عنوان الفتوى : من صلى مع وجود نجاسة على بدنه أو ثوبه
قال ابن عبد البر: قد أجمَعوا أنَّ مِن شرْطِ الصلاةِ: طهارةُ الثياب، والماء، والبدن. ((التمهيد)) (22/242)
1. هل هذا إجماع؟ وإذا كان إجماعا. فما نوعه؟
2. وهل يجوز مخالفته أم لا؟
3. وما حكم من يخالف هذا الإجماع، باتباع الشوكاني في وجوب إزالة النجاسة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر الحافظ ابن عبد البر هذا الكلام في معرض الرد على من يقول بعدم فرضية غسل المصلي للنجاسة التي على بدنه وثوبه.
محتجاً بحديث ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وضع عقبة بن أبي معيط سلى الجزور على ظهره وهو يصلي، لم يقطع لذلك صلاته.
فردَّ ابن عبد البر ذلك بأنه لو سلمنا صحته، لكان دليلا على عدم سنية إزالة النجاسة، وليس مجرد نفي الفرضية!
فقال -رحمه الله-: لو سلم له ظاهر هذا الحديث بأن يكون السلى من جزور غير مذكى، لما كان غسل النجاسات سنة ولا فرضا.
وقد أجمعوا أن من شرط الصلاة طهارة الثياب والماء والبدن والموضع، فدل على نسخ هذا الخبر، وفي هذا الحديث نظر .. اهـ.
فظهر بذلك أن مراده بهذا الإجماع هو وجوب إزالة المصلي للنجاسة، لا الشرط الاصطلاحي الذي يعني بطلان الصلاة بفقده مطلقا، كشرط الوضوء للصلاة.
وكذلك قوله في (الاستذكار): أجمع العلماء على غسل النجاسات كلها، من الثياب والبدن، وألا يصلي بشيء منها في الأرض، ولا في الثياب. اهـ.
وكذلك قول ابن رشد في بداية المجتهد: أما المحال التي تزال عنها النجاسات فثلاثة، ولا خلاف في ذلك: أحدها: الأبدان، ثم الثياب، ثم المساجد ومواضع الصلاة، وإنما اتفق العلماء على هذه الثلاثة؛ لأنها منطوق بها في الكتاب والسنة. اهـ.
فنفي الخلاف إنما هو في الوجوب، لا في الشرطية، وإلا فابن عبد البر -رحمه الله- يصرح بعدم وجوب إعادة الصلاة على من صلى بنجاسة ساهيا أو ناسيا.
حيث قال: وأما الفتوى بالإعادة لمن صلى وحده وجاء مستفتيا فلا، إذا كان ساهيا ناسيا؛ لأن إيجاب الإعادة فرضا يحتاج إلى دليل لا تنازع فيه، وليس ذلك موجودا في هذه المسألة.
وقد روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وسالم وعطاء وطاووس ومجاهد والشعبي والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري في الذي يصلي بالثوب النجس وهو لا يعلم، ثم علم بعد الصلاة، أنه لا إعادة عليه.
وبهذا قال إسحاق، واحتج بحديث أبي سعيد المذكور في هذا الباب .. قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟". قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا". وقال: "إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر؛ فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه، وليصل فيهما" ...
ففي هذا الحديث ما يدل على جواز صلاة من صلى وفي ثوبه نجاسة، إذا كان ساهيا عنها غير عالم بها، على ما ذهب إليه هؤلاء من التابعين وغيرهم، وفي ذلك دليل على أن غسل النجاسات ليس بفرض. اهـ.
ونفي الفرضية هنا في معنى نفي الركنية أو الشرطية، حتى يجتمع كلامه ولا يتعارض، فيكون المثبت هو وجوب إزالة النجاسة، والمنفي هو الركنية أو الشرطية.
وهذا يتسق مع مذهب المالكية الذي هو أقرب إلى مذهب الشوكاني من مذهب الجمهور. فالشوكاني يقول بوجوب إزالة النجاسة، ولكنه يصحح الصلاة مع وجودها؛ لكون ذلك ليس بشرط بل واجبا.
وقد ختم بحثه لهذه المسألة في «نيل الأوطار» بقوله: إذا تقرر لك ما سقناه من الأدلة، وما فيها، فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة وجوب تطهير الثياب. فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركا لواجب، وأما أن صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة، فلا. اهـ.
وقال في السيل الجرار: فيكون المصلي مع وجود النجاسة في بدنه آثما، ولا تبطل صلاته. اهـ.
وقال في الدر البهية: يجب على المصلي تطهير ثوبه وبدنه، ومكانه من النجاسة. اهـ.
وذكر أدلة ذلك في شرحه الدراري المضية، وذكر في المسألة ثلاثة مذاهب -واجب، وشرط لصحة الصلاة، وسنة- ثم قال: والحق الوجوب، فمن صلى ملابسا لنجاسة عامدا فقد أخل بواجب، وصلاته صحيحة. اهـ.
والحاصل أنه ليس هناك إجماع على اشتراط الطهارة من النجس، كاشتراطها من الحدث، وإنما هو قول الجمهور.
قال ابن قدامة في «المغني»: الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه، شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم؛ منهم: ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. ويروى عن ابن عباس أنه قال: ليس على ثوب جنابة. ونحوه عن أبي مجلز وسعيد بن جبير والنخعي. وقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى: ليس في ثوب إعادة. ورأى طاووس دما كثيرا في ثوبه، وهو في الصلاة، فلم يباله. وسئل سعيد بن جبير، عن الرجل يرى في ثوبه الأذى وقد صلى؟ فقال: اقرأ علي الآية التي فيها غسل الثياب. اهـ.
وانظر الفتويين: 111752، 154065.
وأما السؤال عن حكم اتباع الشوكاني على مذهبه؟
فجوابه: أن المقلد الذي ليس له مدخل في الترجيح بين أقوال أهل العلم، بل يقلد أوثقهم عنده. فإن تساووا قلَّد من شاء منهم.
وأما طالب العلم الذي عنده أدوات للترجيح، فإن أداه اجتهاده إلى ترجيح قول الشوكاني، فلا حرج عليه باتباعه.
وراجع في ذلك، الفتاوى: 100108، 169143، 120640، 184283.
والله أعلم.