قد يدل العقل على جهة الإجمال لأن الله تعالى لم يخلق هذا الخلق عبثًا وإنما لحكمةٍ عظيمة بالغة من حيث الأصل ومن حيث الفرع، حينئذٍ ما الذي يدلنا على تحقيق هذه الحكمة من جهة الإجمال ومن جهة التفصيل؟ نقول: لا بد من رسولٍ وواسطة يكون بين الخلق وبين خالقهم يبين لهم على لسانه ما أراده الله عز وجل من عباده، فأهمية معرفة هذا الأصل وهو معرفة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من أهمية معرفة مرسله وما أُرْسِلَ به، إذًا هذه هي الأصول الثلاثة ذكرها المصنف مجملةً ثم فصلها أصلاً تتميمًا للفائدة وتنشيطًا للقارئ، فإنه إذا عرف على جهة الإجمال حينئذٍ تتشوق النفس ويقع فيها من محبة معرفة ما هذه الأصول الثلاثة على جهة التفصيل. فقال رحمه الله تعالى: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟) هذا الأصل الأول وهو ... (مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ) ، (فَإِذَا قِيلَ) الفاء هذه فاء الفصيحة إذا قيل لك كذلك القائل لا يسأل عنه لأن المراد هنا الجواب (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟) نقول: هذا شرح وتبيان الأصل الأول (مَنْ رَبُّكَ؟) أي من خالقك ورازقك ومعبودك، خالقك ورازقك هذا ما يتعلق بالمعنى اللغوي للرب، ومعبودك هذا نضيفه من جهة الشرع، فإن لفظ الرب له حقيقةٌ شرعية كما أن لفظ الصلاة نقول: لفظٌ له حقيقةٌ شرعية، وكذلك الزكاة والصيام والحج، فلا يحمل على معناه اللغوي فحسب، وإنما ينظر في سياقات الشرع فما جعل له حقيقةٌ شرعية وجب إعماله، وما لا فنرجع إلى المعنى اللغوي، إذًا أصل حمل الشرع على لسان العرب، (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ الْلَّهُ) أصل الرب في اللغة بمعنى المربي، وجاء بمعنى الحفظ والرعاية، ويطلق كذلك على الخالق المربي، ويطلق على المالك والسيد والمدبر والقيم والمنعم، وهذه كلها معانٍ لغوية وهي مرادةٌ من جهة الشرع، ولكن لا بد من إضافة المعنى الذي ذكرناه سابقًا وهو المعبود، لكن مراد المصنف هنا ... (فَقُلْ: رَبِّيَ الْلَّهُ) ليس المعنى الشرعي وإنما هو المعنى اللغوي حينئذٍ (رَبِّيَ الْلَّهُ) أي الذي رباني، ولذلك فسره بقوله: (الَّذِي رَبَّانِي وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ وَهُوَ مَعْبُودِي) ، (وَهُوَ مَعْبُودِي) هذا إضافة لا بد من تقييد اللفظ السابق بها، لأن المعنى الخالق المعبود لأنه يفسر أصلاً من الأصول التي يُسأل عنها العبد في قبره، ومعلومٌ أن العبد إنما يمتحن في معاني الإلوهية لا في معاني الربوبية، إذ الربوبية هذه ليست محل خلافٍ بين الجملة ليست محل خلافٍ بين الرسل وأقوامهم، وإنما في صرف العبادة لغير الله جل وعلا، وذلك قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .