[03] يوسف في بيت العزيز - الجزء الأول - يوسف من البئر إلى الملك
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
مصارعة الفتن {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف:23]
وأغرت وكررت الإغراء وتزينت وتعطرت ونادت على كل إحساس بلُغَته التي تجذبه إليها، حتى لايبقى إحساس ظاهر أو مستور إلا منادًا عليه، وذلك حين تستولي الشهوة الجامحة ويزين الشيطان ويطغى الهوى على من لا يرعى ربًا ولا زوجًا، فكم تكون قوة وعزم من لايضره هذا الإغراء، ولا تأخذ بصره هذه الزينة، ولا يفقد صبره على الإباء بهذه المحاولات المتكررة، ولا تضعف إراداته بهذا الإلحاح، بل يتصدى لها ويعايشها فلا يهرب منها.
فإذا كان ذلك بين خادم ومخدومته التي هي امرأة العزيز، التي هي سيدة مصر الأولى في زمانها وهو الذي لم يعد له في بيت أبيه إلا كيد إخوته، {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9]، وهو الذي سكن في البئر وقتًا حتى جاء من انتشله منه، والبيت بيت العزيز حيث الفراش الوثير والمطعم الوفير، ووصية العزيز {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، والجاه والسلطان، وكما يقولون: خادم العزيز؛عزيز الخدم، وكل هذا مهددًا بالزوال إن هو عصاه، وتأبى على ما راودته عليه، وإن هو أطاعها واستجاب لندائها، فلربما بوأته مكانة العزيز في بيتها، ويكفي العزيز عزته في الخارج.
وهكذا اجتمع الضغط الغريزي مع الضغط المعيشي مع ضغط ثالث أشد مرارة وأقوى وقعًا على النفوس الأبية حين هددته {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، والحرمان من الحرية بلاء مبين فهو كالموت أو أشد، ويوم كانت تزور إحدى الزوجات زوجها في السجن ويحاول أن يخفف عنها ويهون الأمر عنها، ويقول لها: " الحمد لله الذي نجانا من حبل المشنقة، وها نحن أحياء الآن، ترونا ونراكم" فكان ردها: "إن حبل المشنقة كان أهون علينا، لأن حزنًا واحدًا أخف من أحزانٍ شهرية، فكل زيارة بحزن يتجدد في استخراج التصاريح والسفر الشاق وتحكم السجانين وتعسفهم في التفتيش وفي تحديد الوقت وفي ..وفي..".
وحين يذكر يوسف عليه السلام نعم الله عليه حين رفع أبويه على العرش وخروا له سجدًا، يبدأ بنعمة الحرية {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]، اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين وفك أسر المأسورين، وكف عنا أيدي الظالمين...آمين
إن واحدة من تلك الضغوط يصور شدتها وقسوة معاناتها الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، أحد نقباء ليلة العقبة ومن أعيان البدريين، وهو الذي شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "ألا تروني لا أقوم إلا رفدًا -أي لايستطيع القيام إلا أن يعان عليه- ولا آكل إلا مالُوِّق -يعني لين وسخن- وقد مات صاحبي منذ زمان -يعني ما به من قضاء الشهوة- ومايسرني أني خلوت بامرأة لاتحل لي، وإن لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتي الشيطان فيحركه"، وعن عطاء بن أبي رباح رحمه الله قال: "لو ائتمنت على بيت مال لكنت أمينًا، ولا آمن على نفسي أَمَة شوهاء".
وعن الضغط المعيشي والحاجة إلى الغير؛ يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فتحدرت عليهم صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: "إنه لا ينجيكم من الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم"، فقال رجل منهم: "اللهم إنه كانت لي ابنة عم كنت أحبها كأشد مايحب الرجال النساء ، فأردتها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، فلما قعدت بين رجليها قالت: "اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه"، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا مانحن فيه"، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج (معنى الحديث في صحيح البخاري [3465]).
{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]
وهكذا أحاطت بيوسف عليه السلام الفتنة وحاصرته داخل جدرانها وأبوابها، بل وداخل بشريته وكينونته، وكأن المرأة أرادت أن تأسره لتجعل نفسه لها، وأن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه، وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد، فهل يملك أحد إلا أن يفعل ما تمليه عليه الضرورة البشرية، فقد فات أوان الخاطر، وحديث النفس والتفكير والهم، وصار الأمر كما يصوره الشاعر:
ألقوه في اليم مكتوفًا وقالوا *** إياك إياك أن تبتل بالماء
وماذا بعد الابتلال إلا الغرق، وهل يُلام من كتف، وهو لم يكتف نفسه، وأُلقي في اليم وهو لم يُلق نفسه أن يبتل أو يغرق؟! وهل يستبعد على من كان على هذه الحالة أن يهم بالفعل.
إن الذين استكثروا "الهَمّ" على يوسف عليه السلام -وهو فتى لم يبلغ مابلغه الرسل قبل الرسالة وبعدها- نظروا إلى عصمة الرسل من اقتراف الذنوب بأكثر مما نظروا في الواقع والضرورات البشرية، ولو نظروا إلى القوة والفتوة التى استطاع بها يوسف عليه السلام -بعد توفيق الله له- وقد هم لكان ذلك أنصف وأحق وأجدر به.
وقد مر بنا ما كان من أمر ابنة العم وابن العم، وقد هما بالفعل فلما سمع قولها "اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه" انصرف عنها وهي أحب الناس إليه، وبذلك استحق أن يفرج الله عنه، وعن من معه ذلك لأن سماع الموعظة في هذه الحال، التي من شأنها غياب الإحساس بما عداها؛ للاستغراق فيها قوة وأي قوة، فإذا استجاب لهذا السماع ونزل عليه، ورجع عما هم به، وقدر على ذلك فهو فتوة وأي فتوة.
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسير: "والهم بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة، فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوة وهو قول الجمهور وفيه خلاف، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف.
وقال جماعة هم يوسف وأخذ في التهيؤ لذلك، فرأى برهانًا صرفه عن ذلك، فأقلع عن ذلك، وهذا قول السدى ورواية عن ابن عباس" (التحرير والتنوير).
د.
محمد عبدالمعطي الجزار.