قوة الإرادة وعلو الهمة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فيطيب لي في هذه الليلة أن أتحدث إليكم في هذا المجلس الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله مجلساً خالصاً لوجهه، وأن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، الذين تجالسوا في الله، وتذاكروا في الله، وتحابوا في الله، واجتمعوا على طلب العلم.

أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: قوة الإرادة وعلو الهمة.

قوة الإرادة وعلو الهمة موضوعان مترابطان؛ وهذان الموضوعان في غاية الأهمية من جهة الحاجة إليهما؛ لأنه لا يقوم بدين الله إلا من كانت له إرادة قوية وهمة عالية، فإن هذا الدين دين قويم ودين عظيم، والله سبحانه وتعالى أنزله وامتحن به الناس؛ ليرى من الذي يقوم به ممن لا يقوم، من الذي يتحرك لنصرته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ومن الذي يتخاذل عن ذلك ويركن إلى الدنيا وإلى الدعة والكسل.

وهذان الموضوعان أيضاً في غاية الأهمية من جهة علاج الواقع الذي نعيش فيه، فإننا في حال هزيمة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وإن العودة بالنفس والمجتمع من حال الهزيمة إلى حال الانتصار تحتاج إلى إرادة قوية وهمة عالية.

وحال الأفراد الذين يقولون: عندنا معاصٍ لا نستطيع أن نفارقها، وشهوات واقعون فيها لا نستطيع أن نبارحها، ومن مشاكلنا ضياع الأوقات والدخول في مشاريع دون تكملتها، وتنقطع بنا السبل، ونعيش في فوضى، وحياتنا ليست مرتبة على حسب الشريعة.

لا شك أن علاج كل هذه المشكلات وعلاج قضية عدم الجدية في الالتزام بالإسلام وهذه الأوقات الضائعة، والالتزام الناقص، ومظاهر نقص الاستقامة؛ لا شك أنها لا تعالج إلا بإرادة قوية وهمة عالية.

ونحن نلتفت لعلاج أنفسنا إلى الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء والشهداء الذين قضوا نحبهم وهم مقيمون على طاعة الله، أولئك الذين وصفهم الله تعالى بأنهم صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23] . أولئك أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، والإرادات التي جعلت أصحابها في ذلك المستوى الإيماني المرتفع.

أيضاً: فإن هذا الموضوع مهم في العبادة، والجهاد، وطلب العلم، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأمور الشرعية المطلوبة لا يمكن تحقيقها إلا بذلك.

ولنشرع بالشطر الأول من هذا الموضوع وهو قوة الإرادة.

أما الإرادة: فإن الإرادة الكاملة التامة هي لله سبحانه وتعالى، الذي وصف نفسه بأنه فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] لا تحدث حركة ولا سكنة في الأرض ولا في السماء إلا بإرادته ومشيئته، ولو شاء عدم وقوعها لم تقع، فهذه هي إرادته الكونية القدرية التي لا بد من وقوعها، كما قال الله عز وجل: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82]، وقال: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [الإسراء:16].. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة:41].. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد:11] فمشيئته سبحانه وتعالى نافذة، إرادته نافذة؛ هذه الإرادة الكونية القدرية.

والإرادة الثانية: هي الإرادة الدينية الشرعية كما قال الله تعالى فيها: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] ثم إن بعض الناس قد يسلكون سبيل التوبة فيتوب الله عليهم، وبعض الناس لا يسلكونها فلا يتوب الله عليهم، وقال الله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وهذه أيضاً من الإرادة الدينية الشرعية، فلو كانت الإرادة هذه كونية لما حصل لواحد منا عسر أبداً، والخلط بين الإرادتين هو الذي يورد المهالك.

وقد ضل أناس في هذين النوعين فجعلوهما شيئاً واحداً، فصار بعض الناس يقولون: إننا مجبورون على الأفعال لا إرادة لنا، وبعض الناس يقولون: إن كل شيء نفعله فالله يريده، يعني: يحبه، فضلوا واستمروا على المعاصي والضلال، قالوا: إن الله يحب هذا واحتجوا بأنه وقع وأن الله أراده، وبعض الناس: ضلوا في الناحية الأخرى فقالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وهؤلاء الضُّلاَّل هم الذين انحرفوا في مفهوم إرادة الله سبحانه وتعالى فخلطوا بين الإرادة الشرعية وبين الإرادة الكونية، والذي يخلط بينهما -ولا شك- يضل.

فهؤلاء الذين قالوا: إن العباد يخلقون أفعالهم بأنفسهم جعلوا هناك أكثر من خالق، بل إن عدد الخالقين صار بعدد الناس الذين يفعلون الأفعال، ولا شك أن الله خلقنا وخلق أفعالنا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وأما الذين قالوا: إن العباد ليس لهم إرادة وإنهم مقصورون ومجبورون على أفعالهم سلبوا العباد القدرة والإرادة التي أعطاهم الله إياها، بل إنهم بهذا الكلام الباطل جعلوا تعذيب الله للعاصي مثل تعذيب الطويل؛ لماذا لم يكن قصيراً، والقصير؛ لماذا لم يكن طويلاً، بل إنهم عذروا إبليس وقدموا العذر لفرعون وهامان وقارون ؛ لأنهم معذورون بما فعلوه لأنهم مجبورون، وقال قائلهم في البيت المشهور:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له     إياك إياك أن تبتل بالماء

هذا بيت من عقيدة الجبرية، والذي قاله جبري، يقول: إن الإنسان مجبور، وأن الله سبحانه وتعالى امتحنه مع أن المخلوق لا إرادة له، بل إن بعض هؤلاء القدرية الضُّلال اجتمع نفر منهم فتذاكروا في القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النمل:24] فقال أحدهم: كان الهدهد قدرياً، أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وكل ذلك من فعل الله.

ونحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى أعطانا القدرة وأعطانا الإرادة، ولكن لا يقع إلا ما يريده الله، لم يسلبنا الله الإرادة والقدرة، بل إن العبد إذا أراد أن يفعل شيئاً فإن له الحرية في الفعل إذا أراد الله وقدر وقوع ذلك، ولا يشعر العاصي بقوة تدفعه إلى عمل الشيء وهو لا يريد ذلك أبداً، وليس العبد مجبوراً على أفعاله مطلقاً، وكم كانت هذه العقيدة الضالة سبباً في صد بعض الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وهذا مثال على ذلك:

قال بعض السلف : خرجنا في سفينة وصحِبَنَا فيها قدريٌ ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله -هذا عين ما يقع اليوم من بعض الناس الفسقة إذا قلت لهم: التزموا بدين الله.. عودوا إلى الله.. اتركوا المعاصي.. قالوا: حتى يريد الله- قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد، فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية قال: فأنا مع الأقوى منهما.

وهذا الضلال بسبب الخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فإن الله سبحانه وتعالى أعطانا الإرادة وأراد منا أن نعبده سبحانه وهو لا يقع في ملكه إلا ما يريد: إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:47] ومن الأدلة على أن الإنسان له إرادة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في عدد من المواضع في كتابه، كقوله عز وجل: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا [القصص:19].. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79].. وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79].. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً [القصص:19] فنحن لنا إرادة ضمن إرادة الله، ولا يمكن أن نخرج عن إرادة الله، ولكن لنا إرادة، لسنا مجبورين على أفعالنا.

وبالمناسبة فإن عدداً من الذين يتكلمون عن موضوع الإرادة من أصحاب الكتابات في علم النفس المأخوذ من النظريات الغربية والمبني على عقائد القوم المنحرفين والكفرة عندهم هذه المسألة، وهي أنهم يقولون في كلامهم: إن الشخص يستطيع أن يفعل ما يريد، وأن الإنسان إذا صمم على شيء فلا بد أن يفعله، فهذا من نتيجة إلحادهم وعدم إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وبمشيئته وإرادته، وأننا تحت قهره وسلطانه ونفوذه عز وجل.

فالله سبحانه وتعالى خلق فينا الإرادة وجعل فينا غرائز وأهواء وشهوات، فالإرادة الحازمة تلبي المطالب الشرعية وترفض الإذعان لما يخالف الشريعة، وعلى مقدار إيمان الإنسان تكون قوة إرادته، وبمقدار انحرافه واتباعه لأهوائه وشهواته ونزواته وغرائزه تكون ضعف إرادته؛ لأن الشهوة تجعل ضعيف الإرادة مسوقاً إلى تحقيق مطالب النفس الأمارة بالسوء بدون أن يقاوم، وإرادة الإنسان المسلم تكبح جماح الأهواء والشهوات الثائرة وتسكنها بالكبح والصبر.

وإذا كانت الإرادة قوية محكومة بالعلم الشرعي مع العقل والحكمة التي اقتضتهما الشريعة وجاءت بهما، فإن أفعال المسلم تكون حكيمة ونافعة، وإذا كانت الإرادة ضعيفة أو غير مقرونة بالعلم والعقل والحكمة فإن التصرفات لا تكون حكيمة ولا نافعة، وضعيف الإرادة يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والتباطؤ في العمل، ويجعل غالب وقته في الهزل، ويتعطل عن العمل عند شعوره بأدنى تعب في جسمه، أو علة في نفسه، أو عند شعوره أن العمل لا يوافق هواه.. وهكذا.

وهؤلاء ضعفاء الإرادة متبعون لأهوائهم، ولذلك تراهم يخلدون إلى النوم الطويل القاتل للقوة والمتلف للجسم، وهؤلاء الذين لم يلتزموا بدين الله ولم يأخذوا بهذه الشريعة فقصروا وجعلوا للشيطان عليهم سبيلاً.

وبعض الناس يكون عندهم قوة إرادة لكن لا يحكمونها بحكمة الشريعة، قد تكون إرادتهم قوية جداً، لكن لسبب فقدانهم للعلم والحكمة تكون قوة إرادتهم نكبة على أنفسهم، فقد يضغط بعضهم على نفسه فيركب مركب الغلو، فيصل إلى تعذيب النفس والجسد فينهار ويتحطم، وبعضهم قد يستخدم إرادته القوية فيفرض سيطرته على مجموعة من الناس ويقودهم للإجرام، وبعضهم من قوة إرادته يغامر بنفسه وبغيره مغامرات تقودهم إلى الهلكة، وهذا من الغلو في هذا الموضوع.

وإن الإرادة التي نتكلم عنها هي إرادة وجه الله، ما نريده إرادة وجه الله سبحانه وتعالى، فإن بعض الناس في هذه الدنيا عندهم قوة إرادة لكنهم وجهوها لطلب الحياة الدنيا، فأرادوها وسعوا من أجلها، فمن أجل الدنيا يعيشون ومن أجلها يكافحون ومن أجلها يعملون في الصباح والمساء حتى يصل إلى غنى، أو شهرة، أو منصب، أو شهادة، ونحو ذلك.

وهذا حال كثير من الناس اليوم، فإن بعضهم عنده إرادة قوية لكن في أي شيء سخرها؟ لجمع الأموال، وفتح الشركات، ومتابعة الأعمال أو الدراسة، وكله في الدنيا، تجده يهلك نفسه في الدراسة الدنيوية وهو مفرِّط في أمور الشريعة وفي أمور الدين، وجَاعلٌ إرادته كلها منصبة في قضايا الدنيا، فهذا الذي قال الله عز وجل فيه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، يعني: قد تحصل له وقد لا تحصل، فإن بعضهم يكدحون ويكدحون وعندهم إرادات لكن لا يوفقهم الله حتى في الدنيا مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * <وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً[الإسراء:18-19].

فالذين لا يريدون وجه الله وليس عندهم إرادة لوجه الله، هؤلاء يكون من عقوبتهم التثبيط عن الأعمال الصالحة؛ لأنهم ما أرادوا وجهه، ولا فعلوا موجبات الإرادة، فإذا كان إنسان يريد الدين فعلاً، ويريد نصرة دين الله، والعمل له لكان قام بالأعمال، ولصار عنده من أعمال الجوارح وغيرها والتخطيط والتدبير لنصرة هذا الدين والسعي إليه، لكن لما فرط وتخلى ثبطه الله، كما قال الله سبحانه وتعالى في الذين في قلوبهم مرض: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46] لقاموا بالعمل وجهزوا أنفسهم بما يستطيعون وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].

وفي هذه الحياة الدنيا التي نعيش فيها مغريات خضرة حلوة تجذب بما فيها من الزينة والأموال واللهو واللعب، ولذلك يحتاج المسلم إلى قوة إرادة للوقوف أمام شهواتها وإغراءاتها وجاذبيتها، نحتاج إلى قوة الإرادة في أي شيء؟ في الثبات ضد هذه المغريات، قوة إرادة للثبات أمام عوامل الانحراف، وأمام عوامل التثبيط والفتور، سواء التي تأتي من داخل أنفسنا الأمارة بالسوء، أو التي تأتي من الخارج من كيد الأعداء والشيطان ونحو ذلك، وهو يسير ويجري من ابن آدم مجرى الدم، نحتاج إلى قوة الإرادة في مواجهة الوساوس التي يلقيها الشيطان، حتى هؤلاء الناس الذين عندهم وساوس في الطهارة فيعيدون الوضوء عشرات المرات ويمكثون في مكان قضاء الحاجة والحمامات الساعات الطوال ويعيدون الصلوات، بل ربما من شدة الوسوسة جعل بجانبه شخصاً يحسب له عدد الركعات.

فما هو علاج الوسوسة؟

إذا فكرت ونظرت لوجدت أن العلاج قوة الإرادة المانعة من تكرار الفعل، مثلاً: لو توضأ إنسان بشكل صحيح موافق للسنة، غسل الأعضاء، ووصل الماء إلى البشرة كما أمره الله، فجاءه الوسواس فقال له: ربما لم تغسل، ربما لم تمسح شعرة، ربما لم تفعل كذا وكذا، وهو يعلم أنه إذا وضع يده على شعره لوجد البلل، وأنه إذا نظر في مرفقيه وجد الماء، فما الذي يثنيه وما الذي يرد الوسواس عنه؟ الإرادة القوية المبنية على التوكل على الله، والعمل الشرعي الذي ينبئك بأن إعادة العبادة محرم لا يجوز، فلو أعدت الوضوء تأثم.

نحتاج إلى الإرادة القوية في مواجهة الفتن؛ فتنة الزوجة التي تجر الإنسان إلى المعاصي إلا من رحم الله، فتأمر الزوج بالمعصية، أو تحببها إليه، أو تقول: لماذا لا نذهب إلى المكان الفلاني؟ وفيه ما لا يرضي الله، أو لماذا لا نشتري الشيء الفلاني؟ وهو محرم لا يرضي الله، ولماذا لا ندخل في بيتنا الآلة الفلانية؟... وهكذا مما تأمر به الزوجة إذا لم تكن طائعة لله.

أما فتنة الأولاد: الولد مجبنة مبخلة محزنة مجهلة؛ مجهلة: يصرف الإنسان عن طلب العلم، مبخلة: يصرف الإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وعن الخوض والقتال في المعركة في سبيل الله، محزنة: إذا مرض وغير ذلك، فالأولاد فتنة: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فالصمود أمام هؤلاء يحتاج إلى إرادة قوية.

قوة الإرادة مهمة في مقاومة ميل النفس إلى الدعة والراحة، النفس بطبيعتها تميل إلى الدعة والكسل، وتميل إلى الفوضى، والإرادة القوية هي التي تحمل النفس على العمل وترغمها على عدم الانجرار وراء ساعات النوم الكثيرة، ويرغمها على التنظيم المقاوم للفوضى... وهكذا.

قوة الإرادة هي التي تصد الشيطان عن إلقاء المخاوف وعن الاستجابة لها: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175] يخوف أولياءه يعني: يجعل أولياءه -أعداء الإسلام- يظهرون في أعينكم وفي أنفسكم القوة التي لها رهبة وخوف إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] يخوفكم يا أيها المؤمنون بأوليائه فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175].

الإنسان يتعرض إلى مصائب؛ مثل الموت، والمرض، والفقر، وهذه الإرادة القوية هي التي تجعل الإنسان صامداً أمام المصيبة، صابراً محتسباً على وقوع قضاء الله وقدره.

والإرادة القوية هي التي تحمي الشخص والفرد المسلم عن الانسياق وراء الجموع الضالة التي تهيم على غير هدى من الله وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]. والإنسان من طبيعته أنه يحب موافقة الكثرة، والاختلاف عنهم ومفارقتهم صعبة على النفس، ولذلك تجد كثيراً من الناس لو سألته عن سبب معصية أو عمل خطأ أو بدعة يفعلها لقال لك: كل الناس يفعلون ذلك، ما عنده إرادة قوية تعصمه عن الانسياق وراء الكثرة الضالة التي تتبع الهوى والجهل والعادات والتقاليد، وكذلك الأئمة المضلون الذين يسوقون الناس بالضلال ويلبسون عليهم، والطاعة العمياء للغوغاء، لكن الإرادة القوية تقوم حائلاً بين الإنسان المسلم وبين مجاراة الجمهور فيما يريدونه إذا كان من معصية الله.

ما هي وسائل تقوية الإرادة؟

الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته يقوي الإرادة

أولاً: الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وقضائه وقدره، والتوكل عليه، وحسن الظن به، والثقة بالله سبحانه.

لاحظ الفرق بيننا وبين طرح مفهوم الإرادة عند الكفار وفي بعض كتب النفس، يقولون: أنت تستطيع أن تفعل أي شيء، تستطيع أن تفعل كل شيء، رددت وقلت: أريد وأريد وأريد وستفعل ذلك مهما كان، ونحن نقول: لا بد أن يوجد عندنا تصميم وعزم كما دعتنا الشريعة إلى ذلك، لكن لا بد أن نتوكل على الله، ونفوض أمرنا إلى الله مع العمل: (اعقلها وتوكل) أما الكفار يعقلون ولا يتوكلون، هذا هو الفرق بيننا وبينهم.

ولذلك إذا فشل الواحد منهم تحطم وانهار وانتهى وربما انتحر أو أصيب بالجنون أو الأمراض العصبية، لكن المسلم يعمل وهو متوكل على الله فلو لم يستطع الوصول إلى مرامه ولا نجح فإنها فيصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى.

بالتربية تنمو الإرادة

ثانياً: التربية هي التي تدرب الشخص على مقاومة الأهواء والشهوات، وتربية الإرادة في نفسه هي التي تكبح جماح هذه الأهواء والشهوات، فالإنسان قد يفشل في المرة الأولى فينهار من أول مواجهة، لكنه بالتربية يصمد في المرة التي بعدها، نعم قد لا يستطيع الصمود إلى النهاية أو لا يصمد إلى النهاية ويسقط، لكن مع النصيحة والمتابعة والتوجيه وشد الأزر ومع الجو الطيب تتكون عنده الإرادة وتنمو الإرادة القوية التي تساعده في الوقوف أمام جيوش المعاصي والشهوات.

تحديث النفس بالطاعة والانتهاء عن المعصية

ثم من وسائل تقوية الإرادة: تحديث النفس بالشيء من طاعة الله، أو الانتهاء عن معصية الله، تحدث نفسك به باستمرار، وتتذكره بينك وبين نفسك، تأمل في حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق) هذا الذي يموت على شعبة من النفاق، لو أنه كان يحدث نفسه بالغزو دائماً وقام قائم الجهاد ونادى المنادي للنفير فإنه سيكون مع الخارجين في سبيل الله؛ لأنه دائماً يحدث نفسه في هذا الشيء، ويذكر نفسه بهذا الشيء، ويردد على نفسه تلك الآيات والأحاديث المرغبة في هذا العمل.

وكذلك لو أنه يريد أن تكون عنده إرادة في مقاومة شهوة من الشهوات، يردد على نفسه ويتذكر دائماً وباستمرار هاجسه الذي يقلقه والشيء الذي يتردد في نفسه حرمة هذه المعصية وعقوبة العاصي عند الله والعزم على عدم العودة، والندم على الفعل، هذا في النهاية سيوصله إلى إرادة قوية تمنعه من الوقوع في هذه المعصية.

ممارسة العبادات من عوامل تقوية الإرادة

ومن عوامل تقوية الإرادة: ممارسة العبادات، ويجب أن يكون على رأسها ذكر الله عز وجل، وقد ثبت بالدليل الصحيح أن ذكر الله تعالى يقوي القلب ويقوي البدن، وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها وانتصر عليهم أولئك النفر من المؤمنين الذين لم يكونوا مثلهم في قوة الأجساد ولا في العدة والعتاد.

إذاً: من المزايا التي أعطاها الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات قوة الإرادة والإيمان والقوة في القلب والبدن.

ثم من العبادات التي تقوي الإرادة: الصيام: فلا شك أن الصيام يقوي الإرادة؛ إرادة الصبر على الجوع والعطش والشهوة لأجل الله سبحانه وتعالى، فهناك عبادات واضح أثرها في تقوية الإرادة.

عدم التردد والتحير

من الأمور المهمة أيضاً: عدم التردد والتحير والتلكؤ إذا ظهر لك رجحان الأمر شرعاً وأنه من طاعة الله، بل ينبغي عليك الإقدام والإسراع، الذين يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90].

ينبغي عليك أن تأخذ بجانب الحزم والعزم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) وهذا في غزوة أحد حيث استشار القوم فأشار بعضهم بالخروج وأشار الآخرون بعدم الخروج فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول الذين قالوا بالخروج من المدينة لملاقاة العدو ولبس لأمته، وكأن بعضهم ندم، قالوا: ربما أكرهنا النبي صلى الله عليه وسلم فراجعوه إذا كان يريد أن يقعد، يعني: ما عندهم مانع في ذلك، وهم يؤيدونه لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما دام اتخذ القرار ورأى فيه المصلحة الشرعية بعدما شاور فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159] فقال: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل).

وهذا درس في مسألة رد التحير والاضطراب والتردد ونبذ هذا الكلام والإقدام على الأمر بالحزم والعزم.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا هذا المفهوم في حديث مهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) طبعاً القوي في كل شيء؛ في إرادته، وفي دينه وإيمانه وبدنه ومهاراته وقدراته. (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) يعني: أقدم ولا تتردد.. لا تتحير.. لا تتخاذل.. لا تتكاسل، احرص على ما ينفعك؛ ما دام رأيت فيه المصلحة الشرعية.

(واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء -بعد كل هذه الإجراءات- إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).

إذاً: الإرادة القوية تقتضي الحزم والإقدام والجرأة والشروع في العمل، ولا للتردد والحيرة والاضطراب. وهذا الحديث رواه أحمد ومسلم .

وهذه اللفتة أيضاً موجودة في حديث مسلم لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه. قال عمر رضي الله عنه، أنه ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ). بأي سبب؟ بسبب هذا الوصف يحب الله ورسوله، وهذا من ورع عمر رضي الله عنه ما كان يتطلع للإمارة إلا في هذا الموقف. (فتساورت لها رجاء أن أدعى إليها. قال أبو هريرة : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... ) الحديث.

ومن صفات القائد المسلم الذي يقود في معركة، أو في أي مجال آخر من المجالات أنه لا يتردد ولا يتباطأ لأن عامل الحسم عامل مهم في القيادة، إذا كان الكفار يتكلمون عنه في كثير من الأمور العسكرية والإدارية وغيرها نحن أولى وأحرى بهذا، بل هو من ديننا وعرفناه قبلهم من هذا الدين.

وإن عدم التكاسل والتردد يكون حتى في العبادة، في الصلاة، في السهو إذا غلب على ظنه، يفعل ما ترجح لديه، وإذا لم يغلب على ظنه شيء وشك يبني على اليقين ولا ينصرف عن صلاته وهو شاك فيها، إما أن ينصرف عن يقين أو غلبة ظن ويسجد للسهو.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) هذه مثل: صلاة الضحى أربع ركعات في أول النهار تسبب الوقاية من الأحداث السيئة والأعراض والأمراض ونحو ذلك من الحوادث والأعراض السيئة. (لا تعجز عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) ويحتاج الإنسان في هذا إلى الصبر، وأن يكون جاداً، وأن يعقد قلبه على الشيء ويعزم؛ والعزم من مرادفات قوة الإرادة، قال الله عزوجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186].

فهناك أفعال تحتاج إلى عزيمة وقوة: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43] ليس كل الناس يستطيعون أن يصبروا ويسامحوا الآخرين.

يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17] فليس كل الناس يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يترتب على ذلك مع إقام الصلاة.

وتأمل في حال أولي العزم من الرسل، لماذا سموا بأولي العزم؟

هؤلاء الخمسة المقدمون عند الله عز وجل، كانت لهم إرادات تنفيذية على مستوى رفيع، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف:35].

ولذلك نحن نعزم ونتوكل على الله وننفذ ولا نكن كالعاجز الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني.

والإنسان المتعرض للشهوات ينبغي عليه أن يتدبر قول الله عزوجل: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:37-41].

فقوة الإرادة عند الشهوة أن تحضر قلبك وتحضر علمك وعزيمتك للوقوف أمام الشهوة وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين) فهذا الرجل الذي قال: إني أخاف الله رب العالمين أمام هذا الإغراء ذات منصب وجمال مغرٍ؛ وربما ترغمه وتسجنه وتذيقه الأذى إذا لم يستجب، فاجتمعت المسألة من جوانبها ترغيباً وترهيباً، وهو يقول: إني أخاف الله رب العالمين، هذا صاحب إرادة قوية.

المبادرة بالأعمال والمداومة عليها

ومن عوامل تقوية الإرادة أيها الإخوة: المبادرة بالأعمال قبل الأعراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال) قد يأتيك فقر ينسي، وقد يأتيك غنىً يطغي، وقد يأتيك مرض يقعدك، وقد يأتيك الموت، فبادر بالأعمال الآن واشرع بها قبل فوات الأوان، قبل أن تجتمع عليك الحوادث، أو يأتي ما لا تظن وما لا تفكر فيه.

وكذلك من عوامل تقوية الإرادة: أن يحافظ الإنسان على العمل وإن قل، فتشرع فيه ثم تحافظ عليه وإن قلت الأعمال (فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).

وكذلك: إذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر وراءه مباشرة؛ هذا من الأمور المهمة في متابعة قوة الإرادة، والدليل على ذلك قول الله عزوجل: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، إذا فرغت من الصلاة فانصب للذكر، فليس إذا انتهى الإنسان من عمل يذهب ويلعب، إذا انتهى من الصلاة يذهب ويطلق هوى النفس يقول: الحمد لله صلينا الصلوات وأدينا الفروض فيمكننا بعد ذلك أن نذهب لمشاهدة الأفلام والمسلسلات ونلعب الورق، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح:7] ليس موجوداً عند هؤلاء، ولذلك تكون إراداتهم ضعيفة، وصحيح أنه يحافظ على بعض الأعمال الدينية كالصلاة مثلاً، أو الزكاة أو الصيام لكن في بقية أعمال الخير كسول متردد مسوف.

التفاؤل يؤثر في الإرادة

وكذلك من الأمور التي تؤثر في الإرادة: التفاؤل وعدم التشاؤم، فإن بعض الناس الذين عندهم نفسيات متشائمة ليست عندهم إرادات قوية؛ لأنه بمجرد ما يرى شيئاً يجلب لنفسه التشاؤم فيترك العمل، وتنتهي الإرادة، وتفتر وتتلاشى، كما أن بعضهم إذا ذهب يفتح الدكان فرأى رجلاً أعور تشاءم وقال: هذا يوم سوء سنخسر ثم أقفل الدكان ورجع، وإذا خرج له رقم مقعد (13) قال: هذا رقم سوء وشؤم، أكيد سيحصل لي حادث فيلغي السفر ويرجع، وهكذا بعض الناس يتشاءمون، ربما لو طنت أذنه اليسرى قال: هذا العمل لا بد من عدم الإقدام عليه، وهكذا.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التفاؤل، كان يتفاءل ويحب التفاؤل، وقال: (الطيرة شرك) لا يجوز التشاؤم؛ والتشاؤم يبطئ الهمة ويشتت القلب ويميت روح الإقدام.

الصبر والتحمل يقوي الإرادة

وعلى المسلم أن يتحامل على نفسه رغم الصعاب؛ وهذه من الأشياء التي تقوي الإرادة، كما قال الله عزوجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104] ففي غزوة أحد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحق بالمشركين وفي المسلمين جراحات، وتعب شديد من المعركة وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104] مثلكم لكن الفرق أنكم وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] وهذا فرق أساسي ومهم جداً وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104] تحملوا وتجلدوا وتصبروا إن تكونوا تألمون فهم يألمون أيضاً لكنكم أنتم أيها المؤمنون وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].

ثم على المسلم أن يتلقى الأحداث بالصبر وعدم الجزع عند المصيبة، أو الحزن على ما فات، وهذا -ولا شك- نابع من الإيمان بالقضاء والقدر، والله سبحانه قال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] من قبل أن نخلقها ونوجدها في الواقع هي مكتوبة في كتاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] فائدة الإيمان بهذا المفهوم ذكرها الله تعالى فقال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23].

وبعد هذا العرض في موضوع قوة الإرادة لننتقل الآن إلى الشق الثاني من موضوع هذه الليلة وهو علو الهمة.

أولاً: الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وقضائه وقدره، والتوكل عليه، وحسن الظن به، والثقة بالله سبحانه.

لاحظ الفرق بيننا وبين طرح مفهوم الإرادة عند الكفار وفي بعض كتب النفس، يقولون: أنت تستطيع أن تفعل أي شيء، تستطيع أن تفعل كل شيء، رددت وقلت: أريد وأريد وأريد وستفعل ذلك مهما كان، ونحن نقول: لا بد أن يوجد عندنا تصميم وعزم كما دعتنا الشريعة إلى ذلك، لكن لا بد أن نتوكل على الله، ونفوض أمرنا إلى الله مع العمل: (اعقلها وتوكل) أما الكفار يعقلون ولا يتوكلون، هذا هو الفرق بيننا وبينهم.

ولذلك إذا فشل الواحد منهم تحطم وانهار وانتهى وربما انتحر أو أصيب بالجنون أو الأمراض العصبية، لكن المسلم يعمل وهو متوكل على الله فلو لم يستطع الوصول إلى مرامه ولا نجح فإنها فيصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى.

ثانياً: التربية هي التي تدرب الشخص على مقاومة الأهواء والشهوات، وتربية الإرادة في نفسه هي التي تكبح جماح هذه الأهواء والشهوات، فالإنسان قد يفشل في المرة الأولى فينهار من أول مواجهة، لكنه بالتربية يصمد في المرة التي بعدها، نعم قد لا يستطيع الصمود إلى النهاية أو لا يصمد إلى النهاية ويسقط، لكن مع النصيحة والمتابعة والتوجيه وشد الأزر ومع الجو الطيب تتكون عنده الإرادة وتنمو الإرادة القوية التي تساعده في الوقوف أمام جيوش المعاصي والشهوات.