عنوان الفتوى : أحكام من سرق من مال أبيه على مرات متفرقة ما يبلغ تمام النصاب
حكم من سرق من مال أبيه، واعترف له؟ وإذا كانت جدته وأخته تحفظان أموالهما عند أبيه، فهل يعتبر سارقا منهما أيضا؟
وكانوا أحيانا يطلبون منه إحضار مال من الخزانة، ويعطونه المفتاح ليحضر المال، فيأخذ شيئا لنفسه، فهل يعد هذا سرقة أم غلولا؟
مع العلم أنه لم يبلغ النصاب في ما سرقه على حدة، ولكن مجموع السرقات بلغه. فهل تقطع يده على ذلك؟ أم يجب تعدي النصاب في السرقة الواحدة؟
مع العلم أنه اعترف لأبيه وجدته، وسامحوه.
نرجو الإفادة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ندري ما وجه السؤال عن إقامة الحد هنا! وإنما السؤال ينبغي أن يكون عن التوبة، ومعالجة هذا الخطأ، وعفو صاحب الحق عن حقه، ومسامحة المخطئ.
وأما إقامة الحد؛ فليس من شأن الأفراد، وإنما من شأن السلطان ونوابه، وانظر الفتويين: 123589، 29819.
وقال ابن حزم في «المحلى»: لا يجب شيء من الحدود المذكورة بنفس الزنى، ولا بنفس القذف، ولا بنفس السرقة، ولا بنفس الشرب، لكن حتى يستضيف إلى ذلك معنى آخر، وهو ثبات ذلك عند الحاكم بإقامة الحدود، إما بعلمه، وإما ببينة عادلة، وإما بإقراره، وأما ما لم يثبت عند الحاكم؛ فلا يلزمه حد، لا جلد، ولا قطع أصلا. برهان ذلك: هو أنه لو وجبت الحدود المذكورة بنفس الفعل، لكان فرضا على من أصاب شيئا من ذلك أن يقيم الحد على نفسه ليخرج مما لزمه، أو أن يعجل المجيء إلى الحاكم، فيخبره بما عليه ليؤدي ما لزمه فرضا في ذمته، لا في بشرته، وهذا أمر لا يقوله أحد من الأمة كلها بلا خلاف. أما إقامته الحد على نفسه؛ فحرام عليه ذلك بإجماع الأمة كلها، وأنه لا خلاف في أنه ليس لسارق أن يقطع يد نفسه، بل إن فعل ذلك كان عند الأمة كلها عاصيا لله تعالى، فلو كان الحد فرضا واجبا بنفس فعله لما حل له الستر على نفسه، ولا جاز له ترك الإقرار طرفة عين، ليؤدي عن نفسه ما لزمه. اهـ.
وقال ابن الجوزي في «تلبيس إبليس»: قَالَ ابْن عقيل: وليس للناس إقامة العقوبات، ولا استيفاؤها من أنفسهم، يدل عَلَيْهِ أن إقامة الإنسان الحد عَلَى نفسه لا يجزئ، فَإِن فعله أعاده الإمام. اهـ.
على أن جمهور العلماء لا يرون القطع في سرقة الولد من مال أبيه؛ لوجوب نفقة الولد في مال أبيه، ولأنه يرث ماله، وله حق في دخول بيته، وهذه كلها شبهات تدرأ عنه الحد. وراجع في ذلك الفتويين: 30148، 56148.
وهنا ننبه على أن شرط النصاب في السرقة، إنما يتحقق إذا سرقه كله في مرة واحدة، وأما إذا سرق النصاب على مرات متفرقة، فلا قطع عليه على الراجح.
قال الماوردي في «الحاوي الكبير»: إذا ثبت أن القطع في السرقة مقدر بربع دينار، فإن سرقه في دفعة واحدة قطع فيه، وإن سرقه متفرقا فعلى ضربين:
أحدهما: أن يكون من أحراز متفرقة، مثل أن يسرق من حرز ثُمُن دينار، ومن حرز آخر ثمن دينار، فلا قطع عليه لانفراد كل حرز بحكمه، ولم يسرق من أحدهما ربع دينار، فلذلك لم يقطع.
والضرب الثاني: أن يكون من حرز واحد، مثل أن يهتك الحرز، ويأخذ منه ثمن دينار، ثم يعدوا إليه، فيأخذ ثمن دينار تمام النصاب المقدر في القطع، ففي وجوب قطعه ثلاثة أوجه:
أحدها: وهو قول أبي العباس بن سريج: يقطع، سواء عاد إليه لوقته أو من غده؛ لأنه قد استكمل سرقة نصاب من حرز فصار كسرقته في دفعة واحدة.
والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يقطع، سواء عاد لوقته أو من غده؛ لأنه سرق في العود من حرز مهتوك.
والوجه الثالث: وهو قول أبي علي بن خيران أنه إن عاد لوقته، فاستكمل النصاب قبل إشهار هتكه قطع، وإن عاد من غده بعد اشتهار هتكه لم يقطع؛ لاستقرار هتك الحرز بالاشتهار. وهذا أصح. اهـ.
وجاء في شرح مختصر خليل للخرشي: لا قطع على من سرق نصابا من حرز مثله على دفعات في ليلة، أو في ليال، أو في يوم، أو أيام، لأن شرط القطع أن يخرج النصاب دفعة واحدة. اهـ.
وعلل ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل فقال: لأنه ما يجب فيه القطع محدود، فلا قطع على من سرقه في مرات. اهـ.
والله أعلم.