الصفحة 35 من 151

الفصل الثاني

الكفر الأكبر

المبحث الأول: تعريفه وحكمه:

الكفر في اللغة: بمعنى الستر والتغطية، يقال لمن غطى درعه بالثوب: قد كفر درعه. ويقال للمزارع: «كافراً» لأنه يغطي البذر بالتراب، ومنه سمي الكفر الذي هو ضد الإيمان «كفراً» ؛ لأن فيه تغطيه للحق بجحد أو غيره، وقيل: سُمي الكافر «كافراً» لأنه قد غطى قلبه بالكفر [1] .

والكفر الأكبر في الاصطلاح: كل اعتقاد أو قول أو فعل أو ترك يناقض الإيمان [2] .

فالكفر الأكبر يكون بالاعتقاد، ويكون أيضاً بالقول، ويكون كذلك بالفعل ولو لم يكن مع أي منهما اعتقاد [3] .

(1) انظر لسان العرب، مادة «كفر» ، وينظر الفصل لابن حزم 3/ 211. وقال ابن الجوزي في «نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه و النظائر» ص516، 517: «ذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه:

أحدها: الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى في البقرة: + ... [البقرة:6] ، والثاني: كفران النعمة، ومنه قوله تعالى في البقرة: + ... ، والثالث: التبري، ومنه قوله تعالى في العنكبوت: + ..."، أي يتبرأ بعضكم من بعض، والرابع: الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة: + ..."، والخامس: التغطية، ومنه قوله تعالى في الحديد: + ..."، يريد الزراع الذين يغطون الحَب»."

(2) النواقض القولية والعملية ص39، وقال أبو محمد بن حزم بعد ذكره

(3) لتعريف الكفر لغة في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل: كتاب الإيمان 3/ 211: «ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن، أو جحد شيء مما أتى به رسول الله × مما صح عند جاحده بنقل الكافة، أو عمل شيئاً قام البرهان بأن العمل به كفر» .

وقد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن الكفر يكون بمجرد القول أو مجرد الفعل.

قال الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238هـ كما في تعظيم قدر الصلاة لتلميذه محمد بن نصر (ص930) ، رقم (991) : «ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد: فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى وما جاء من عنده ثم قتل نبياً أو أعان على قتله، وإن كان مقراً، ويقول: قتل الأنبياء محرم، فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً؛ أو ردّ عليه قوله من غير تقية ولا خوف» .

فقد حكى إسحاق - رحمه الله - إجماع السلف على أن من سبَّ نبياً، أو قتل نبيّاً من أنبياء الله تعالى، أو رد شيئاَ مما أنزل الله تعالى باللسان فقط مع إيمانه بقلبه بجميع ما أنزل الله أنه يكفر بذلك القول أو الفعل المجرد.

وقال الإمام أبوثور المتوفى سنة 240هـ كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ص849) : «ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: المسيح هو الله، وجحد أمرالإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن» ، فقد حكى أبوثور - رحمه الله - إجماع السلف على كفر من أظهر كلمة الكفر، ولو قال: إنه تلفظ بها من غير أن يعتقد مدلولها.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد حكى أبومحمد بن حزم في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» كتاب الإيمان 3/ 204، 211، 249، 251، 253 الإجماع على التكفير بمجرد النطق ببعض الأمور المكفرة، وبمجرد فعل بعض الأمور المكفرة، وقال 3/ 209: «بقي من أظهر الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر، وبحكم رسول الله × بذلك، وبنص القرآن» ، وقال 3/ 200: «وأما قولهم: إن إخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليل على أن في قلوبهم كفراً، وأن شتم الله ليس كفراً، ولكنه دليل على أن في القلب كفراً، وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط، فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة، لا دليل لهم عليها ولا برهان، لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من حجة عقل أصلاً، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا منقول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن صفوان، وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور، فسقط قولهم هذا من قرب، ولله الحمد رب العالمين، فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول .. » .

وقال ابن حزم أيضاً في آخر المحلى 11/ 411: «وأما سبّ الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً. قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام ... ولم يختلفوا في أن فيه - أي في القرآن - التسمية بالكفر والحكم بالكفر قطعاً على من نطق بأقوال معروفة كقوله تعالى: + ..."وقوله تعالى: + ..."فصح أن الكفر

ــــــــــــــــــــــــــــــ

يكون كلاماً» انتهى كلامه بحروفه مختصراً.

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في شرح كشف الشبهات ص102: «فهذا المذكور في هذا الباب - أي باب المرتد - إجماع منهم أنه يخرج من الملة ولو معه الشهادتان لأجل اعتقاد واحد أو عمل واحد أو قول واحد، يكفي بإجماع أهل العلم لا يختلفون فيه» .

وقال الشيخ عبدالله أبا بطين كما في مجموعة الرسائل والمسائل 1/ 659: «المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه بكلام أو اعتقاد أو فعل أو شك ... وهذا ظاهر بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع» .

وقال العلامة الصنعاني في «تطهير الاعتقاد» ص26،25: «قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها» .

ونقل صاحب المحيط كما في درر الحكام في الفقه الحنفي 1/ 324 الإجماع من كافة العلماء على كفر من نطق بكلمة الكفر ولو كان غير معتقد لما نطق به.

وقد نقل الشيخ علوي السقاف في رسالة «التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد» عن أكثر من مائة من علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين ومن جميع المذاهب الفقهية أن الكفر يكون بمجرد النطق بقول مكفر، وبمجرد فعل مكفر.

وينظر ما يأتي من حكاية الإجماع على كفر من جحد بلسانه شيئاً من دين الله تعالى عند الكلام على كفر الإنكار والتكذيب، وما يأتي من حكاية الإجماع على كفر من سب شيئاً من دين الله أو استهزأ أو سخر به بالقول أو الفعل جاداً أو هازلاً عند الكلام على كفر السبّ والاستهزاء.

وقد أطال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/ 199 - 206 في الرد على من قال: إن الكفر لا يكون بالقول أو الفعل، وذكر أدلة صريحة من الكتاب والسنة

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام