نداءات الرحمن لأهل الإيمان 92


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

نداءات الرحمن تسعون نداء، والمنادي فيها هو الله تبارك وتعالى، والمنادى هم المؤمنون، وقد وصلتنا هذه النداءات وبلغتنا بواسطة كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، وتسعة وثمانين من هذه النداءات ابتدأت بـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، ونداء واحداً بدأ بـ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:65]. والمنادى به الرسول، ونحن المعنيون؛ ولهذا جعلناه ضمن النداءات لأهل الإيمان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد المؤمنين.

وهذه النداءات التسعون اشتملت على كل متطلبات حياة المؤمن من عقيدة وعبادة، وأدب وأخلاق، ومال واقتصاد، وحرب وسلم وسياسة، وكل متطلبات الحياة.

وقد نادينا وصرخنا وقلنا: ينبغي أن توجد هذه النداءات في كل بيت، بل وأن تكون على سرير كل نائم، وأن توجد في الفنادق بجانب كل سرير. والمؤمن الصادق الإيمان هو الذي يقرؤها ويحفظها ويفهم مراد الله منها، وليصبحن هذا من أعلم علماء هذه الملة.

وهذا هو [ النداء السادس والثمانون ] وهو من سورة المنافقين، ومحتوى هذا النداء [ في ] بيان [ حرمة الانشغال بالمال والولد عن عبادة الله تعالى، و] في [ وجوب الزكاة، و] في [ الترغيب في الصدقات، و] في [ التحذير من فجأة الموت قبل التوبة ] فهذا النداء يحتوي هذه المذكورات:

أولاً: حرمة الانشغال بالمال وبالولد عن عبادة الله تعالى.

ثانياً: في وجوب الزكاة.

ثالثاً: في الترغيب في الصدقات.

رابعاً: في التحذير من فجأة الموت قبل التوبة، والعياذ بالله.

وهيا بنا نتغنى بهذا النداء؛ رجاء أن نحفظه، أو نبلغ درجة من يحفظ.

قال: [ الآيات (9 - 10 -11)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11] ].

سبب نداء الله عز وجل لعباده المؤمنين دون غيرهم

[ الشرح ] والآن مع الشرح لهذا النداء؛ لنزداد علماً ومعرفة، والله نسأل أن يوفقنا للعمل بمضمون هذا النداء؛ فإن السعادة منوطة بالعمل به، والشقاء منوط بتركه وعدم العمل به.

قال الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ اعلم أيها القارئ الكريم! ] وهذا القارئ هو الذي يقرأ هذا النداء، سواء كان رجلاً أو امرأة، ووالله إنه يتعين على المؤمنين أن يقرءوا هذا النداء؛ لأن الذي يناديهم مولاهم، فليسمعوا نداءه، فهو لا يناديهم للهو ولا للباطل، وحاشا لله وكلا أن يناديهم لذلك.

وهو إنما يناديهم لواحدة من أربع: إما ليأمرهم بفعل ما يعدهم للسعادة والكمال، أو لينهاهم عما يشقيهم ويؤذيهم، أو ليبشرهم بما يزيد في إيمانهم وصالح أعمالهم، أو لينذرهم ويحذرهم عما يشقيهم ويؤذيهم ويخسرهم، أو يناديهم ليعلمهم؛ حتى يكملوا في العلم ويجازون. ولا يناديهم لغير هذا، وتعالى الله عن اللهو والباطل.

فعلى هذا القارئ الكريم أن بعلم [ أن هذا النداء الإلهي ] أي: المنسوب للإله الأعظم، وهو الله عز وجل إله الأولين والآخرين، والمبدوء بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المنافقون:9] [ له خطورته وشأنه العظيم ] والله، فلننتبه [ فقد نادى الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين؛ لكمال حياتهم بإيمانهم ] لأن المؤمنين أحياء، وحياتهم كاملة، والحي إذا نودي سمع، وإذا أمر فعل، وإذا نهي ترك، وإذا بشر استبشر، وإذا حذِّر حذر، وإذا طلب منه العلم علم. والسر في هذا هو الإيمان، وأما الكافر فإنه ميت، لا يسمع ولا يجيب، ولو ناديت كافراً فإنه لا يسمع نداءك ولا يجيبك، ولا يفعل ما أمرته به، ولا يترك ما تنهى عنه؛ لأنه ميت، كالجنازة إذا ناداها صاحبها لم تسمع، وكذلك الكافر إذا قلت له: قم صل لم يقم يصلي، وإذا قلت له: استغفر الله لم يستغفر؛ لأنه ميت.

وبعض السامعين لا يستسيغون القول بأن الكافر ميت، والله يقول: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]. فالكافر ميت لأن الحياة الحقة هي حياة الإيمان، وليست حياة الحيوان، بل حياة الحيوان كالبقر والغنم والذئاب والكلاب حياة هابطة حيوانية، والحياة الحقة هي حياة الإيمان، فإذا قلت لصاحبها: قم يا عبد الله! قام، وإذا قلت له: أنفق يا عبد الله! فإنه ينفق، وإذا قلت له: اترك يا عبد الله! هذا الكلام الباطل تركه على الفور؛ وذلك لكمال حياته، وأما الكفار فلا حياة لهم، ولهذا نادانا تعالى بعنوان الإيمان، ولم يقل: يا أيها الناس! وإنما قال: يا أيها الذين آمنوا !

النهي عن الانشغال بالمال والولد عن عبادة الله

قال: [ ناداهم ] بقوله: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المنافقون:9] ] أي: [ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً ] والمؤمن هو المصدق بوجود الله رباً وإلهاً، بالقرآن وحياً وكتاباً، بالنبي نبياً ورسولاً. هذا هو الإيمان.

قال: [ ناداهم ليقول لهم ناهياً لهم: لا تُلْهِكُمْ [المنافقون:9] ] والنهي كأن يقول لك: لا تفعل .. لا تسمع .. لا تأخذ .. لا تعطي. وقد ناداهم هنا لينهاهم من أن يلهيهم أولادهم وأموالهم لهم عن ذكر الله [ أي: لا تشغلكم أموالكم كثرت أو قلت ] وليس شرطاً في المال الذي يلهي أن يكون ملايين، بل قد يكون قليلاً ويلهي، وقد يكون كثيراً ولا يلهي، والمهم ألا يلهيك مالك ولا ولدك عن ذكر الله، ومن ألهاه ماله أو ولده عن ذكر الله فوالله أنه قد خسر خسراناً كاملاً [ وأي نوع كان المال، سواء كان مال تجارة أو صناعة، أو زراعة أو غير ذلك، لا تشغلكم عن عبادة الله تعالى، وسواء كانت العبادة صلاة أو حجاً أو جهاداً ] أو براً بالوالدين وإحساناً إليهما، أو أي نوع من أنواع العباد. والمراد من ذكر الله عبادته.

سبب خلق الله عز وجل للكون والحياة

هنا أذكر الناسين وأعلم غير العالمين بما تقرر عندنا وأصبح من الضروريات، وهو:أن سر الحياة وعلة الوجود: عبادة الله تعالى. ولو تسأل علماء الكون كلهم من غير أهل القرآن فإنهم والله لا يعرفون ولا يجيبون، ولو عقدتم مؤتمراً في القاهرة أو في باريس لعلماء النفس وعلماء الحياة والكون والطبيعة والقانون واجتمعوا فإنهم لا يعرفون سبب خلق الله تعالى لهذه العوالم، ولا سبب خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، ولا سبب خلق الجنة والنار، فهم كصاحب القبر المشرك والكافر لما يوجه إليه السؤال في القبر: من ربك؟ يقول: هاه لا أدري، ويسأل: من نبيك؟ فيقول: هاه لا أدري، ولا يجيب.

وعلة خلق هذه الأكوان وحتى الجنة والنار: أنها خلقت من أجلنا نحن بنو آدم، وليس من أجل البقر ولا الغنم ولا الماعز، ولا الطعام، بل كل شيء خلقه من أجلنا نحن.

والدليل والبرهان والحجة على هذا: قول الخالق: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]. فقال: (لكم). وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]. فالله خلق البقر من أجلنا؛ لنشرب اللبن ونأكل اللحم، وخلق الشمس لتوجد لنا الحرارة والضوء، وأنزل المطر لينبت لنا البقل، والحمد لله.

ونحن لسنا شيئاً حتى يخلق الله هذه العوالم من أجلنا، فقد خلقنا وخلق لنا كل شيء، وهو لم يخلقنا لنرقص، ولا نعمر المقاصف، ولا لنغني، ولا لنأكل البقلاوة والحلوى، ولا لنأكل السمك، وإنما كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. والكافرين الهابطين يتحيرون، ويفتحون أفواههم ويقولون: لا ندري.

فالله تعالى خلق كل شيء من أجلنا، وخلقنا نحن من أجله، أي: من أجل أن نذكره ونشكره. فعلة الوجود كله: أن يذكر الله ويشكر، ولهذا قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. والكافرون عجزوا عن أن يعرفوا علة الخلق، ونحن والحمد لله على نور من ربنا، وقد فهمنا هذا لأننا آمنا بكتاب الله ورسوله، وقرأنا الكتاب وسمعنا الرسول يقول، فعلمنا، وبقي الكافرون جاهلون لا يعرفون.

إذاً: علة الحياة هي: أن يذكر الله ويشكر، فمن ترك ذكر الله وشكره خسر خسراناً أبدياً.

جميع العبادات ذكر لله تعالى

قال تعالى في النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المنافقون:9]! احذروا. فـ لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9]. والمقصود بذكر الله هنا جميع عباداته وطاعاته؛ إذ كل عبادة ذكر لله، وأنت لا يمكن أن تصلي إذا لم تذكر الله، وذكر الله في الصلاة أولاً: أن تذكر بقلبك أنه فرض عليك هذه العبادة، وأوجب عليك أداءها، وأنك الآن قائم لتؤديها، وهذا ذكر، ثم تذكره بالتكبير والتهليل، والدعاء والقرآن، وكل هذا ذكر. وهكذا كل العبادات ذكر، فالعابدون ذاكرون، والتاركون للعبادة ناسون هالكون.

قال: [ ولا يلهكم أولادكم أيضاً عن عبادة الله تعالى، لا عن صلاة ولا حج، ولا جهاد ولا عن ذكر الله تعالى، وكل عبادة هي ذكر الله عز وجل؛ إذ لا تخلو عبادة من ذكر الله، حتى الصيام فإنه ذكر لله تعالى بالقلب؛ إذ لولا ] أنه [ ذكر الله ] بقلبه [ لأكل الصائم أو شرب ] أو أتى امرأته، ولكنه ذاكر بقلبه الله، وذاكر أنه صائم لله، وأن الله قد أوجب عليه الصوم أو طلبه منه. إذاً: الصائم ذاكر لله، والصوم ذكر.

وكذلك إذا توضأت فهذا الوضوء ذكر لله عز وجل.

وليس الذكر هو قول: سبحان الله، أو لا إله إلا الله. بل كل عبادة ذكر لله.

وكذلك عندما تدخل يدك لتخرج درهمك لتضعه في كف فقير سألك هذا ذكر، ولولا أنك ذكرت الله والله ما فعلت هذا. فذكر الله يشمل كل العبادات. فلا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله وعبادته، وذكره عبادته.

جزاء من انشغل بماله أو ولده عن عبادة الله عز وجل

قال: [ وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [المنافقون:9] ] فبعد أن نهانا عن أن الاشتغال عن أموالنا وأولادنا عن ذكر الله قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [المنافقون:9]، أي: تشاغل عن ذكر الله وعبادته بماله وولده [ أي: بأن ألهته أمواله أو أولاده أو هما معاً عن عبادة الله تعالى التي تعبَّد بها عباده من أداء الفرائض والواجبات على اختلافها فَأُوْلَئِكَ [المنافقون:9] ] أي: [ البعداء هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9] يوم القيامة بحرمانهم من الجنة ونعيمها، ووجودهم في دار العذاب، حيث لا أهل ولا مال ولا ولد ] فأهل النار الرجال أو النساء لا يجدون أولادهم ولا إخوانهم، ولا آباءهم ولا أمهاتهم أصلاً، فهم يدخلون عالماً لا حد له. وقد عرفنا أن بعضهم يوضعون في صناديق من حديد، ويلقون في ذلك العالم، ووالله إنهم لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتكلمون ولا يسمعون، ولا يرون ولا يشاهدون، وهم أحياء ملايين السنين. وهذا نوع من العذاب [ كما قال تعالى ] مخبراً ومبيناً لنا عذاب الآخرة والخسران فيها بقوله: [ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] ] أي: بحق [ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ] فالخسران ليس فقد الشاة والبعير، أو المنصب أو الزوجة أو الولد كما يفهم الماديون، فليس هذا هو الخسران، بل حقيقة الخسران كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر:15] أولاً، وَأَهْلِيهِمْ [الزمر:15] ثانياً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

حث الله عباده على الإنفاق مما رزقهم

قال: [ وقوله تعالى لهم ] أي: للمؤمنين الذين ناداهم [ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10] ] فقد قال أولاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]. ثم قال لهم: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10] [ أي: من مال وعلم، وكل خير رزقه العبد حتى الجاه ] وسبحان الله! فالذي رزقه الله مالاً يجب أن ينفق منه، وأقل شيء ينفقه منه الزكاة، وكذلك النفقة على الأولاد والزوجة، ومن تجب عليه نفقتهم. وكذلك من رزقه الله علماً ينفقه ولا يبخل به، ولا يحل للعالم إذا سئل أن لا يجيب، ولا ألا يفتي إذا استفتي، ولو فعل هذا فقد بخل، ولم ينفق، ويهلك مع الهالكين. ولذلك على الذي أعطاه الله مالاً أو علماً أو خيراً أن ينفق منه، ولو أعطاه الله لبناً وجاء سائل يشتكي العطش والظمأ فعليه أن يعطيه. وهكذا كل ينفق مما أعطاه الله. وينفق حتى من الجاه، فلو رزقك الله جاهاً بأن كنت شريفاً أو سيداً، أو كنت من أعيان المدينة ورجالها الوجهاء، وجاء إليك شخص يريد منك أن تشفع له عند فلان ليقضي حاجته فأنفق من جاهك، وأعط منه، وتوسط لهذا المؤمن، واشفع له؛ لتقضى حاجته، وبذلك تكون قد أنفقت مما رزقك الله، كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10]. والجاه رزق [ فإنه ينفق منه في قضاء حاجات من يعجز عن قضائها إلا بالواسطة ] وعشرات الآلاف لا جاه لهم، فإذا أعطاك الله جاهاً فاشفع لأخيك؛ حتى يكون ذلك إنفاقاً من جاهك الذي أعطاك الله.

قال: [ وإن كان المطلوب الأول ] هو المال [ في هذا الأمر ] وهو قوله: وَأَنْفِقُوا [المنافقون:10] [ أداء الزكاة ] الواجبة [ والصدقات الواجبة، كالجهاد والإنفاق المتعين، كالإنفاق على الأبوين والزوجة والولد، وقرى الضيف وما إلى ذلك ] فهذا واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ). ثم بعد هذا يدخل كل نفقة.

قال: [ والحمد لله أنه تعالى لم يقل: وأنفقوا ما رزقناكم، بل قال: مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10]، أي: من بعض ما رزقناكم ] ولو قال: أنفقوا ما رزقناكم لوجب أن نخرج من كل ما عندنا، وننفق ذلك لله. ولكن من رحمته تعالى ولطفه وإحسانه وعدله ولطفه أن قال: مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10]. فليس الواجب عليك أن تخرج من مالك كله أبداً، ولا أن تعطي السائل الذي يسألك ثوبك.. أن تعطيه ثوبك الذي تلبسه وتبقى عارياً، بل أنفق من بعض ما أعطاك الله، فمن في قوله: مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10] للتبعيض.

مقدار النصاب في زكاة المال والحبوب

قال: [ فالزكاة نصابها اثنان ونصف في المائة ] فالمائة الريال إذا حال عليها الحول مثلاً تنفق منها ريالين ونصفاً، لا خمسة ولا عشرة، ولم يخالف في هذا إلا الروافض، فإنهم ينفقون منها عشرين، وقد ضللهم في هذا أئمتهم، فهم الذي يضللونهم؛ حتى يدفعون الزكاة (20%)، أي: الخمس، والرسول يقول: ( ربع العشر ). وهم يقولون: الخمس؛ لأن أئمتهم يقولون هذا، وهم لم يفيقوا ولا انتبهوا، بل إنهم يسوقونهم إلى جهنم وهم يبصرون. ولا إله إلا الله!

قال: [ وفي الحبوب ] أي: في زكاة الحبوب [ في عشرة أوسق - أي: قناطير- قنطار ] واحد [ إن كانت تسقى بماء العيون والمطر ] أي: أنبتها الله، ولم تعمل أنت فيها إلا بالمسحاة والبذر [ أما إن كانت تسقى بالسني والدلو والمكائن ] الآلية والعناء والتعب [ فنصف العشر، ففي عشرة قناطير نصف قنطار لا غير ] وفي العشرين قنطاراً قنطار. وهذا كله داخل تحت قوله تعالى: مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10]، أي: من بعض ما رزقناكم.

الحث على تعجيل إخراج الزكاة وأداء سائر العبادات عند دخول وقتها

قال: [ وفي هذا الأمر الإلهي ] أي: قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10] [ دليل على وجوب تعجيل ] إنفاق [ الزكاة إذا وجبت وحال حولها. وكذلك سائر العبادات إذ دخل وقتها ] فالصلاة إذا دخل وقتها لا يجوز تأخيرها، وكذلك لا يجوز أن تؤخر رمضان. وكذلك جميع العبادات التي عين لها وقت يجب ألا تؤخر، بل تعجل في وقتها.

قال: [ وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون:10] ] رجل أو امرأة [ أي: من قبل أن ينتهي أجله ويأتي ملك الموت لقبض روحه. وفي هذا دليل قاطع على وجوب أداء الواجبات في أوقاتها، وسواء كانت زكاة أو صلاة، أو حجاً أو غيرها، كقضاء الديون، من قدر على سدادها ] وجب عليه على الفور ألا يتراخى أو يتباطأ [ وذلك لعدم العلم بساعة الوفاة، والموت قد يأتي بغتة، فكم من نائم ] نام و[ مات في نومه ] والله العظيم [ وكم من مسافر مات في سفره، وكم من راكب مات في ركوبه، وكم من صحيح مرض ومات في مرضه ] ولهذا قال: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون:10]. فيتأسف ويتحسر ويقول: يا ليتني عجلت!

قال: [ وقوله تعالى: فَيَقُولَ رَبِّ [المنافقون:10] ] أي: يا رب! [ لَوْلا [المنافقون:10] ] أي: هلا [ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون:10]، أي: يقول المحتضر الذي حضره الموت متمنياً على الله أن يؤخره إلى وقت يمكنه فيه أن يتصدق ويؤدي الحقوق ] لأصحابها، أو أن يصلي، أو يدفع هذا المال، أو يرده إلى أهله، وكل ميت يتمنى هذا، فيقول: رَبِّ [المنافقون:10] أي: يا رب! لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون:10]، أي: ساعة من العمر أو ساعات، أو يوم أو أياماً قلائل؛ حتى أسدد الديون، وأقضي ما وجب عليَّ.

قال: [ وقوله: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10] ] أي: لأتصدق بمالي، وأكون من جماعة الصالحين، الذين أدوا حقوق الله كاملة وحقوق العباد كاملة. والذي يقول هذا الكلام هو المريض عندما يكون الموت في حنجرته.

مواكب أهل الجنة

وهنا لطيفة: مواكب دار السلام أربعة، والمواكب: جمع موكب، وأنتم تعرفون مواكب الملوك والسلاطين. فمواكب دار السلام أربعة، ذكرها تعالى في قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، أي: محمداً صلى الله عليه وسلم طاعة كاملة؛ إذ بهذه الطاعة تزكو نفس العبد، وتطيب وتطهر. وهذا هو سر طاعة الله والرسول، أي: أن تزكو النفس؛ إذ هذه العبادات عبارة عن مركبات من شأنها أن توجد الحسنة في النفس، والطهر والزكاة. و(95%) من العالم الإسلامي لا يعرفون سر هذه الطاعة؛ لأنهم لم يجلسوا في مجالس العلم، ولم يتعلموا، وقد تجد الرجل عمره أربعين سنة ولم يجلس في حلقة كهذه يوماً ما، ولهذا فهو لا يعلم، أو أنه تعلم عند علماني لا يعرف إلا المادة ويقيس عليها الحياة.

فاعرفوا أن سر طاعة الله والرسول: أنها تزكي النفس وتطهرها حتى تجعلها كأرواح الملائكة. واقرءوا حكم الله فينا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: النفس؛ فقد قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10]. ومواد التزكية ليست الماء والصابون، وإنما طاعة الله ورسوله، هذه هي التي تزكي؛ لأنها عبادات.

ومنها: أنه عندما يقول الشخص: لا إله إلا الله ينعكس أثر هذه الجملة والله على نفسه، فتشرق لها نفسه، وكذلك عندما يتصدق بريال واحد يريد وجه الله ما إن يخرجه من يده حتى ينعكس أثره على نفسه بالصفاء والطهر، كما أن الكلمة من الكذب ينعكس دخانها ونتنها على نفسه فتتدسى. وهذه سنن لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فسنن الله لا تتبدل، فكل كلمة سوء فيها غضب الله تنطق بها ينعكس أثرها على نفسك، فتظلم وتسود.

قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] جزاؤه فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]. وهم: مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69]. هذا الموكب الأول. وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69]. وهذا الموكب الثاني. وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69]. وهذا الموكب الثالث. وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]. وهذا الموكب الرابع. فمواكب أهل الجنة أربعة. اللهم اجعلنا منهم.

وأفضل هذه المواكب موكب النبيين، وثانيها موكب الصديقين، وثالثها موكب الشهداء، ورابعها موكب الصالحين.

بيان من هو الصالح من الناس

ليس الصالحون سيدي عبد القادر ، ولا سيدي البدوي ، ولا سيدي أحمد ولا سيدي عبد الرحمن. والمسلمون لا يعرفون سيداً إلا هؤلاء، وإذا دخلت إلى القاهرة أو إلى فاس أو إلى مكناس أو إلى بغداد وسألت أهلها أن يدلوك على أحد الصالحين منهم فلن يوصلوك إلا إلى قبر، ولن يوصلوك إلى حي.

وأقول: اسمع وعي وافهم وبلغ يا عبد الله! واسمعي يا أمة الله! الصالح من الناس هو: من أدى حقوق الله كاملة، ولم يبخس منها شيئاً، وأدى حقوق الناس كاملة، ولم ينقص منها شيئاً. هذا هو الصالح. فالذي يريد منكم أن يكون صالحاً من الصالحين عليه أن يؤدي حقوق الله كاملة، ولا يبخس منها ولا ينقص ولا يطفف، ويؤدي حقوق الناس كاملة.

والأنبياء والله صالحون، والصديقون والله صالحون، والشهداء والله صالحون، والصالحون والله صالحون.

وما من عبد يتطهر بدناً وثوباً وجسماً ويستقبل بيت الرب ويقول: الله أكبر فإنه والله العظيم يجلس بين يدي الله، ويدخل في مناجاة مع الله عز وجل. ورسول الله يقول: ( المصلي يناجي ربه ). ويقول: ( إن الله ينصب وجهه لعبده في الصلاة ). فلهذا استح وأنت بين يدي الله أن تلتفت، فهذا معرة وعيب كبير، ولا تقبل صلاتك هذه أبداً.

فاعرفوا أنكم أسعد الخلق، وأنكم أعظم من اليابان والصين، ومن أمريكا وأوروبا، ومن كل العالم من غير المؤمنين. ووالله لو وضعنا أحد منا الآن في كفة ميزان ووضعنا اليابان والصين وأمريكا وكل الكافرين والمشركين في كفة لرجحت كفة هذا المؤمن. والله أكبر!

وأزدكم بياناً: لو قتل كل الأمريكيين والصينيين والأوروبيين واليابانيين وكل الكفار فإن قتلهم بكاملهم لا يساوي قتل مؤمن واحد.

والسر في هذا: أن هذا المؤمن يذكر الله ويعبده، وأولئك كفروا به وتركوه، ولم يذكروه ولم يعبدوه، ولذلك لا قيمة وجودهم. فالكفار جريمتهم أنهم نسفوا الكون كله ودمروه؛ لأن الكون كله مخلوق لأن يذكر الله ويشكره، فلما عطلوا عبادة الله فيه كانوا كمن خربه كله. ولهذا فإن الكافر يعذب في عالم الشقاء بليارات السنين، وجريمته هي: أنه ما عبد الله في حياته التي كانت ثمانين سنة أو مائة سنة؛ ولذلك فإنه يعذب أبداً، وكذلك جريمته أنه نسف السماوات، ودمر الجنة، والعوالم كلها وخربها؛ لأنها كلها خلقت من أجله حتى يعبد الله، ولكنه أبى، فكانت جريمته كأنما دمر الكون كله، ولهذا يعذب بلا حساب، وبلا عدد مليارات السنين، وكذلك جريمته أنه لوى رأسه ولم يلتفت إلى الله الذي خلقه ورزقه، وخلق كل شيء من أجله، ولم يذكره ولا جلس بين يديه. ولولا أن الله عدل لما استحق أن يأكل أو يشرب.

فكونوا من الصالحين - وإن شاء الله نكون منهم- وذلك بأن تؤدوا حقوق الله بدون أن تنقصوا منها شيئاً، وأن تؤدوا حقوق الناس التي عليكم، ولا تنقصوا منها شيئاً، وستكونون والله من الصالحين وفي عدادهم. وكل مؤمن ومؤمنة يطيع الله والرسول محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه يضمن وجوده في هذه المواكب الأربعة، وهذا بإخبار الله وقضائه وحكمه، فقد قال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

ولهذا لما نحمد الله ونثني عليه ونمجده ونتملقه نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، وهو صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]. وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون.

وقد قال تعالى قبل هذا الدعاء -وهو يعلمنا فيه كيف ندعو الله-: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]. وهذا حمد له تعالى وثناء عليه أولاً، ثم قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]. وهذا تمجيد. ثم قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]. وهذا تملق، كما يتملق أحدنا الغني أو الحاكم، كأن يقول: أنا لا أحب في هذا البلد إلا أنت، ولا أعرف إلا أنت. ثم قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. فنتملقه تعالى بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك. وهذا تملق. ثم بعد ذلك نطلب حاجتنا، كما قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. وهذا الصراط صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]. وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وليس صراط المغضوب عليهم ولا صراط الضالين. والمغضوب عليهم هم الذين يعلمون ولا يعملون، كاليهود وغيرهم، فكل من يعلم ويعرف ولا يعمل بعلمه اتباعاً لشهواته ودنياه وهواه يغضب الله عليه، وهو من المغضوب عليهم. والضالون هم أهل البدع والخرافات والضلالات، فهم يعبدون بلا علم، وبدون أن يعلموا ماذا قال الله وقال الرسول، كضلَّال كالنصارى، فهم عندهم الكنائس والأموال والصدقات وغير ذلك، ولا يعرفون كيف يعبدون الله، فهم ضالون.

تمني العصاة للتأخير عند الموت

قال: [ هذا مفاد تمنيه وهو أن يتصدق بماله، ويكون من الصالحين، بأن يحج ويعتمر، ويصل الرحم ويرحم الفقراء، ويساهم في مشاريع الخير، كبناء المساجد ودور اليتامى، والإنفاق على الجهاد وما إلى ذلك ] لأن الصالحين يؤدون حقوق الله وحقوق الناس [ إلا أن هذا التمني وهذا الطلب لا يجديه شيئاً أبداً؛ لأن حضور ملك الموت لقبض الروح لا يرده أحد إلا الله ] وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ). والغرغرة: الحشرجة. وأنا لم أعرف الغرغرة على حقيقتها إلا أيام الراديو، وقد كنت أقرأ القرآن من الصبا، وكانت تأتي علي كلمات لا أتذوقها ولا أفهمها، وتأتي الأحداث وأفهمها، ومن ذلك الغرغرة، فقد كنا نشتغل بالبطاريات الصغيرة التي تشغل جهاز الراديو؛ لأنه لم يكن عندنا كهرباء، وعندما تكون البطارية جديدة يشتغل بها أسبوعين أو شهراً، ثم تبدأ تنقص، وتكون لها حشرجة والله كحشرجة الميت؛ لأن الروح كالنور وكطاقة كالكهرباء، وهي تسري في الجسم. وتلك الكهرباء أو ذلك النور في تلك البطارية في أيامها الأولى يكون قوياً، ثم تضعف شيئاً فشيئاً، حتى لا تقوى على تشغيل الجهاز. وكذلك هذه الروح هي عبارة عن طاقة قوية فينا، ثم تأخذ تنفصل عن الجسم حتى تصل إلى الحلقوم، فإذا أراد صاحبها أن يتكلم غرغرت وحشرجت في الصدر، كما يقول أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ). فإذا غرغرت فلن تقبل له توبة قط، ولو قال: مالي كله للفقراء لم ينفعه هذا.

قال: [ والله قد قضى وحكم، فلم يبق مجال للطلب والتمني، وإنما هذا من تمني الحسرة والندامة، وهما لا ينفعان، بل يزيدان في الكرب والحزن، وكيف والله يقول: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11] ] أي: إذا وصل أجلها ووقتها المؤجل له، وسواء كانت نفس سعيد أو شقي .. قوي أو فقير [ فإذا كان تعالى القوي القدير لا يؤخرها فهل يؤخرها غيره من المخلوقين المربوبين العجزة الهالكين؟! ] لا والله.

الحث على مراقبة الله سبحانه وتعالى

قال: [ وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11] يحض به تعالى المؤمنين على إصلاح أعمالهم، والتزود لآخرتهم، بإعلامهم بأنه مطلع على أعمالهم، خبير بها، وسواء ما كان منها صالحاً أو فاسداً ] فيا عباد الله! اذكروا أن الله خبير، والخبير أكثر من العليم، ومعروف أن الخبرة زائدة على العلم.

قال: [ ألا ] والناس لا يعرفون إلا ألو، وهم لا يسمعون بألا هذه. وألو هذه جاء بها اليهود والنصارى، ويقولون: ليس لها معنى، وإنما هكذا وجدت مع التلفون. وقد سبق القرآن بألف وأربعمائة سنة بذكر ألا، وألا مع الجمل الأسمية الخبرية معناها: انتبه وأنت حاضر تسمع، ومستعد للتلقي.

قال: [ فليراقب العبد ربه، فيصحح معتقده ] بأن يحقق معنى لا إله إلا الله. ومعنى لا إله إلا الله: ألا يعترف بعبادة غير الله؛ إذ لا معبود إلا هو، وأن يعبده وحده، وبما شرع في كتابه وفي سنة رسوله [ ويحسن عمله ] فلا يؤدي صلاة ولا صياماً ولا وضوء ولا حجاً إلا على النظام الذي وضعه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ويلازم ذكر ربه بقلبه ولسانه ] فما دام إن الله خبير بما نعمل فيلزم من ذلك أن نراقب ربنا.

قال: [ وأخيراً: أيها القارئ الكريم !] أو المستمع المستفيد! [ إليك خلاصة ما حواه هذا النداء الإلهي الكريم، فاحفظه وانتفع به:

1- حرمة التشاغل بالمال والولد إذا كان يحملك ذلك على إضاعة بعض الفرائض، أو ترك الحقوق والواجبات، كذكر الله تعالى وفعل الخيرات ] فاشتغل بمالك، ولكن لا يلهيك.

وصلى الله على نبينا محمد.