أرشيف المقالات

دراسة الوقف في الإسلام وأهميته

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
دراسة الوقف في الإسلام وأهميته

الحمد لله الكريم الحنان، ذي المنّ والفضل والإحسان، الآمر بالجود والصدقة والصيام، والتكافل والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الجواد المنان، البر السلام، والصلاة والسلام على خير من وقفَ وقام، عليه أفضل الصلاةِ وأتم السلام، أرسله الله تعالى نوراً وأماناً، برداً وسلاماً، وأنزل عليه الكتاب تبياناً، هدى وفرقاناً، ففتح به أعيناً عميانا، وآذاناً صمانا، وقلوباً غلفانا.
 
أما بعد:
فقد ظهرت الحاجة الماسة للتكافل المالي والتعاون الاجتماعي بين المسلمين في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، بسبب كثرة متطلبات وحاجيات الدولة الإسلامية الفتية، مقارنةً بالفقر وضيق العيش وموارد الرزق التي كان يعيشها المسلمون، خاصة في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من الطبيعيِّ العملُ على إيجاد منبع مالي يَسُدّ تلكم الحاجات، ويكفي هذه المتطلبات، التي تحتاجها الدولة عامة، وفقراء المسلمين خاصة، حتى ينصرفوا بهمّتهم إلى عبادة الإله، والجهاد في سبيل الله، وتحقيق استخلاف المسلمين على أرض الله.
 
ولأجل تحقيق ذلك تتابعت نزول الآيات الدالات على العمل والجِد، والتعاون بين المسلمين والتكافل بينهم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها، فليمنحها أخاه ولا يؤاجرها إياه".
 
ومن أعظم الآيات الحاثة على الإنفاق، والـمُبيّنة لعظم فضلِه قولُه تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة 261].
 
كما عَتب الله تعالى على كلّ منْ تخلف عن الإنفاق مع قدرته عليه فقال: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد].
 
ولقدْ أدرك المسلمون الأوّلون هذه المعاني العظيمة، لمثل هذه التوجيهات الربانية الحكيمة، فراحوا يُسارعون في الخيرات، ويستبقون في النفقات، ويتخيرون أفضلَ التكافلات، وأنفع الصدقات، فتعاونوا في بناء المساجد، وسائر المرافق، وسألوا عن أفضل التكافل.
 
فهذا عمر رضي الله عنه لما أصاب أرضاً بخيبر، أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها".
 
وهذا أبو طلحة كان أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكان أحبّ ماله إليه بيرحاء فلما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: "بخ، ذلك مال رابح أو رايح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه"، وفي لفظ له قال: "إني جعلت حائطي لله، ولو استطعت أن أخفيه فما أظهر به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعله في فقراء أهلك".
 
وهكذا استمر المسلمون على العمل بهذه الخصلة السّنية، الرفيعة العلية، جيلا بعد جيل، طيلة دهور عديدة وأزمنة مديدة، وتلك أوقاف الأولين باقية للآخِرين، يستفيد منها العالم الإسلامي ويستظل بظِلها في جميع مناحي الحياة الفردية والأسرية والدينية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
 
والأمثلةُ العملية على ذلك كثيرة جدا في التاريخ الإسلامي، يستحيل تقصيها في كتاب، لكن ما لا يُدرَك كله لا يُترك جله، ولذلك سأسعى جاهدا في هذا البحث إلى جمع أهم تلكم النماذج الوقفية عبر مراحل تاريخ الحضارة الإسلامية متتبعا التسلسل التاريخي والمنطقي، والله الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد.
 
ونظرًا لأهمية الوقف في الإسلام، وكونه وسيلة ربطٍ بين التاريخ الإسلامي وحاضره، وما فيه من أرفع أنواع التعاون والتكافل بين المسلمين، والترابط فيما بينهم، مع كونه المصدر الرئيسي في تمويل العديد من المرافق الاقتصادية والاجتماعية وقطاع الخدمات وغيرها.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير