وصايا الأنبياء والصالحين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعــد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزى الله القائمين على هذا المركز خيراً؛ إذ تسببوا في هذا الاجتماع الطيب المبارك. ولقد فعلوا بي معروفاً ربما لم يدركوه، بل أكثر من معروف.

أما المعروف الأول: فحين كانوا سبباً في مجيئي إلى هذا البلد الطيب، الذي كنت فيه في صغري وطفولتي، ودرست فيه السنين الأولى، وعشت فيه أيام الصبا، وتسنى لي بذلك رؤية المشائخ والإخوان الفضلاء، الذين طال العهد بهم.

أما المعروف الثاني: فذلك أنني حين قلت للإخوة: سوف أتحدث عن وصايا العلماء عند حضور الموت، أزمعت أن أجمع بعض هذه الوصايا، وكنت أذكر في مكتبتي كتاباً ألفه الإمام الربعي، وهو كتاب نفيس مفيد في بابه، يحمل نفس العنوان وصايا العلماء عند حضور الموت وجمع فيه وصايا العلماء وغيرهم منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى العلماء الذين جاءوا في دولة بني أمية وما بعدها. ولكنني لم أظفر بهذا الكتاب حين احتجته، فرجعت إلى أوراق لي قديمة، كنت قد جمعتها قبل خمس سنوات، وهي عبارة عن مقتطفات من كتب السنة، فقد تسنى لي في تلك السنين أن أقرأ مجموعة من كتب السنة كـالصحيحين، والسنن، والزهد لـابن المبارك، وغيرها. وكنت أجمع كل ما يتعلق بوصايا العلماء، وأصور في أوراق عندي؛ فرجعت إليها بعد أن كنت نسيتها، أو كدت أن أنساها فكانوا بذلك سبباً في مراجعتي لهذه الأوراق من جديد، واستفادتي منها، ومنها جمعت بعض هذه الوصايا التي سوف أعرضها عليكم.

أما لماذا وصايا العلماء عند حضور الموت؟

العلماء هم خير البرية

فأولاً: العلماء هم خير البرية، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7-8] وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

فبين الله عز وجل أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن من خشي ربه فهو من خير البرية. إذاً فالعلماء هم خير البرية، وهم أنصح الناس للناس، وأفصحهم، وأقدرهم على التعبير عما في نفوسهم.

أنصح ما يكون العلماء عند الموت

أنصح ما يكون العالم عند حضور الموت، فإن الإنسان إذا حضره الموت فهي ساعة صدق وإخلاص، يؤمن فيها الكافر، ويصدق فيه الكاذب، ويزول فيها البهرج، ويظهر الإنسان فيها على حقيقته؛ فيقول الحق ولو كان على نفسه.

ولذلك، فإن نصيحة العالم عندما يحضره الموت هي من أعظم النصائح، وأجدرها بالأخذ، والقبول.

فأولاً: العلماء هم خير البرية، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7-8] وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

فبين الله عز وجل أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن من خشي ربه فهو من خير البرية. إذاً فالعلماء هم خير البرية، وهم أنصح الناس للناس، وأفصحهم، وأقدرهم على التعبير عما في نفوسهم.

أنصح ما يكون العالم عند حضور الموت، فإن الإنسان إذا حضره الموت فهي ساعة صدق وإخلاص، يؤمن فيها الكافر، ويصدق فيه الكاذب، ويزول فيها البهرج، ويظهر الإنسان فيها على حقيقته؛ فيقول الحق ولو كان على نفسه.

ولذلك، فإن نصيحة العالم عندما يحضره الموت هي من أعظم النصائح، وأجدرها بالأخذ، والقبول.

إخواني وأحبتي الكرام: الوصية مما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180] فكتب الله تعالى على العبد إذا حضره الموت، وترك خيراً أن يوصي.

ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة، وذهب آخرون إلى أنها محكمة، وفي الحديث الذي رواه الجماعة، البخاري، ومسلم وأصحاب السنن، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{لا يحق لامرئ له شيء يريد أن يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي لكل إنسان له شيء يريد أن يوصي به، له حقوق على الناس، أو للناس عليه حقوق، أو له أشياء يريد أن يكتبها ألا يبيت ليلتين، وفي رواية ليلة، وفي رواية ثلاث ليال، فكأن أقصى مهلة أعطيت لك أن تكتب وصيتك ثلاث ليال، ولا تمر عليك ثلاث ليال إلا وتكتب وصيتك، وتجعلها محفوظة عندك.

هذا إذا كان لك شيء تريد أن توصي به، أما إذا كنت تقول: لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا لي شيء، ولا علي شيء، حينئذٍ ليس عليك أن تكتب الوصية أو لا تكتب، لكن إن كان لك حقوق، وعليك حقوق فإنه ينبغي لك أن تكتب الوصية، وقيل يجب عليك ذلك، والجمهور على أنه يستحب أن تكتب هذه الوصية.

وقد جاء في الحديث الذي حسنه ابن حجر وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له رجل مات ميتة فجأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! كأنها أَخْذة أسف، أو كأنها أَخْذة آسف} ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالوصية.

إذاً الإنسان لا يدري، قد يصبحه الموت أو يمسيه، وما الأمر إلا نَفَسٌ يدخل فلا يخرج، أو يخرج فلا يدخل، فإذاً الحزم كل الحزم، والعقل كل العقل أن تكتب وصيتك، ولا تمهل أو تؤجل، فكم من إنسان كان يريد أن يوصي، لكن عاجلته المنية؛ فأصبح ما له لغيره:

وأصبح مالي من طريف وتالد       لغيري وكان المال بالأمس ماليا

إخوتي الكرام: أما وصية نوح عليه السلام، فقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها، كما عند الطبراني بسند رجاله ثقات كما يقول الهيثمي: { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن نوحاً حين حضره الموت، قال لولده: " إني آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات، والأرض لو كانتا حلقة لفصمتهن، أو لقصمتهن لا إله إلا الله، وآمرك بسبحان الله وبحمده، فإنها زكاة الخلق، وبها يرزقون، وهي تسبيح كل شيء} ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44] فأمر نوح ابنه عليه السلام بأن يكثر من قول (لا إله إلا الله) وأن يكثر من قول (سبحان الله وبحمده) فإنها زكاة الخلق، وتسبيحهم، وبها يرزقون.

"وأنهاك عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر أما الشرك: فشأنه معروف: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].

وأما الكبر: فهو قرين الشرك، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، وغيره: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قالوا: يا رسول الله، أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} أي: جحد الحق ورده وبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم؛ فنهى نوح ابنه عن الشرك والكبر.

أما الوصية الثانية: فهي وصية إبراهيم ويعقوب عليهما الصلاة والسلام. وهي مثبتة في كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].

ظهور الحقائق عند الموت

وهنا يتعجب بعض الناس ويقول: هل الموت ونحن مسلمون بأيدينا؟!

فنقول: نعم، ولم يكن الله عز وجل يكلفنا ذلك، إلا ونحن نطيقه ونستطيعه، فإن العبد يموت على ما عاش عليه، فإذا علم الله من عبده الصدق والإخلاص، والإيمان والاستقامة؛ فإن الله تعالى يقبض روحه على ذلك.

وإذ علم الله تعالى من عبده النفاق، وأنه يظهر ما لا يبطن، يعلن ما لا يسر، فإن الله تعالى يفضحه عند النـزع، ويبين حقيقته للناس. فإن العبد عند احتضاره تبين حقيقته، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس-، وهو من أهل النار. وإن العبد ليعمل من عمل أهل النار -فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة}.

إذاً هذا إنسان يتظاهر بالإيمان والإسلام، ويقول ما لا يعتقد؛ فيفضحه الله تعالى على فراش الموت، وذاك عبد صادق، علم الله من قلبه الصدق، والإقبال، والإخبات، والانقطاع إليه فثبته الله تعالى، قال الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] ولذلك جاء في حديث البراء الطويل، الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، بسند حسن، وأصله في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد المؤمن إذا احتضر بشر برحمة من الله تعالى، وحضرت الملائكة، فقالوا: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى رحمة من الله تعالى ورضوان، ورب غير غضبان، فتخرج روحه، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا احتضر، قيل: أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله تعالى وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فلا تخرج إلا بعناء}.

إذاً: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] إن كان العبد صادقاً قبض الله روحه على الإيمان والتقوى، وإن كان منافقاً، أو مخلطاً فربما يفتضح -والعياذ بالله تعالى- عند الموت.

وهذا من أسرار حسن الخاتمة أو سوئها، وقد تكلم الإمام ابن القيم في هذا الموضوع، وأطال الكلام فيه في مواضع عديدة من كتبه. فقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] معناها: اسلموا لله تعالى إسلاماً حقيقياً حال اختياركم وحياتكم؛ يقبض الله تعالى أرواحكم على الأيمان أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].

إذاً: يعقوب عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه؛ فاجتمعوا عنده، وكانوا أحد عشر أو اثنا عشر، فكان يسألهم ما تعبدون من بعدي؟

يريد أن يطمئن على تربيته، وعلى غرسه، وعلى ولده قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] فاطمأن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وارتاح لذلك قلبه، وهدأت له نفسه، وعلم أن أولاده سوف يرثون بضاعته من بعده، ويحملون راية التوحيد التي كان يحملها، وحملها من قبله آباؤه إبراهيم، وإسماعيل وإسحاق.

وهنا يتعجب بعض الناس ويقول: هل الموت ونحن مسلمون بأيدينا؟!

فنقول: نعم، ولم يكن الله عز وجل يكلفنا ذلك، إلا ونحن نطيقه ونستطيعه، فإن العبد يموت على ما عاش عليه، فإذا علم الله من عبده الصدق والإخلاص، والإيمان والاستقامة؛ فإن الله تعالى يقبض روحه على ذلك.

وإذ علم الله تعالى من عبده النفاق، وأنه يظهر ما لا يبطن، يعلن ما لا يسر، فإن الله تعالى يفضحه عند النـزع، ويبين حقيقته للناس. فإن العبد عند احتضاره تبين حقيقته، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس-، وهو من أهل النار. وإن العبد ليعمل من عمل أهل النار -فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة}.

إذاً هذا إنسان يتظاهر بالإيمان والإسلام، ويقول ما لا يعتقد؛ فيفضحه الله تعالى على فراش الموت، وذاك عبد صادق، علم الله من قلبه الصدق، والإقبال، والإخبات، والانقطاع إليه فثبته الله تعالى، قال الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] ولذلك جاء في حديث البراء الطويل، الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، بسند حسن، وأصله في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد المؤمن إذا احتضر بشر برحمة من الله تعالى، وحضرت الملائكة، فقالوا: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى رحمة من الله تعالى ورضوان، ورب غير غضبان، فتخرج روحه، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا احتضر، قيل: أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله تعالى وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فلا تخرج إلا بعناء}.

إذاً: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] إن كان العبد صادقاً قبض الله روحه على الإيمان والتقوى، وإن كان منافقاً، أو مخلطاً فربما يفتضح -والعياذ بالله تعالى- عند الموت.

وهذا من أسرار حسن الخاتمة أو سوئها، وقد تكلم الإمام ابن القيم في هذا الموضوع، وأطال الكلام فيه في مواضع عديدة من كتبه. فقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] معناها: اسلموا لله تعالى إسلاماً حقيقياً حال اختياركم وحياتكم؛ يقبض الله تعالى أرواحكم على الأيمان أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].

إذاً: يعقوب عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه؛ فاجتمعوا عنده، وكانوا أحد عشر أو اثنا عشر، فكان يسألهم ما تعبدون من بعدي؟

يريد أن يطمئن على تربيته، وعلى غرسه، وعلى ولده قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] فاطمأن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وارتاح لذلك قلبه، وهدأت له نفسه، وعلم أن أولاده سوف يرثون بضاعته من بعده، ويحملون راية التوحيد التي كان يحملها، وحملها من قبله آباؤه إبراهيم، وإسماعيل وإسحاق.

ثم انتهت النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إمام الرسل، وخاتمهم عليه الصلاة والسلام وحامل لواء الحمد، والشافع المشفع، وأفضل ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض صلى الله عليه وسلم له من الخصائص والفضائل، والمزايا ما يضيق عنه الحصر، حتى صنف فيه العلماء كتباً خاصة، انتهت النوبة إليه صلى الله عليه وسلم فلننظر ماذا كان يقول عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت، والكلام في وصاياه عليه الصلاة والسلام عند موته يطول، ولذلك أحببت أن اذكر لكم بعض الوصايا المختصرة، وأعرض عن الوصايا الأخرى؛ لأن لها مناسبات غير هذه:

إخراج المشركين من جزيرة العرب

فمن وصاياه عليه الصلاة والسلام ما ذكره ابن عباس، كما في صحيح مسلم وغيره، أنَّ ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى رضي الله عنه، فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعضهم يقول: هاتوا يكتب لكم، وبعضهم يقول: ما شأنه؟

أهجر، استفهموه -كأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، فقال قولاً يحتاج إلى بيان، وربما يكون فيه قول من غلبة المرض عليه- قال: فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فقاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، قال: وأوصاهم بثلاث، الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، الثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال سعيد بن جبير: ونسيت الثالثة.

قوله عليه الصلاة والسلام: { أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} فقد كان في جزيرة العرب يهود، يهود في تيماء، وخيبر، وفي عدد من البقاع، وكان فيها نصارى في نجران وفي غيرها. فأمر صلى الله عليه وسلم بألا يبقى في جزيرة العرب إلا مسلم، وكان صلى الله عليه وسلم، يقول: {لأخرجن المشركين من جزيرة العرب، اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلمٌ} ويقول عليه الصلاة والسلام:{لا يجتمع في جزيرة العرب دينان}.

هذه الجزيرة أيها الأحبة لها هذه الميزة التي ليست لأي بقعة في الدنيا. هي جزيرة الإسلام، أرض الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، عاصمة الإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام -فيما رواه مسلم وغيره: {إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها} يعني: يجتمع وينضم ويرجع بين المسجدين، مسجد مكة ومسجد المدينة.

إذاً: فهذه البلاد -حتى في أيام غربة الإسلام، وضعف شأنه-: هي بلاد الإسلام، وحصنه الحصين، وأهلها هم الذين يدفع الله تعالى بهم عن هذا الدين الغوائل، والعوادي على مر العصور، وكر الدهور؛ ولذلك أعظم، وأكبر وأخطر فتنة تمر بالمسلمين، بل تمر بالبشرية كلها من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة: هي فتنة المسيح الدجال. من هو الذي يكسر هذه الفتنة، ويسقطها، ويكون بداية زوالها على يديه؟

إنه رجل من أهل هذه الجزيرة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم شأنه في حديث رواه البخاري وغيره: {أن المسيح الدجال يدخل كل البلاد إلا مكة والمدينة، فإذا كان قريباً من المدينة جلس في بعض السباخ فارتجت المدينة، أو رجفت ثلاث رجفات؛ فخرج إليه كل منافق ومنافقة.

والناس يفتنون به ويغترون بما معه من المظاهر، ومن الألاعيب، ومن الخدع، ومما سخره الله تبارك وتعالى له. فيخرج إليه شاب من المدينة هو خير أهل الأرض يومئذ، أومن خير أهل الأرض يومئذ.

فإذا وقف أمام المسيح الدجال قال: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المسيح الدجال للناس: أرأيتم إن قتلت هذا الشاب، وقطعته إلى قطعتين، ومشيت بين قطعتيه، أتشهدون أني أنا الله؟

فيقولون: نعم. فيقطعه، ثم يمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم فيستوي حياً بإذن الله عز وجل، فيقول لهذا الشاب: أتشهد أني أنا الله؟

فيقول هذا الشاب: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة -ما ازددت فيك إلا علماً، ومعرفةً، ووعياً- لأن الرسول عليه السلام أخبرنا بذلك، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، ويجعل الله عز وجل على رقبته شيئاً من نحاس أو حديد، فلا يستطيع الدجال أن يقتله} ومن حينئذٍ يبدأ -كما يقولون- العد التنازلي للدجال، فيغادر المدينة مخذولاً مهزوماً، ثم يذهب إلى الشام، وهناك يقتله المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.

إذاً: أخطر وأعظم فتنة: فتنة الدجال، بداية زوالها على يد شاب من هذه الجزيرة، فما دونها من الفتن التي تنـزل بالمسلمين، يتصدى لها شباب هذه الجزيرة بالدرجة الأولى، وغيرهم من شباب المسلمين في كل مكان، حتى يكتب الله تبارك وتعالى فضيحتها، وزوالها على أيديهم.

الوصية الثانية

عقيدة ختم النبوة

وفي هذه النصيحة أو الوصية النبوية أمور، أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن عقيدة من أخطر العقائد في الإسلام، ألا وهي عقيدة ختم النبوة، وأن هذه الدنيا لن يأتيها نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، صحيح أن عيسى ينـزل في آخر الزمان، لكنه ينـزل حاكماً بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس آتياً بدين جديد، ولا يتنـزل عليه وحي جديد، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم ختم النبوة، وأنه لا نبي بعده، وأن السماء لن تتفتح لنـزول وحي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا كان من الأسباب التي تبكي المسلمين وتحزنهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الصحيح: { أن أبا بكر قال لـعمر -بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بنا إلى أم أيمن نـزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها -وأم أيمن حاضنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فذهبوا إليها، فلما رأتهم خنقتها العبرة، وأسبلت دموعها وبكت، وارتعدت عندهم. فقالا لها: يا أم أيمن، ما يبكيك؟

أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالت: أما أني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنى أبكي انقطاع الوحي من السماء. لاحظ الفقه عند هذه المرأة، تقول: لا أبكي على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، فإن ما عند الله خير له وأبقى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء. قال: فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها}.

الرؤيا الصالحة

وصية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته أيضاً، رواها الإمام مسلم عن

ومن الأشياء التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية: الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن، أو ترى له، وأنها هي الشيء الوحيد الباقي من آثار النبوة، وذلك لأن أول ما بُدِئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

عدم قراءة القرآن في الركوع والسجود

الأمر الثالث الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر حكماً يتعلق بالصلاة، وهو ألا يقرأ الإنسان القرآن في ركوعه، ولا في سجوده، أما الركوع فيقول: (سبحان ربي العظيم) وأما السجود فيقول: (سبحان ربى الأعلى) ويدعو بما شاء.

والمقصود ألا يقرأ القرآن على سبيل القراءة، أما لو قرأه على سبيل الدعاء فلا حرج، فلو قال المصلي في ركوعه أو سجوده رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] أو قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41] أو ما أشبه ذلك من الأدعية القرآنية، لا على سبيل القرآن، لكن على سبيل الدعاء، فإن هذا لا يدخل في ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم

الوصية الثالثة: ما رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: {الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم}. كانت هذه وصيته صلى الله عليه وسلم ويكثر من قولها، وتكرارها، وترديدها، {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} يحرضهم على الصلاة، ويحضهم عليها، ويبين لهم عظيم شأنها، فكانت من آخر ما فاض بها لسانه عليه الصلاة والسلام، حتى إن ابن حبان وغيره زاد -كما في صحيحه- أنه قال: {وكان يغرغر بها، وما يكاد يفيض بها لسانه} يعني: هذه آخر كلمة قالها صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بوصاياه، وقد ثقل لسانه، وأصبح نَفَسه لا يكاد يخرج، ولا يكاد يستطيع أن يتكلم بهذه الكلمة، ولسانه لا يكاد أن يقولها، فكان يقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} احرصوا على الصلاة، بكروا إلى الصلاة، التزموا بالصلاة، مروا بالصلاة، تعلموا الصلاة حثاً، وتحضيضاً على الصلاة، وما يتعلق بها.

وما ملكت أيمانكم، يعني: اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، من العبيد والأرقاء، أحسنوا ملكتهم، وأحسنوا إليهم، ولا تظلموهم، ولا تحملوهم مالا يطيقون. وهذا من عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم، وشفقته، وحرصه على حقوق العباد، وأن يقوم الإنسان بحقوق الناس، ولا يقصر في شيء منها؛ والحديث صحيح وله شواهد عديدة.

حسن الظن بالله

الوصية الرابعة من وصاياه صلى الله عليه وسلم: ما رواه مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بثلاث يقول: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله} فكان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يحسنوا الظن بربهم، وذلك لأن الله تعالى يقول: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني} وفي حديث: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء}.

فينبغي للعبد أن يحسن الظن بالله جل وعلا، وحسن الظن من حسن العمل، فإن العبد إذا أحسن العمل رزقه الله تعالى حسن الظن، وإذا أساء العمل ساء ظنه:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه     وصدق ما يعتاده من توهم

وعادى محبيه لقول عداته     وأصبح في ليلٍ من الشك مظلم

في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالوا: يا رسول الله: أكراهية الموت؟

فكلنا يكره الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا حُضِِر بُشِّرَ برحمة من الله عز وجل ففرح، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِِر بُشِّرَ بسخط من الله وعذاب؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه}.

إذاً: من أحسن العمل، أحسن الظن، ومن أساء العمل، أساء الظن، فلا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله.

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة     فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن      فبمن يلوذ ويستجير المجرم

ربي دعوتُ كما أمرت تضرعا     فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

صلة الأرحام

روى ابن حبان وغيره، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في مرض موته:{أرحامكم، أرحامكم} صلوا أرحامكم، صلوا أرحامكم، فأمر صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، وكان يوصي بذلك في مرض الموت، وذلك لما في صلة الرحم من أثر في تقوية الأواصر الاجتماعية، وتُوفيد القلوب، وإزالة العدوات والبغضاء، ونـزول الرحمة، قال الله عز وجل:فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:22-24].

وورد في حديث: {أن الرحمة لا تنـزل على قوم فيهم قاطع رحم} وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} قاطع الرحم لا يدخل الجنة، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان قد يصل أصدقاءه، ويحسن إليهم، ويستميت في خدمتهم، وتحقيق مطالبهم، والسهر على راحتهم، فإذا جاء الأمر فيما يتعلق بوالديه، وأرحامه، وأقاربه، فإنه لا يأبه بهم، ولا يتحمل من والديه كلمة خشنة، أو موقفاً صعباًً، وكثيرٌ من الشباب يستثقلون والديهم، ويضحكون من أعمالهم، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وقد يستهزئون بهم، وقد يقولون لهم كلمات خشنة بذيئة، لا تليق أن تقال لرجل بعيد، فكيف بالقريب؟!!

أخي الشاب! إنك مطالب -أصلاً- إذاً رأيت كبير السن، الذي شاب في الإسلام مفرقه، وشابت لحيته، وظهر عليه هذا الوقار، فأنت مطالب أصلاً أن تقدره، وتجله، وتخدمه، وتتلطف معه في القول، وتقدمه في المجالس، وفي كل شيء، فكيف إذا كان قريباً! فكيف إذا كان أبا أو كانت أماً؟

الأمر في ذلك أعظم وألزم، فلينتبه الشباب، وليعرف أن الصلة والبر من الأشياء التي تعجل ثمراتها في الدنيا، فإن الإنسان إن كان باراً بوالديه؛ عجلت له ثمرة ذلك في الدنيا، وأقلها أن يوفقه الله تعالى لمن يبره من أولاده، وأحفاده، وإن كان عاقاً، فإن الله تعالى يسلط عليه من أولاده وأولادهم من يعقه.

كان رجلٌ في الجاهلية له ولد، فأساء إليه، وظلمه، وضربه، فكان هذا الرجل يرفع رأسه، ويدعو عليه، ويقول:

جزت رحم بيني وبين منازلٍ     جزاءً كما يستنـزل الدّين طالبه

وربيته حتى إذا ما تركته      أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

تغمط حقي باطلاً ولوى يدي     لوى يده الله الذي هو غالبه

أئن رعشت كف أبيك وأصبحت     يداك يدا ليثٍ فإنك ضاربه!!

إذا: أصبحت يدا أبيك ترتعش من الكبر، والهرم، والضعف، والعجز، وأنت شاب قوي، فتيّ تستأسد عليه وتضربه! فكان يدعو عليه؛ فأصابه الله تعالى بالعقوبة العاجلة، والبلاء النازل.

وأخيراً: فإن من وصاياه صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ما رواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وابن المبارك، في كتاب الزهد، وغيرهم: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، ظهر منه بعض الجزع والحزن؛ فعرف ذلك بعض من حضروا. فسألوه عن ذلك فقالوا له: ما الذي يحزنك ويجزعك؟

هل هذا جزع على الدنيا؟

فقال: كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، وقال لي عند موته: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب فجمعنا} قال: فجمعنا، إذاً سلمان الخير سلمان الفارسي حزين عند موته؛ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو يودعنا -وهو يفارق الدنيا- أوصانا بوصية، قال لنا:{يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} المسافر، فالمسافر لا يحمل من الزاد إلا قليل. قال: فجمعنا. ثم مات سلمان الفارسي، مات سلمان رضي الله عنه فجمعوا تركته، فكم كانت هذه التركة؟! كانت فقط خمسة عشر ديناراً!! خمسة عشر ديناراً، يموت عنها سلمان، يظهر أثرها في الجزع والحزن على وجهه وهو يموت رضي الله عنه والشاهد: وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، وأنه قال لأصحابه:{يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب}.

فما بالكم بنا نحن الآن، ونحن نجمع القصور، والأموال الكثيرة، والسيارات الفخمة، والمراكب الفارهة، ونمد حبالاً طوالاً في هذه الدنيا، وكأننا نفعل فعل الخالدين.

سبحان الله! كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، يوماً من الأيام، صعد على منبر دمشق فقال: [[يا أهل دمشق؛ فاجتمعوا إليه -أبوالدرداء عويمر رضي الله عنه من خيار الصحابة وزهادهم وعلمائهم، كانوا يحبونه حباً شديداً؛ فلما سمعوه يصرخ ويصيح يا أهل دمشق: اجتمعوا إليه- لبيك يا أبا الدرداء. قال: ألا تسمعون وصية أخٍ لكم، مشفق، ناصح؟

قالوا: بلى، قل -رحمك الله- قال: إن من كان قبلكم، كانوا يجمعون كثيراً، ويؤملون كثيراً، ويبنون كثيراً، فأصبح جمعهم بدداً، وأصبح بنيانهم بوراً، وأصبحت قصورهم قبوراً، هؤلاء عاد الذين ملكوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، تركوا ما تركوا، فمن يشترى مني تركتهم بدرهمين؟ من يشترى منى تركتهم بدرهمين]] فكان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر أن يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا.

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:{كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} غريب أو عابر سبيل، أما الغريب: فمثل إنسان مقيم في بلد إقامة معينة، وهو غريب غير معروف، لا يعرفه أحد؛ فتجد هذا الغريب يتقلل من الدنيا، لكن أشد من الغريب عابر السبيل -إنسان مسافر- لكن لما مر بهذا البلد قال: أريد أن أغير حاجيات السيارة، وأشتري ماءً بارداً، وأرتاح قليلاً، ثم أواصل السفر، عابر سبيل وكان ابن عمر يقول: [[إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]].

فمن وصاياه عليه الصلاة والسلام ما ذكره ابن عباس، كما في صحيح مسلم وغيره، أنَّ ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى رضي الله عنه، فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعضهم يقول: هاتوا يكتب لكم، وبعضهم يقول: ما شأنه؟

أهجر، استفهموه -كأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، فقال قولاً يحتاج إلى بيان، وربما يكون فيه قول من غلبة المرض عليه- قال: فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فقاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، قال: وأوصاهم بثلاث، الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، الثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال سعيد بن جبير: ونسيت الثالثة.

قوله عليه الصلاة والسلام: { أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} فقد كان في جزيرة العرب يهود، يهود في تيماء، وخيبر، وفي عدد من البقاع، وكان فيها نصارى في نجران وفي غيرها. فأمر صلى الله عليه وسلم بألا يبقى في جزيرة العرب إلا مسلم، وكان صلى الله عليه وسلم، يقول: {لأخرجن المشركين من جزيرة العرب، اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلمٌ} ويقول عليه الصلاة والسلام:{لا يجتمع في جزيرة العرب دينان}.

هذه الجزيرة أيها الأحبة لها هذه الميزة التي ليست لأي بقعة في الدنيا. هي جزيرة الإسلام، أرض الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، عاصمة الإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام -فيما رواه مسلم وغيره: {إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها} يعني: يجتمع وينضم ويرجع بين المسجدين، مسجد مكة ومسجد المدينة.

إذاً: فهذه البلاد -حتى في أيام غربة الإسلام، وضعف شأنه-: هي بلاد الإسلام، وحصنه الحصين، وأهلها هم الذين يدفع الله تعالى بهم عن هذا الدين الغوائل، والعوادي على مر العصور، وكر الدهور؛ ولذلك أعظم، وأكبر وأخطر فتنة تمر بالمسلمين، بل تمر بالبشرية كلها من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة: هي فتنة المسيح الدجال. من هو الذي يكسر هذه الفتنة، ويسقطها، ويكون بداية زوالها على يديه؟

إنه رجل من أهل هذه الجزيرة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم شأنه في حديث رواه البخاري وغيره: {أن المسيح الدجال يدخل كل البلاد إلا مكة والمدينة، فإذا كان قريباً من المدينة جلس في بعض السباخ فارتجت المدينة، أو رجفت ثلاث رجفات؛ فخرج إليه كل منافق ومنافقة.

والناس يفتنون به ويغترون بما معه من المظاهر، ومن الألاعيب، ومن الخدع، ومما سخره الله تبارك وتعالى له. فيخرج إليه شاب من المدينة هو خير أهل الأرض يومئذ، أومن خير أهل الأرض يومئذ.

فإذا وقف أمام المسيح الدجال قال: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المسيح الدجال للناس: أرأيتم إن قتلت هذا الشاب، وقطعته إلى قطعتين، ومشيت بين قطعتيه، أتشهدون أني أنا الله؟

فيقولون: نعم. فيقطعه، ثم يمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم فيستوي حياً بإذن الله عز وجل، فيقول لهذا الشاب: أتشهد أني أنا الله؟

فيقول هذا الشاب: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة -ما ازددت فيك إلا علماً، ومعرفةً، ووعياً- لأن الرسول عليه السلام أخبرنا بذلك، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، ويجعل الله عز وجل على رقبته شيئاً من نحاس أو حديد، فلا يستطيع الدجال أن يقتله} ومن حينئذٍ يبدأ -كما يقولون- العد التنازلي للدجال، فيغادر المدينة مخذولاً مهزوماً، ثم يذهب إلى الشام، وهناك يقتله المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.

إذاً: أخطر وأعظم فتنة: فتنة الدجال، بداية زوالها على يد شاب من هذه الجزيرة، فما دونها من الفتن التي تنـزل بالمسلمين، يتصدى لها شباب هذه الجزيرة بالدرجة الأولى، وغيرهم من شباب المسلمين في كل مكان، حتى يكتب الله تبارك وتعالى فضيحتها، وزوالها على أيديهم.