبيَّة والهِمم العالية، فواعجبًا للجنة كيف نام طالبها؟!
وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع هذه الأخبار؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)؛ (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لكل قرن من أمتي سابقون)؛ (صحيح الجامع).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعرف ما له عند الله، فلينظر ما لله عنده)؛ (صحيح الجامع).
وقال صلى الله عليه وسلم يومًا: (...
فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الرَّيان، ومَن كان من باب الصدقة دُعي من باب الصدقة، قال أبو بكر: هل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم)؛ (رواه أحمد والترمذي والنسائي، وصحَّحه الألباني).
يا لها من هِمَّة فلم يرض أبو بكر بالباب ولا بالبابين، لم يرضَ إلا بالأبواب كلها!
وقال صلى الله عيه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة)؛ (رواه البخاري).
قال النبي صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يومًا: (يا ربيعة، سلني فأعطيك)، فقال: "أنظرني حتى أنظر، قال: فتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله، أسألك أن تدعوَ الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (من أمرك بهذا؟)، قلت: ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا فانية منقطعة، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله لي، فقال: (إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود)؛ (رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني، وأصله في الصحيحين).
عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويَعتقون ولا نعتق، فقال صلى الله عليه وسلم: (أفلا أُعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون الله وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء)؛ (متفق عليه).
وعن ابن عمر أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، قال: (قل كما يقولون، فإذا انتهيت، فسل تُعطَ)؛ (رواه أبو داود وصححه الألباني).
قال الحسن: "مَن نافسَك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألْقِها في نَحره) [3].
قال أحد السلف لغلامه: "يا غلام، لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس، وما تنكح وما تسكن، كل هذا هم النفس والطبع، فأين هم القلب؟ همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل"[4].
قال وهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد، فافعل[5].
قال ابن القيم رحمه الله: لا بد للسالك من همة تُسيره وتُرقيه، وعلم يُبصره ويهديه[6].
قال ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن العلم والعمل توءم أُمهما عُلو الهمة[7].
معالي الأمور لا تدرك بالتمني:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ♦♦♦ وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
لأن بعض الناس يريد الخير ويرجو الفلاح والفوز، ولكن هل يُدرك شيئًا من ذلك أو غيره بمجرد الإرادة والأماني؟ فأين البذل والعطاء للإسلام؟ أين الأعمال الصالحة؟ أين الاجتهاد والتشمير وصدق التوجه؟ أين تغليب مصالح الجماعة والأمة الكلية على مصالح النفس الجزئية؟ أين...وأين....وأين...؟ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].
كيف يجاهد الإنسان نفسه على طلب معالي الأمور؟ [8]:
1- العلم بالله ورسوله:
فلا ترتفع الهمم بمثل العلم، فالعلم يرتقي بالهمة ويصفي النية، ويرفع صاحبه عن حضيض التقليد، كما يبصر صاحبه بحيل إبليس وتلبيسه عليه؛ قال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
2- المجاهدة:
فبدونها لا يتحقق شيء ولا تُخطَا خُطًى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69].
قال ابن القيم - في روضة المحبين -: "أعرف من أصابه مرض من صداع وحُمَّى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد فاقة قرأ فيه، فإذا غُلب وضعه، فدخل عليه الطبيب يومًا وهو كذلك، فقال: إن هذا لا يحل، فإنك تعين على نفسك، وتكون سببًا لفوات مطلوبك"، فهذا رغم مرضه يجاهد ليقرأ ويزداد علمًا.
3- صحبة أُولي الهمم العالية:
فإن العبد يستمد من لَحظ الصالحين قبل لفظهم؛ لأن رؤيتهم تذكر بالله، يحكي ابن القيم رحمه الله بعض ما استفاده من ملاحظة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيقول: "وعلم الله، ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا وأسرَّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد منا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينةً".
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "ما أُعطي عبدٌ بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم وُدًّا من أخيه، فليستمسك به".
4- المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
ليس في كل حين وأوان
تتهيأ صنائع الإحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها
حذرًا من تعذُّر الإمكان
فمن أخَّر الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فواتها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فإنه لما خرج مهاجرًا إلى المدينة ومعه أبو بكر رضي الله عنه، لَقِيَا في طريق الهجرة بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، فلم يشغله مطاردة قريش إياه عن واجب الدعوة إلى الله[9].
5- كثرة ذكر الموت:
لأن ذلك يدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة.
6- الدعاء الصادق:
إذا أردت بابًا أقرب إلى مولاك وأوسع ولا مزاحم فيه، فاطْرق باب الله؛ فإن هذا الباب يفتح لك منه ما لا يُفتح لك في غيره؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "وقد عرَفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهِمم بعض الأوقات، فإذا حُثَّت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلًا فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته"[10].
7- جعل الهم واحدًا وهو رضا الله:
ففي الحديث المرفوع: "من جعل الهموم همًّا واحدًا - هم المعاد - كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها هلك"؛ (رواه ابن ماجه وغيره، وانظر صحيح الترغيب والترهيب).
8- الإخلاص.
9- الصدق.
10- الحرص على الوقت.
11- الصبر.
12- قراءة سِيَر سلف الأمة.
13- مراجعة جدول الأعمال، والمحاسبة اليومية، ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم.
[1] الهمة طريق القمة؛ محمد موسى الشريف، نقلاً عن رسائل الإصلاح.
[2] صيد الخاطر.
[3] إحياء علوم الدين؛ للغزالي، وعلو الهمة؛ محمد إسماعيل.
[4] الهمة طريق إلى القمة نقلاً عن إحياء فقه الدعوة؛ للراشد.
[5] إحياء علوم الدين، للغزالي، وعلو الهمة؛ محمد إسماعيل.
[6] الهمة طريق إلى القمة نقلاً عن الدرر الكامنة.
[7] اللطائف في الوعظ ص16، المدهش ص507.
[8] علو الهمة؛ محد إسماعيل، الهمة العالية؛ محمد إبراهيم الحمد، الهمة طريق إلى القمة؛ محمد موسى الشريف، وصلاح الأمة في علو الهمة؛ العفاني، نضرة النعيم.
[9] الوقت وأهميته في حياة المسلم؛ علي نايف الشحود ص23.
[10] صيد الخاطر ص502.