قصة كتاب الديارات
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
للشابشتي
للأستاذ كوركيس عواد
إن كان لكل شيء قصة، فلكتاب الديارات للشابشتي قصة، أرويها فيما يلي، وذلك على أثر المقال الذي نشره عنه الأستاذ صلاح الدين المنجد، في العدد 368 من الرسالة الغراء: لقد رغبت في نشر (كتاب الديارات) للشابشتي، منذ سبع سنوات، حينما أخرجت للناس في سنة 1934 كتابي المسمى (أثر قديم في العراق: دير الربان هرمزد) القائم بجوار الموصل. فقد كان صاحب المعالي (يوسف غنيمة)، نبهني حينذاك إلى أهمية كتاب الشابشتي، بالمقدمة التي وضعها لكتابي المذكور.
فازدادت رغبتي فيه يوماً بعد يوم، وقد مضت سنة ونصف سنة منذ اختمرت عندي فكرة نشره.
فأقدمت على العمل بعد أن أعددت له عدته، ليكون ما أقوم به على الوجه العلمي الذي يستحقه هذا الكتاب الجليل، ويرتضيه أرباب البحث من الأدباء والمؤرخين وكتاب الديارات للشابشتي لم يبقَ منه اليوم سوى نسخة وحيدة في خزانة برلين برقم (8321).
وأن تحرينا وجه التدقيق قلنا أن هذه النسخة البرلينية ما هي إلا قسم من الكتاب الأصلي، فهي مخرومة من أولها بمقدار لا يمكن معه معرفة عدد أوراقه الذاهبة، كما أنها ناقصة من وسطها بعض النقصان.
على أن كافة النسخ المعروفة اليوم لكتاب الديارات، سواء المصورة منها والمخطوطة، مصدرها هذه النسخة الفريدة التي كتبت سنة 631 هـ.
فهي، ولا مراء، أمهن جميعاً، ولولاها لكانت خسارة الأدب فادحة أما حصولي على نسخة هذا الكتاب، فكان على يد العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، فإنه في إحدى كينُوناته في مصر وذلك في سنة 1938، حصل على النسخة المصورة التي كانت بيد المستشرق الدكتور أ.
فيشر وكان قد صورها قبل حرب سنة 1914 ليتولى طبعها هو بنفسه، لكن لما تعددت أشغاله وأحب أن يقدِّم على طبع كتاب الديارات معجمه الملحق بمعاجم لغويي العرب، دفع النسخة المصورة إلى الأب المذكور، لعلمه أنه قد عزم على طبعه.
وبعد ذلك نقل الأب نفسه وبقلمه نسخة ثانية معتمدة، فصارت النسخة بهذا نسختين.
ثم لما توافرت شغالة ناط بي نشر الكتاب بعد أن علم مبلغ رغبتي في ذلك، فدفع إلي نسختيه المذكورتين، قبل سنة ونصف سنة، فاعتمدت عليها في كتابة نسخة ثالثة بيدي، كانت عنايتي بنقلها وضبطها تفوق حدود الوصف، ثم أعدت مع الشكر النسختين المصوَّرة والخطية إلى صاحبهما.
وأكببت بعد ذلك على دراسة نسختي، واجتهدت بروية دقيقة في ضبط ألفاظها وتحقيق ما فيها من أعلام الأشخاص والمواقع والشؤون العمرانية والأخبار التاريخية والروايات الأدبية والأشعار وما إلى ذلك.
وأفرغتُ كنانة وسعي في الرجوع إلى عشرات من الكتب العربية وكنت قد خصصت بضع ساعات من كل يوم، مدة سنة وبعض أخرى، لخدمة هذا الكتاب، وتصحيحه، والتعليق عليه بما لا مزيد عليه من العناية به وقد وجدت من الخير لهذا الكتاب أن أعود إلى المؤلفات الأرمَنية أيضاً، وقد مكنتني معرفتي لهذه اللغة من الوقوف على عدد منها أربى على الثلاثين، وكلها ذات مساس بموضوع الديارات؛ والحق أنني خرجت منها بفوائد جليلة.
ورأيت من الضروري الرجوع إلى طائفة صالحة من المؤلفات الإفرنجية فضلاً عن المؤلفات العربية الحديثة وكان الأب أنستاس، قد سّلم نسخته المكتوبة، بعد انتساخي عليها نسخة، إلى صديقنا المحقِّق الدكتور مصطفى جواد، ليطَّلع على هذا الكتاب، ويقّيد في أثناء مطالعته له ما يعنّ له من الملاحظات والتصويبات على هوامش النسخة.
فطالعها الدكتور مطالعة مدققة، وذلك شأنه في كل ما يطالع، فصحح في أغلاطها، وكشف وجه الصواب عن تحريفاتها، وقوَّم ما أناد منها على أيدي النسَّاخ، كما حقق أموراً جمَّة من أعلامها، وحل كثيراً من مغلقاتها.
وقد سمح لي كل منهما بنقل هذه الملاحظات الثمينة، لأنهما يرقبان الكتاب ويأملان أن يخرج في أتم ما يمكن من الإتقان.
وقد نقلت تلك الملاحظات شاكراً فضلهما، وأدخلت كل واحدة منها مقرونة باسم صاحبها الدكتور مصطفى، في محلها من حواشي الكتاب فأنت راء أن كتاب الديارات للشابشتي، قد انتقل بعد كل هذه الجهود من عالم إلى عالم، وأضحت أخباره ومروياته مدعومة بما يؤيدها من الأسانيد الواردة في المراجع القديمة الأخرى، وقد أضفتُ إلى الكتاب ملحقات جمّة، في أحدها معلومات طريفة بتلك الديارات الساقطة تراجمها من مخطوطة برلين، وذلك بعد أن ثبت لي لزوم اشتمال الأصل عليها.
كما وضعتُ ملحقاً ثانياً مطولاً، يكون (مستدركاً) على الشابشتي، وفيه أخبار الديارات التي لم يتطرق إلى ذكرها، وبينها ما هو من الخطورة الأثرية والتاريخية والأدبية بمكان رفيع. ويلي ذلك ملحقات أخرى عمرانية وتاريخية وبلدانية أضرب عن ذكرها الآن صفحاً قصداً إلى الاختصار.
وأخيراً جعلت (الفهارس) المتنوعة، وكلها في غاية الضبط، بحيث تكشف عن مكونات الكتاب المختلفة، وتيسِّر للقارئ مراجعة مضموناته.
وكان قصدي من كل ذلك، أن يكون كتاب الشابشتي، مع المستدرك الذي وضعتُهُ عليه وسائر الملحقات والتعاليق، أتمّ وأوفى كتاب للديارات وقد أنهيتُ عملي قبل أشهر، ونويتُ إذ ذاك عرض الكتاب على الطبع؛ غير أنه قد صدمني غلاء الورق وكثرة النفقات، وهما أمران ناشئان عن قسوة الأحوال الحاضرة، فاضطررت إلى تأجيل نشره إلى فرصة ثانية هذا ولعل من القراء من يتذكرون أنه مرت في هذه المجلة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر (أنظر الرسالة (العدد360) حاشية 3 من الصفحة 895 ب) إشارة صريحة تذكر أنني عازم على إخراج هذا الكنز من مدفنه.
ثم إن عندنا في العراق عدداً كبيراً من المؤرخين والأدباء وأولى البحث يعلمون الشيء الكثير من أمر اشتغالي بتحقيقه والعناية به وفي هذا اليوم وصل إليّ العدد 368 من الرسالة الغراء، وإذا فيه مقالة وجيزة للأستاذ صلاح الدين المنجد، وعنوانها (كتاب الديارات) للشابشتي.
فاستبشرتُ بها واندفعت إلى مطالعتها حرصاً مني على الوقوف على كل ما من شأنه أن يكشف لي شيئاً جديداً من أمر هذا الكتاب أو مؤلفه.
غير أنني وإن لم أخرج منها بما كنت أنتظر ولا بأقل من ذلك، قد سرني منها أن كاتبها ينوي نشر هذا الكتاب بعد أن ظلَّ مدفونا في زوايا الخزائن، كما سرني أنه سينشر منه نبذة في العدد القادم من الرسالة الغراء وأن من طريف الاتفاقات أن يُقدم باحثان عل نشر كتاب واحد، دون أن يعلم أحدهما بما يعمله الآخر، وهذا سيكون من مصلحة الثقافة، وهل ذلك إلا دليل واضح عل خطورة ذلك الصنف الجليل وأهميته البالغة، التي أغرت أثنين بخدمته وإعداده للنشر؟ فإن كان الأمر على ما ذكر، فما عسى أن يمنعني عن نشر الكتاب بالوجه الذي رسمتُهُ لنفسي، سواء أعَمِلَ غيري على نشره أم لا.
هذا وأني موقن أن ما بذلته من العناية وطول البحث في سبيل هذا المؤلف يتطلب مني ألا أهمل نشره، بل لا أتردد في ذلك مهما كان من الأمر، ما دامت غايتي من ذلك كله خدمة العلم لذاته.
ثم إن ملاحظات عنَّت لي في أثناء مطالعتي لمقال الأستاذ المنجد، أرجو أن يتغاضى عن بياني لها هنا، جلاء للحقيقة وحباً للفائدة أولاً: ذكر أن نسخة المجمع العلمي العربي بدمشق مصورة على نسخة أحمد تيمور باشا، المصورة على نسخة خطية فريدة في خزانة برلين برقم 1100، والصواب أنها برقم 8321 كما يلاحظ في قائمة مخطوطات برلين العربية ثانياً: وقال أيضاً: (وأول من نقل عن هذا الكتاب (يقصد كتاب الديارات)، ونوه به هو السيد حبيب الزيات، فقد أخرج للناس في تموز من عام 1935 (كذا، والصواب عام 1938) عدداً خاصاً من مجلة الشرق الكاثوليكية في بيروت عن الديارات النصرانية في الإسلام، فنقل عنه نقولاً كثيرة.) قلنا: الذي نعلمه يخالف ذلك كثيراً؛ فقد تتبعنا من نَقَلَ عن هذا الكتاب من المعاصرين، وتعقبنا نقولهم، فوجدنا أن أقدمهم في النقل المستشرق السويسري متز المتوفى سنة 1917؛ فقد اقتبس فقرات عديدة منه في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)، ولقد أحصينا في الجزء الأول فقط الذي نقله إلى العربية الأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريدة تسعة عشر موضعا اقتبس فيها من كتاب الديارات وتلاه المستشرق الألماني سخاو فنشر سنة 1919 بالألمانية رسالة ثمينة تقع في 43 صفحة من القطع الكبير، عنوانها (كتاب الديارات للشابشتي).
فيها هذا الكتاب، كما أتى على خلاصة بحوثه، ثم ترجم منه نبذاً مختلفة، بينها تلك الحفلة العباسية الرائعة التي جرت في قصر بركوارا في سامراء في عهد المتوكل الخليفة العباسي وتلاهما الأستاذ المحقق حبيب زيات فنقل من كتاب الديارات هذا، سنة 1927، فقرتين في بحثه المعنون (السفن والمراكب في بغداد في عهد العباسيين) المنشور في مجلة لغة العرب (5 (1927) ص461 - 465).
ثم نقل عنه ثانية سنة 1928 نقولاً كثيرة في بحثه النفيس (نقد كتاب الديارات الوارد في الجزء الأول من مسالك الأبصار) المنشور في لغة العرب أيضاً (6 (1928) ص322 - 342).
وفعل ثالثة سنة 1935، فنقل منه كتابه (الصليب في الإسلام) مرتين، وكان آخر نقوله عن الشابشتي ما أورده في كتابه القيم (الديارات النصرانية في الإسلام) وهي التي أشار إليها الأديب المنجد بكونها أقدم النقول التي وقف عليها! ولنا أن نضيف إلى ما ذكرنا، تلك الفقرات الكثيرة التي نقلها الأستاذ محمد كامل حسين في كتابه (في الأدب المصري الإسلامي) إن كان الشيء بالشيء يذكر، فنقول إن هناك جهوداً مختلفةُ بذلتْ في سبيل إخراج هذا الكتاب إلى حيز النشر.
أقدمها يعود إلى همة المستشرق هير حسبما أشار إلى ذلك البحاثة لسترنج في حاشية الصفحة 211 في كتابه وكان قد سبق له في سنة 1899 أن وصف هذا الكنز الثمين في بحث له في الخطورة التاريخية والبلدانية لمعجم ياقوت الحموي.
وعلى ما يظهر لنا لم يوفق المذكور لنشره حينذاك، لأسباب لا أعلمها ثم تلتها جهود المستشرق سخاو في نشر رسالته المنوه بها آنفاً.
فقد عرف بها كتاب الديارات للعلماء ومتتبعي الآثار القديمة العربية، ووقفهم على خلاصة مضموناته، غير أنه لم ينشر الأصل بكماله وكان المستشرق فيشر قد عزم - على ما أخبرني به الأب أنستاس - على نشر هذا الكتاب أيضاً وسبقتْ منا الإشارة إلى ذلك؛ غير أنه عدل عن ذلك للأسباب التي ذكرناها في صدر كلامنا هذا ولدينا في هذا الشأن تفاصيل أخرى كثيرة نرجئ نشرها إلى المقدمة المسهب فيها التي صدّرنا بها هذا المؤلَّف النفيس ثالثاً: قال الأستاذ المنجد ما نصه: (ووضعتُ للأديار مخططاً يبين مكان كل منها.
) قلنا: إن في هذا القول شيئاً كثيراً من التجوّز، إن لم نقل من الإدعاء! فإن كتاب الديارات للشابشتي يتناول - بحسب النسخة الوحيدة البرلينية - أخبار خمسة وخمسين ديراً.
منها: ثمانية وثلاثون في العراق، وثلاثة في سوريا ومثلها في فلسطين، وثلاثة أخرى في تركية، والباقي وهو ثمانية في مصر.
ومعلوم أن أغلب هذه الديارات عراقية فأنا مع تتبعي لموضوع الديارات، منذ أكثر من عشر سنين، وكوني امرأً عراقياً لا يدع الفرصة تفوته دون الوقوف على ما يتعلق بشؤون بلاده من الوجهات الأثرية والتاريخية والبلدانية.
أزيد على ذلك أني أحد موظفي دار الآثار القديمة في العراق، وهذه الدار أولى من غيرها بتعقب أمثال هذه المواقع الأثرية، بل هي صاحبة الدراية بها.
نعم، مع كل ذلك، لم أستطع بعد الجهد تعيين (المواقع الحقيقية) إلا لعشر ديارات عراقية من تلك الثماني والثلاثين التي تكلم عليها الشابشتي! أما ما تبقى منها، فلا أثر لها البتة اليوم، كما لا يمكن الاهتداء إلى مواقعها وتعيينها بصورة علمية خططية مضبوطة يصح الركون إليها.
وبعد هذا لا ندري كيف أمكن للأستاذ المنجد أن يضع (مخططا يبين مكان كل منها)؟ رابعاً: لم يشر البتة إلى الاختلاف الواقع في تعيين سنة وفاة الشابشتي.
فبينما نرى أن ابن خلكان (وفيات الأعيان 1: 481 بولاق) يقول أن وفاته كانت سنة 388هـ إذ نجد ياقوتاً الحموي (معجم الأدباء 6: 407 طبعة مرجليوث) يقول أنه مات سنة 399 هـ.
والفرق، كما لا يخفى، ظاهر بين هذين التاريخين ولا يصح السكوت عنه هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقني في القريب العاجل إلى إخراج هذا المصنف الجليل، الذي هو جدير بكل عناية وأهل لكل خدمة علمية، ومن الله الفلاح. (بغداد) كوركيس عواد