عنوان الفتوى : مسألة تخيير العامي فيمن يستفتي والقائلون بها
ما أسماء العلماء من الشافعية والحنابلة الذين يقولون عند الاختلاف اختر ما تشاء من الفتوى - بغض النظر عن رأيكم في عدم جواز ذلك، فأنا أريد الأسماء، وما مكانتهم وما أدلتهم؟ وكيف تردون أنتم وأهل العلم عليها؟ وهل قول السلف: من اتبع رخصة كل عالم فقد جمع الشر كله، أو تزندق. رد عليهم؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعلماء مختلفون في العامي هل يلزمه الاجتهاد في أعيان العلماء فيقلد أوثقهم عنده أم له أن يقلد من شاء منهم؟ والذين جوزوا له أن يقلد من شاء قيدوا ذلك بألا يقصد تتبع الرخص، ومن ثم فلا يصلح ذم تتبع الرخص حجة على من قال بهذا القول. ومن القائلين بتخيير العامي وأن له أن يستفتي من شاء جماعة من أعيان أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، فقال به من الحنابلة القاضي أبو يعلى وأبو الخطاب الكلوذاني وجماعة، ومنزلة القاضي وأبي الخطاب في المذهب غير خافية، وقد بسطت هذه المسألة في المسودة لآل تيمية رحمهم الله وفيها بيان ما للفريقين.
جاء فيها ما عبارته: للعامي أن يقلد في الفروع أي المجتهدين شاء، ولا يلزمه أن يجتهد في أعيان المجتهدين في قول القاضي وأبي الخطاب وجماعة من الفقهاء. وذكر القاضي وأبو الخطاب أنه ظاهر كلام أحمد، كما ذكر القاضي أن العامي يتخير بين المفتين ولا يلزمه الاجتهاد. قال: فإن قيل فهلا قلتم يلزمه الأخذ بقول من غلظ كما قلتم إذا تقابل في الحادثة دليلان أحدهما حاظر والآخر مبيح. قيل له فرق بينهما. وقال ابن عقيل: لا يتخير بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين الأدين والأورع ومن يشار إليه أنه الأعلم. وقال ذكره أحمد ولم يحك في المذهب فيه خلافا. وذكره القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى ابن الفراء في العامي هل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين أم له الأخذ بقول أيهم شاء على روايتين، إحداهما مثل قول القاضي والجمهور منا، والثانية مثل قول ابن عقيل، ذكر ذلك في الإتمام لكتاب الروايتين والوجهين، وبهذا قال ابن سريج والقفال، وكذلك ذكر ابن برهان لهم -يعني للشافعية- الوجهين، وذكره الخرقي فقال: يقلد الأعمى أوثقهما في نفسه، وذكر أبو الخطاب في ضمن مسألة تعادل الأمارات فيها وجهين أحدهما يجتهد في أعيان المفتين ويقلد أعلمهما وأدينهما عنده. وأخذ أصحابنا أن له أن يقلد من شاء من أهل الاجتهاد من قوله في رواية الحسن بن زياد وقد سأله عن مسألة في الطلاق فقال: إن فعل حنث، فقال له: يا أبا عبد الله إن أفتاني إنسان يعني أنه لا يحنث، فقال: تعرف حلقة المدنيين، حلقة بالرصافة. فقال له إن أفتوني به حل؟ قال: نعم. قال: وهذا يدل على أن العامي يخير في المجتهدين. وذكر أبو الخطاب قول من قال يلزمه أن يجتهد في أعيانهم أيهم أعلم، وقد أومأ الخرقي إلى نحو هذا في مسألة القبلة، ووجه أبو الخطاب الأول بالإجماع وبأن معرفة الأعلم تتعذر على العامي. انتهى.
وممن اختار هذا القول المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام كما نسبه إليه في شرح الكوكب المنير وقال إنه الصحيح، واختار الموفق أنه يقلد الأفضل علما ودينا. ورجح الشيرازي وهو من أعيان أئمة الشافعية القول بتخيير العامي في استفتاء من شاء.
وعبارته في كتاب التبصرة: يجوز للعامي تَقْلِيد من شَاءَ من الْعلمَاء، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس والقفال يلْزمه الِاجْتِهَاد فِي أَعْيَان الْمُفْتِينَ وَلَا يُقَلّد إِلَّا الأعلم الأدين. لنا قَوْله تَعَالَى: {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَلم يفصل، وَلِأَن من جَازَ تَقْلِيده إِذا كَانَ مُنْفَردا جَازَ تَقْلِيده وَإِن اجْتمع مَعَ غَيره كَمَا لَو كَانَا متساويين، ولأنا إِنَّمَا جَوَّزنَا للعامي أَن يُقَلّد لِأَن فِي إِيجَاب معرفَة الْعلم مشقة وإضرار وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي إِيجَاب معرفَة الأعلم، وَلِأَن النَّاس يتفاوتون فِي الِاجْتِهَاد مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِفْظ وَقد يكون أَحدهمَا أحفظ وَالْآخر أعلم بِالِاجْتِهَادِ، وَفِي معرفَة ذَلِك مشقة، فَيجب أَن لَا يلْزمهُم، وَاحْتَجُّوا بِأَن هَذَا طَرِيقه الظَّن وَالظَّن فِي تَقْلِيد الأعلم أقوى فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ. وَالْجَوَاب أَن هَذَا يُوجب أَن يتَعَلَّم الْفِقْه وَيعلم بِهِ لِأَن رُجُوعه إِلَى الِاجْتِهَاد أقوى، وَلما أجمعنا على أَنه لَا يجب ذَلِك دلّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ . انتهى.
فإذا علمت هذا فاعلم أن قيد هذا القول ألا يتتبع الرخص كما مر.
قال النووي رحمه الله: لَا يلْزمه التمذهب بِمذهب، بل يستفتي من شَاءَ، لَكِن [من] غير تلقط للرخص. انتهى.
فإذا تقرر لك هذا وعلمت وجه هذا القول وأن له قوة واتجاها، فاعلم أننا نميل إلى القول بأنه يجتهد فيقلد الأعلم الأورع بحسب الإمكان، وقد قال بهذا القول جماعة من المحققين، وللاطلاع على طرف من كلامهم انظر الفتوى رقم: 120640
والله أعلم.