نداءات الرحمن لأهل الإيمان 71


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. جعلنا الله تعالى منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. آمين.

سبب نداء الله عز وجل لعباده المؤمنين دون غيرهم

ها نحن مع النداء الثامن والستين من تسعين نداءاً حواها كتاب الله القرآن العظم، وهي نداءات الله جل جلاله لعباده المؤمنين، فقد ناداهم بعنوان الإيمان بـ يا أيها الذين آمنوا! لأن المؤمنين أحياء، ويجيبون الداعي.

وهو يناديهم لأحد خمسة أمور: إما ليأمرهم بفعل ما يكملهم ويسعدهم، أو لينهاهم عن فعل ما يشقيهم ويرديهم، أو يناديهم ليبشرهم بما يزيد في حبهم لله وولائهم له، أو يناديهم لينذرهم عواقب أعمالهم السيئة؛ فإنها تخسرهم في الدنيا وفي الآخرة، أو يناديهم ليعلمهم ما هم في حاجة إلى معرفته وعلمه. فله الحمد عز وجل، وله الشكر.

والله ليس في حاجة إلينا، بل هو غني عنىً مطلقاً، فقد كان ولم يكن شيء معه، وإنما رحمة منه بنا وإحساناً إلينا ولطفاً ينادينا؛ لأننا آمنا به وبلقائه وبكتابه ورسوله، فتمت حياتنا بذلك، فأصبحنا أهلاً لأن نسمع نداء مولانا، ونمتثل ما يأمرنا به، وننتهي عما ينهانا عنه. وهذا هو سر هذه النداءات.

وهذه النداءات تسعون نداء، والنداء التاسع والثمانين منها مبدوء بحضرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى فيه: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1]. وهذا النداء وإن ابتدئ برسولنا فنحن المقصودون بذلك؛ إذ هو تعليم من الله تعالى لنا كيف نطلق نساءنا إن وجب الطلاق، وكيف تعتد المؤمنة، وماذا لها وماذا عليها.

واعلموا أن هذه النداءات اشتملت على كل متطلبات الحياة، فلم تترك الحرب ولا السلم، ولا المعاهدات ولا الأموال على اختلافها، ولا الاقتصاد ولا العقيدة، ولا الأعمال الصالحة ولا الآداب والأخلاق، ولم تترك شيئاً يفتقر إليه المؤمن في حياته ليكمل ويسعد إلا وبينته في هذه التسعين النداء، التي تضمنها كتاب الله القرآن العظيم.

ولا يليق بك يا عبد الله! أو يا أمة الله! أن يناديك سيدك من أجل إكمالك وإسعادك ثم لا تصغي بأذنك ولا تسمع.

يقول تعالى في هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد:33-34].

مبطلات الأعمال الصالحة

قال: [ وإبطال الأعمال الصالحة يكون بأمور، أظهرها ] وأبينها [ وأقواها: الشرك ] بالله عز وجل [ والردة عن الإسلام ] والشرك مبطل للعمل إبطالاً كاملاً، واقرءوا يا أهل القرآن! قول الله عز وجل وهو يخاطب مصطفاه نبيه ورسوله وخاتم أنبيائه في سورة الزمر: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. وهذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة. فالرسول لا يشرك وحاشاه، ولكن نحن الذين يستطيع الشيطان أن يغوينا ويفسدنا، ولكن إذا كان الخطاب وجه إلى قائدنا وإلى رائدنا وإلى سيدنا فلننتبه نحن، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه إليه هذا فنحن من باب أولى. قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. فلهذا إذا أشرك عبد الله غير الله في أي عبادة من العبادات بطلت، وبطل مفعولها، وأصبحت لا تنتج الحسنات المزكية للنفس والمطهرة لها، كما قال تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]. فأقوى المبطلات الشرك والرياء. وقد بينا بالأمس الرياء وعرفناه، وأنت تعرفه بفطرتك، فإذا قمت بعمل صالح تعبدك الله به ليزكي نفسك ويطهرها فإياك أن تلتفت فيه إلى غير الله، فإن التفت فيه بقلبك إلى غير الله بطل، واسمعوا مالك يروي في موطئه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( يقول الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ). فهو ليس في حاجة إليه، بل نحن فقراء إلى هذا، ولا بأس أن تعطيني نصف الدار أو ربع البستان فأنا أقبل، أو تعطيني سيارة وتشرك معي فيها فلاناً وفلاناً؛ لأننا في حاجة إلى ذلك، وأما الله فليس في حاجة أبداً، فهو لا يقبل الشرك، بل أعطه العمل كله أو خذه كله، فقد قال: ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ). فلا يأخذه، وإذا لم يقبله فإنه لا يثيب عليه ولا يعطي الحسنات.

قال: [ ثم الرياء، وهي: أن يعمل المرء عملاً صالحاً ] والعمل الصالح ليس صنع آنية الطعام، ولا بناء منزل. ولئن تفهم هذه الحقيقة وتعود بها إلى أهلك وبلادك وأنت على علم بها وتبلغها فهي والله لخير لك من قنطار من الذهب، فخذوا هذه، وإن لم تكونوا في حاجة إليها فاتركوها، ولا أحد يترك قنطاراً من الذهب. ولقد ترك آباؤنا جبالاً من الذهب، وليس قنطاراً فقط، فقد كان يعيش أحدهم عشرين سنة أو ستين عاماً ولا يحفظ مسألة كهذه، ولا يبالي بها، ويعيش في دكانه أو في سوقه وبضاعته ولا يبالي عرف أم لم يعرف. وهذا هو واقعنا، فهيا نغير حياتنا.

معنى العمل الصالح

العمل الصالح هو: الذي شرعه الله في كتابه القرآن، أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يشرعه الله تعالى في كتابه القرآن أو لم يبينه رسوله الكريم فلن يكون عملاً صالحاً، ومستحيل أن يكون عملاً صالحاً.

ومعنى كونه عملاً صالحاً: أنه عمل ينتج ويولد الحسنات للقلب والنفس البشرية، ويرضي الله تعالى ويحببه إلى عبده. ومالم يشرعه الله تعالى في القرآن الكريم أو على لسان سيد الأولين والآخرين فلن يكون عملاً صالحاً.

الشروط التي ينبغي توافرها ليكون العمل صالحاً

حتى ينتج العمل الصالح الحسنات ويولدها ينبغي أن تراعي فيه أولاً: الكمية - ونحن عوام لا نفهم اللغة- فالكمية بمعنى المقدار، أي: العدد، فإياك أن تزيد أو تنقص! فإن زدت أو أنقصت بطل مفعوله، ولا يصبح عملاً صالحاً، ومثاله: صلاة المغرب ثلاث ركعات في الحضر والسفر دائماً وأبداً، فإن زاد فيها المصلي ركعة رابعة تقرباً إلى الله وتزلفاً إليه لم يعد عملاً صالحاً مزكياً للنفس، والفقيه يقول لك: صلاتك باطلة يا بني! فأعدها؛ لأنك زدت فيها، فبطل مفعولها، وأصبحت لا تنتج ولا تولد الطاقة؛ لأن الله لم يشرعها أربعاً، بل شرعها ثلاثاً. فهذه الزيادة تبطلها.

والنقصان مثلها، فمثلاً: شرع الله عز وجل صلاة الظهر في الحضر أربع ركعات، فإذا قلت أنت: أنا تعبان فسأصلي ثلاث ركعات، ففيها بركة وكفاية، وصليت الظهر ثلاث ركعات فإن الفقيه لا يفتيك بصحة صلاتك، بل يقول لك: صلاتك باطلة؛ لأنك أنقصت منها ركعة، وبذلك بطل مفعولها، ولم تعد تولد لك النور والحسنات، فلهذا أعدها فقد بطلت. هذا الزيادة والنقصان، فالتزم الكمية، فلا تزد ولا تنقص.

ثانياً: الهيئة، فإذا أناطها الله بكيفية خاصة فإياك أن تقدم أو تؤخر أو تبدل، بل ائت بها كما وضعها الشارع؛ فإن قدمت أو أخرت بطل مفعولها، ولن تنتج شيئاً، ولن تصبح عملاً صالحاً، ومثال هذا: لو أراد أحد أن يصلي الظهر فقرأ الفاتحة والسورة ثم قال: الله أكبر محرماً بالصلاة لم تصح صلاته؛ لأنه قدم وأخر. وكذلك لو جلس فكبر وقرأ، ثم قام فركع وهو صحيح غير مريض في فريضة وليس في نافلة فصلاته ليست صحيحة، بل باطلة، لا تنتج الحسنات. وسبب بطلانها: أنه لم يأت بالهيئة والصفة التي نزل بها جبريل، وبينها لرسول الله في مكة، ولذلك بطل مفعولها.

ويكون التقديم والتأخير بالساعة كذلك، فلو قال الزعيم: معاشر المواطنين! هذا العام يكون الصيام في رمضان الساعة الواحدة بعد الزوال إلى الواحدة نصف الليل لم يصح هذا الصيام؛ لأننا قدمنا وأخرنا. فوقت الصيام يكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقد عكس هذا، ولهذا لا ينتج هذا الصيام حسنة واحدة، والفقيه يقول: صيامك باطل، ومعنى باطل: أنك لا تأخذ عوضاً عن عملك، وليس لك فيه أجر، أي: لا يولد الحسنات.

ثالثاً: الزمان والمكان، فمثلاً لو قال الزعيم: رمضان هذا العام يأتي في فصل الصيف والأعمال شاقة، ولذلك سنحوله إلى الخريف، ثم لم يصوموا في الصيف وصاموه في الخريف المقبل لم يصح هذا الصيام والله، ولم ينتج حسنات، ولا حسنة واحدة؛ لأن الله أناطه بشهر معين سماه رمضان، فإذا قدمت أنت أو أخرت وأبعدته عن زمنه فهو باطل.

وكذلك لو صلينا العشاء وكنا متعبين فأردنا أن نصلي الصبح وننام حتى الساعة الثامنة نهاراً ثم اجتمعنا وصلينا الصبح لم تصح، ولا يوجد من يقول: صلاتكم صحيحة، مع أننا قرأنا الفاتحة والسورة وركعنا وسجدنا وبكينا وخشعنا، وذلك أننا أوقعناها في غير زمانها زمانها، فزمانها بعد طلوع الفجر، ونحن صليناها في الليل، ولا يوجد فقيه يقول: صلاتكم صحيحة، بل إنها باطلة، لا تنتج الحسنات؛ لأن الزمان الذي وضعها الله فيه من أجل أن تنتج لم يعتبروه.

وكذلك المكان أيضاً: فلو أن أحدنا صلى في المرحاض لما قال الفقيه: صلاتك صحيحة، بل باطلة؛ لأنه مكان نجس، وأنت مطالب بالطهارة، فهذا المكان لا تصح الصلاة فيه. وكذلك لو صلينا في المجزرة والروث والدماء والأوساخ لم تصح صلاتنا، بل تكون باطلة؛ لأن المكان غير صالح.

وكذلك في الطواف والسعي في الحج، فلو قلنا: هيا بنا نطوف بالحجرات النبوية وأخذنا نطوف، فلو طفنا مليون شوطاً لم ينتج والله ولا حسنة واحدة أبداً؛ لأن الله لم يشرع الطواف بالحجرات النبوية، بل شرعه ببيته في مكة، وهذا ليس مكانه، بل ( الحج عرفة ).

وكذلك لو قلنا: هذا العام نقف بأحد، وأنه أفضل من عرفة، ووقف الحجاج فيه فلا يقال: إنهم حجوا، ولا يصح حجهم والله؛ لأن الله عين عرفة، وحدد مكانها، فلا نقل: يجوز الوقوف في مزدلفة أو منى، أو في ساحة مكة أو الأبطح.

وكل هذا يبين أن العبادة لكي تنتج الحسنات وتولد النور لابد وأن تكون عملاً صالحاً، وحتى يكون عملاً صالحاً فلا بد أن يشرعه الله ورسوله أولاً، وأن تأتي به كما فعله الرسول في الكمية والصفة والزمان والمكان. فاعرفوا هذه، فهي والله خير من قنطار من الذهب.

فعلى المؤمن أن يتجنب الرياء حتى لا يبطل عمله الصالح، والرياء هو: أن يعمل عملاً صالحاً [ فيرائي به غير الله؛ من أجل أن يشكر عليه، أو من أجل أن يدفع عنه المذمة أو اللوم والعتاب ].

بطلان الصدقات بالمن

قال: [ كما أن الصدقات تُبطل بالمن ] فالمن مبطل للصدقة [ لقوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]. والمن: هو ذكر الصدقة للمتصدق عليه، وتكرار ذلك عليه ] كما بينت لكم. كأن تقول له أمام الناس: هذه السيارة هي التي اشتريناها لك، ثم تصبر يومين أو ثلاثة وتقول: هذه السيارة - ما شاء الله- أنا اشتريتها لفلان لوجه الله تعالى، ويرى آخر عليه ثوب فيقول: هذا الثوب طيب، وهو حسن، وقد ناسبك، ويمن عليه، أو يقول لمن أنزله في البيت: لقد ناسبكم السكن، ما شاء الله، وهو طيب، أو يقول: أسكناهم في بيتنا لوجه الله، فهم إخواننا. هذا هو المن، وكلنا يعرفه، وهو يقتل صاحبه، والله لا يرضى أن يؤذى وليه، أو تسقط كرامته ويداس شرفه بين المسلمين، ولذا قال: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264] [ والأذى قد يكون بلوم المتصدق عليه أو تعييره بقبح، أو لفظ سيئ ].

من مبطلات العمل ارتكاب كبائر الإثم والفواحش

قال: [ ومن مبطلات العمل ] ومفسداته: [ ارتكاب كبائر الإثم والفواحش ] فالعمل إذا كان عملاً صالحاً فإنه ينتج الطاقة ويولد النور، وهو يفسد ويبطل بارتكاب الفواحش، فمثلاً: إذا بات الشخص يصلي فإنه يملأ روحه بالطهر والصفاء، فإذا زنى فقد غطى ذلك كله وطمسه. وكذلك لو تصدق بمليون ريال ثم بات ليلته كلها سكران يشرب الحشيش فإن نفسه تخبث، وتغطي ذلك النور وتحطمه. وهذا مثل من يتعب في غسل ثوبه بالماء والصابون حتى يصبح يلمع كالبرق، أو كشعاع الشمس أو القمر ثم بعد ساعة يتمرغ في مزبلة فإنه يبطل ذلك النور البارق. وهذا واضح. وموالكم هو الذي قال لكم: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]. فاحذروا يا عقلاء!

معنى حبوط العمل الصالح

قال: [ ومعنى إبطالها هنا: أن السيئات إذا غشت النفس وأحاطت بالقلب حجبت نور تلك الصالحات ذات الحسنات السابقة، ولم يبق لها نور في النفس، فقد روي عن الحسن البصري ] وهو من سادات التابعين، وقد تتلمذ على يد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وعن الزهري ] فقيه المدينة وعالمها: [ أن إحباط الأعمال الصالحة يكون بكبائر الذنوب، إذ قالا: لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي ] هكذا قال الشيخان الحسن البصري والزهري ، وهذا كما بينت لكم من أنك إذا عملت على تنظيف جسمك بالماء والصابون حتى نظف وطاب وطهر فإذا تمرغت في مزبلة وتلطخت بالعذرة والبول لم يبق شيء من ذلك الطهر، فقد انتهى، ولهذا إذا عمل العبد عملاً صالحاً كأن يصوم رمضان، ثم ما إن يفرغ من رمضان حتى يسهر على الورق والكيرم والعبث والسخرية، ولا يصلي العشاء إلا مع الصبح فهذا قد بطل عمله.

وأوضح من هذا: من حج حجاً صحيحاً طابت نفسه، وانتهت ذنوبه، فإن عاد إلى بلاده ليقارف الذنوب، ويصبها بالأطنان على نفسه لم يبق له شيء من الحج، بل إنه قد انتهى، وقد أبطله بسيئ أعماله، أي: بكبائر الذنوب.

قال: [ وليس معنى إبطالها: إحباطها، فإحباط العمل لا يكون إلا بالشرك والكفر؛ لقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] ] والخاسرون هنا ليسوا الذين خسروا رءوس أموالهم، بل هم من قال الله تعالى عنهم: قُلْ [الزمر:15]، أي: يا رسولنا! وبلغ: إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]. فليس الخسران فقدك شاة أو بعيراً أو منزلاً أو مزرعة، أو موت زوجة أو ولد، فقد تعوض خيراً مما فقدته، ولكن الخسران الحق أن يجد أحدنا والعياذ بالله نفسه في عالم لا يعرف فيه أحداً، وهذا ليس ألف سنة أو مليوناً فقط، بل بلا حساب، وهو في تلك الغربة في أنواع العذاب. هذا هو الخسران، وليس هو أن يخسر فلان في تجارته؛ إذ لا قيمة لهذه التجارة، وإنما قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

قال: [ وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] ] أي: الذي يرتد عن الإسلام ويكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وإن تصدق بالمليارات، أو بنى المساجد والغرفات للمؤمنين والمؤمنات، فإذا كفر بطل كل شيء. وقد دل قوله تعالى: [ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] على أنه من دخل في عبادة ينبغي أن يتمها ولا يخرج منها، نافلة كانت أو فريضة، فمن دخل في صلاة نافلة فليتمها، ومن شرع في طواف فليتمه، ومن دخل في صيام فليتمه، ومن أحرم بحج أو عمرة فليتمهما، ومن ائتم بإمام فليتم صلاته ] معه [ ولا يخرج عنه ] فلا يصلي مع الإمام ركعة ثم يخرج، بل يتم صلاته مع إمامه ولا يخرج عنه [ لكنه لا على سبيل الإلزام والوجوب، بل على سبيل الندب والاستحباب ] فمثلاً: لو صمت أربع ساعات أو خمس ثم عجزت وأفطرت فإنك لا تأثم كما لو ارتكبت كبيرة من الذنوب، ولكنك لم تأخذ بتوجيه الله عز وجل، بل أبطلت عملك، فحرمت نفسك الأجر والرضا؛ إذ هذه عبادات نافلة تطوعية، فإتمامها هو المطلوب، ولكن لو حصل أنه أراد أن يصلي نافلة فصلى ركعة ثم ترك وسلم فلا نقول أبداً: إنه فاسق، أو فاجر، ولكن نقول: إنه لم يأخذ بإرشاد الله وتوجيهه له، وضيع على نفسه الحسنات؛ لأنه دخل فيها ولم يكملها؛ لأن هذا التوجيه من الله لعباده المؤمنين، فقد قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد:33] واثبتوا، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]. وهذا إن كان بالشرك والرياء فهذا باطل، وإن كان فقط بعدم إتمامه لهوى أو انهزام روحي فليس فيه إثم، ولكن فقدك للأجر كالإثم.

فمثلاً: صلاة التهجد بالليل لها وتر، وصلاة التهجد أن تصلي ركعتين وتسلم، ثم ركعتين وتسلم، وهكذا، حتى إذا تعبت أو خفت طلوع الفجر صليت ركعة واحدة توتر لك ما صليت، فتصبح قد أوترت؛ لأن ( الله وتر يحب الوتر ). و( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة؛ توتر له ما قد صلى ). ومعنى توتر: تجعله وتراً. والوتر محمود عندنا، حتى في الأكل، فكل خمس تمرات أو سبع تمرات أو تسع أو إحدى عشرة؛ لأن الله يحب لك ذلك. فالوتر ممدوح؛ لأن الله وتر يحب الوتر.

حكم من مات كافراً صاداً عن سبيل الله

قال: [ وقوله تعالى في النداء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [محمد:34]، أي: بالله ورسوله، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:34]، أي: عن الإسلام والدخول فيه بأي سبب من الأسباب ] فالصد عن الإسلام قد يكون بالحديد والنار، وقد يكون بالكذب والباطل، وقد يكون بالتهديد، وقد يكون بالزخارف والأباطيل، وبأي طريقة يقصد بها صاحبها أن يصد بها عن سبيل الله، وصاحبها يتحمل مسئوليته [ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [محمد:34]، أي: لم يتوبوا حتى ماتوا، فهؤلاء حكم الله تعالى بعدم المغفرة لهم؛ إذ قال عز من قائل: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد:34]، أي: كفرهم وصدهم عن سبيل الله، ولو كانوا قبل كفرهم وصدهم فعلوا كل بر و] كل [ خير، وعبدوا الله بكل ما شرع من أنواع العبادات؛ لأن موتهم على أكبر إثم وأقبح جريمة، وهما الكفر بالله ولقائه وشرعه، وصدهم غيرهم بوسائل الصد عن سبيل الله، فقد تكون الوسائل قتالاً وضرباً وتجريحاً، وقد تكون طعناً في الدين وتحريفاً له وتقبيحاً فيه؛ حتى يصرفوا الناس عنه ] فقد تكون بفتح دار سينما لصرف الناس عن المسجد إلى السينما، فهذا صد عن سبيل الله، وأنواع الصد لا حد لها، فلنحذر ذلك، فكل من يلهي عن الإسلام ويصرف عنه فهو صاد عن سبيل الله، والذي يطعن في الإسلام ويقبحه ويطعن في علمائه ورسوله فهو صاد عن سبيل الله [ ويدخل في هذا الوعيد بدون شك اليهود والنصارى؛ إذ حملوا راية الصد عن الإسلام والصرف عنه، وبذلوا أموالاً وجهوداً لا حد لها، والعياذ بالله. فمن مات منهم على ذلك فقط حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين ] واليهود صدوا عن الإسلام، والنصارى وخاصة رجال الكنيسة صدوا، وفعلوا العجب في صرف الناس عن الإسلام [ وسبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.