عنوان الفتوى : حكم تفسير قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} بالثقوب السوداء

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

أنا مؤمن بأن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم له أكثر من معنى، وينطبق على الحاضر والمستقبل والماضي، ومثاله قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس)، فقد فسرها العلماء قديمًا بأنها النجوم، وحاليًّا وجدوا أن اللفظ ينطبق أيضًا على الثقب الأسود، فهل أنا محق في إيماني ذلك أم يجب أن أعدله؟ جزاكم الله خيرًا.

مدة قراءة الإجابة : 19 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فإن قضية التفسير والإعجاز العلمي للقرآن الكريم، من القضايا التي هي محل جدل مشهور بين المعاصرين، وقد سبق أن تعرضنا لذلك في فتاوى كثيرة، ورأينا قبول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بضوابط محددة، فانظر الفتاوى: 43698 - 296470 - 223117.

والواقع أن كثيرًا مما يذكر أنه من قبيل الإعجاز العلمي، لا يتقيد فيه أصحابه بتلك الضوابط.

 وقد عرض لهذا المثال الأستاذ الدكتور مساعد الطيار في كتابه: (الإعجاز العلمي إلى أين؟ مقالات تقويمية للإعجاز العلمي)، فننقل كلامه على طوله، فيما يتعلق بقضية الإعجاز العلمي عمومًا، لعله تكون لك فيه الفائدة.

قال -وفقه الله-: في تفسير قوله تعالى: فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير:15-16]:

ذهب الأستاذ الدكتور زغلول النجار في تفسير هاتين الآيتين إلى مذهب جديد لم يُسبق إليه، وهذا المذهب الذي ذهب إليه إنما كان بسبب ما ظهر عنده من العلم الجديد في دراسة النجوم.

وقد فصَّل المعنى اللغوي للفظتين: (الخنس، والكنس)، وجعل الخُنوس بمعنى الاختفاء الكامل.

وليس من شكٍّ أن أصل الخنوس الاختفاء، كما نقله عن ابن فارس، لكن زيادة قيد: (الكامل) في قوله: «ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء»، لا دليل عليه من نقل، ولا عقل، ولا لغة، وإنما هو بسبب هيمنة تلك القضية الفلكية على ذهنه أثناء تفسيره لهذه الآية.

وجعل الكنوس من مادة كَنَس يَكْنِسُ، ومنها: المِكْنَسَةُ، ولم يجعله من كناس الظَّبي (أي: بيته)، كما ذهب إليه بعض مفسري السلف، وغيرهم.

والمعنى الذي ذهب إليه في معنى الكنوس حادث، وإنما قاده إليه تلك القضية الفلكية التي لا يتناسب معها جعل الكنوس من الكِناس، وإنما يناسبها جعله من الكَنْسِ.

وهذا الاختيار لهذين المعنيين، ما كان ليكون لو لم يكن له معرفة بما يُسمى بالثقوب السود، التي هي حالة من حالات النجوم ذكرها الفلكيون المعاصرون.

فلو لم يعرف هذا ما كان ليطرأ عليه هذا المعنى البتة، وهذا يَدُلَّك على أن هذا أسلوب الاعتقاد المُسبق، ثم الاستدلال له.

يقول الأستاذ الدكتور زغلول النجار بعد حديثه عن تكوُّن الثقوب السوداء: «... فسبحان الذي خلق النجوم، وقدَّر لها مراحل حياتها، وسبحان الذي أوصلها إلى مرحلة الثُّقب الأسود، وجعله من أسرار الكون المبهرة، وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة الحالكة السواد الغارقة بالظلمة، وجعل لها من الظواهر ما يعين الإنسان على إدراك وجودها، على الرغم من تسترها واختفائها، وسبحان الذي مكَّنها من كنس مادة السماء، وابتلاعها، وتكديسها، ثم وصفها لنا قبل أن نكتشفها بقرون متطاولة بهذا الوصف القرآني المعجز، فقال عزّ وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15-16]، ولا أجد وصفًا لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السود أبلغ من وصف الخالق سبحانه وتعالى لها: بالخنس الكنس، فهي خانسة؛ أي: دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها، وهي كانسة لصفحة السماء، تبتلع كل ما تمر به من المادة المنتشرة بين النجوم، وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء، وهي جارية في أفلاكها المحدَّدة لها، فهي خُنَّس جوار كُنَّس، وهو تعبير أبلغ بكثير من تعبير الثقوب السود الذي اشتهر وذاع بين المشتغلين بعلم الفلك، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].

 ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السود تسمية مجازية عجيبة، تنطبق انطباقًا دقيقًا على الوصف القرآني: «الخنس الجوار الكنس» كما فصَّلناه آنفًا، وذلك حين يسمونها بالمكانس الشافطة العملاقة التي تبتلع (أو تشفط) كل شيء يقترب منها إلى داخلها ...».

مناقشة هذا التفسير:

أولًا: إن تلك القضية الفلكية لا يمكن لمثلي أن يرفضها، فلست أمتلك أدوات البحث التي تؤهلني أن أوافق أو أرفض، لكني ـ وأمثالي كثيرون ـ لا يملكون إلا قبول مثل هذه القضية إذا جاءت من متخصص بهذا العلم، وهذا يعني أنه ليس مجالي مجال إسقاط هذه القضية، ولا يمكن أن يسقطها إلا متخصص يظهر له خلافها، ويُثبِتَ بالبراهين خطأها.

وهذا يعني عندي أن قضية الثقوب السود وما فيها من تحليلات مقبولة من حيث النظر الفلكي، مع أنه يقع في نفسي أن الأيام حُبلى بما قد يُظهر خلاف ما هو موجود الآن من معلومات لدى الفلكيين عن هذه الثقوب السود، وأنه قد يظهر ما يخالف ما استقر العلم عليه الآن، والتغير سمةٌ بارزة في العلوم التجريبية والكونية حتى تصل إلى مطابقة الحقيقة.

ثانيًا: إن الأستاذ الدكتور زغلول النجار قد وضع ضابطًا في تفسير القرآن بالإعجاز العلمي، وهو أن يفسر بالقضايا التي لا رجعة فيها.

ويفرق بين تفسير القرآن من جهة الإعجاز العلمي، ومن جهة التفسير العلمي، فيقول: «فالإعجاز العلمي يُقصد به هنا: إثبات سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون، أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون، أما التفسير فهو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآية القرآنية؛ إن أصاب فيها المفسر فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، والمعول عليه في ذلك هو نِيَّتُه، وهنا يجب التأكيد على أن الخطأ في التفسير ينسحب على المفسر، ولا يمس جلال القرآن».

وقد أشار إلى قضية أخرى في سبب تفريقه بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي، فقال: «أما موضوع الإعجاز العلمي: فهو موقف من مواقف التحدي الذي نريد أن نثبت به للناس كافة أن هذا القرآن ـ الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي صلّى الله عليه وسلّم، في أمة كان غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين».

وهنا وقفات:

الأولى: هل وجه التفريق بين هذين المصطلحين صحيحٌ؟

إن الذي دعا إلى هذا التفريق أمر خارجٌ عن حدِّ التفسير، مما يعطيك أنَّ هذه البحوث التي تراعي هذا التفريق ـ إن وجدت هذه المراعاة ـ لا تخرج مخرجًا صحيحًا من باب تفسير القرآن، بل هي دخيلة عليه.

فمن الذي اشترط مقام التحدي في الإعجاز العلمي دون التفسير العلمي؟!

إنَّ ذلك تحكُّمٌ، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ، كما أنه من باب لزوم ما لا يلزم؛ إذ المفسر للقرآن لا ينظر إلى هذا الفرق المذكور، ولا ينتظر ثبوت تلك النظرية ثبوتًا يقينيًّا يوصلها إلى درجة الحقيقة التي لا مرجع عنها، فبيان كلام الله أوسع من تحجيره بهذه التحجيرات.

ولا حرج على المفسر الذي يمتلك أدوات التفسير أن يفسر القرآن بهذه النظريات، إذا كان فيها بيان لمعنى تحتمله الآية، وإن وقع في خطأ في ربط الآية بنظرية من النظريات، فهو كمن وقع في خطأ في وجه من وجوه التفسير، فما دام عالمًا فلا تثريب على طريقته العلمية، لكن لا يعني هذا قبول تفسيره بهذه النظرية التي قد يُخالف حملها على الآية، وهذا هو مهيع التفسير في تاريخه الممتد من جيل الصحابة الكرام إلى عصرنا الحاضر.

الثانية: من الذي يمكنه أن يُثبت أن ما توصل إليه العلم البشري هو الحقيقة التي لا رجعة فيها؟!

إنَّ هذه القضية من الأهمية بمكان، وإنها أول ما يجب تقريره عند الذين يبحثون في الإعجاز العلمي.

فإذا كان هناك فرضيات ونظريات وحقائق، فمن الذي يمكنه أن يُفرّق بينها؟

وما هي شروط ارتقاء الفرضيات والنظريات إلى حقائق؟

لقد فسَّر بعض المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري، بعض آيات القرآن على نظريات كانت تُعدُّ من الحقائق في وقتهم، ثمَّ تبدَّلت تلك الحقائق، وظهر أنها ليست كذلك، فهل كان سيقال لهذا آنذاك: إن هذه ليست حقيقة، بل هي نظرية؟

إن قصور العلم البشري، وطريقة وصوله إلى حقائق هذا الكون الفسيح، مما لا يخفى على الباحثين في العلم التجريبي.

وأعود فأقول: هل قضية الثقوب السود مما لا رجعة فيه عند الباحثين في الفلك؟ هل يمكن الجزم بذلك، بحيث تَصِحُّ القضية العلمية من هذه الجهة أوَّلًا؟

إنَّ الملاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي أنهم يأتون بهذه القضايا على أنها مما لا يقع فيه خلاف، وأنها محسومة لا يمكن أن يُرجع عنها، ونحن غير المتخصصين ـكما قلت سابقًاـ لا يمكن الواحد منَّا رفض هذا أو ذاك، فلسنا ممن يمتلك أدوات الرفض، بل ترانا على القبول والتسليم ثقةً بمن نقل لنا تلك العلوم، ونراه قد فهمها فهمًا سليمًا.

وسآخذ هذا في جانب (اللغة والسياق وتفسير السابقين للآية) في وقفات:

الوقفة الأولى: هل ما ذهب إليه من تفسير الخنوس والكنوس صحيح؟

إنَّ مادة خنس كما أشار في نقله من ابن فارس تدلُّ على الاختفاء، لكن من أين جاء بدلالة الاختفاء الكامل، كما سبق ملاحظة ذلك، فهذا القيد ليس من جهة اللغة قطعًا.

أما مادة كنس ففيها المعنيان اللغويان اللذان ذكرهما، وهما: الكنس؛ بمعنى إزالة شيء عن شيء، والكنوس، وهو الدخول في البيت، وقد اختار الأول بسبب تلك القضية الفلكية التي سيطرت عليه، وزاد الأمر أن جعل مادة (الكُنَّس) صيغة منتهى الجموع، فقال: «وعندي أن الكُنَّس هي صيغة منتهى الجموع للفظة كانس؛ أي: قائم بعملية الكنس وجمعها (كانسون)، أو (كَنَّاس) وجمعها (كَنَّاسون)، والكانس والكَنَّاس هو الذي يقوم بعملية الكنس؛ أي: سفر شيء عن وجه شيء آخر وإزالته».

ولست أدري من أين جاء بصيغة منتهى الجموع هذه؟! وهو قد اشترط «حسن فهم نص القرآن الكريم وفق دلالة الألفاظ في اللغة العربية، ووفق قواعد تلك اللغة العربية، وأساليب التعبير فيها، وذلك لأن القرآن الكريم قد أنزل بلسان عربي مبين».

فها هو لسان العرب، فأين وجد صيغة منتهى الجموع، وإنما ظهرت له ـ فيما يبدوـ من أجل أنه يقول بأنها تلك النجوم التي تكنس صفحة السماء، فلا تُبقي شيئًا خلفها، فكأنه أخذ من هذا المعنى صيغة منتهى الجموع، وهذا مأخذ غير لغوي، والله أعلم.

الوقفة الثانية: النظر في السياق: أليس في السياق ما يشير إلى النجوم بعمومها؟ فهي التي تتصف بالخنوس؛ أي: التأخر عند ظهورها في أول الليل بسبب اختفائها في ضوء النهار، ثم هي دائمة الجريان في فلكها، ثمَّ هي تكنس في آخر الليل؛ أي: تدخل في كناسها، وهو ضوء النهار المشرق، فهذه النجوم تتناسب مع الآيات الكونية المرئية للناس أجمعين، وهي ما جاء في الآيات بعدها: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ *وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:17-18]، بخلاف تلك النجوم الشافطة التي لا يراها إلا أقلُّ الناس، بل أندرُهم، والقَسَمُ في غالب القرآن يأتي بشيء ظاهر للناس، أو بشيء له أثر ظاهر، أو بشيءٍ قد عُلم من طريق السمع؛ كالملائكة.

الوقفة الثالثة: تفسير السلف لهذه الآيات:

لقد ذهب السلف في تفسير هذه الأوصاف إلى مذهبين:

الأول: أنها النجوم والكواكب، ويكون خنوسها بتأخرها عن الظهور أول الليل، وكنوسها بدخولها في ضوء الصباح بعد آخر الليل، وجريانها كائن في كل أحوالها.

الثاني: أنها بقر الوحش والظباء، ويكون خنوسها بتأخرها إذا رأت إنسيًّا، وكنوسها بدخولها في كِناسها؛ أي: بيتها، وجريانها في الغيطان والحقول.

ويلاحظ على هذين التفسيرين أنهما ذكرا أمرًا يعرفه من نزل عليهم الخطاب، ولا يحتاجون فيه إلى أدوات وآلات ليظهر لهم ذلك الأمر الخفي في هذه الأوصاف، وهذا الاختلاف بينهم من قبيل اختلاف التنوع، وجائزٌ أن يراد به هذا أو ذاك، وسببُ الاختلاف الاشتراكُ في الوصف بين النجم والكواكب من جهة، والبقر الوحش والظباء من جهة أخرى.

وإن كان التفسير الأول أنسب لمقام ذكر الآيات الكونية بعدها، غير أن الثاني محتمل أيضًا.

أما الأستاذ الدكتور زغلول النجار، ففهم تفسير السلف على النحو الآتي: «ولا يُعقل أن يكون المقصود في الآية الكريمة للفظ الكنس هي المنْزوية المختفية، فقد استوفى هذا المعنى باللفظ: (الخنس)، ولكن أخذ اللفظتين بنفس المعنى دفع بجمهور المفسرين إلى القول بأن معنى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15-16]: أقسم قسمًا مؤكدًا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل، وهو معنى الخنس، والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء، وبقر الوحش؛ أي: في مغاراتها، وهذا معنى الجوار الكنس».

وهذا الذي ذكره هنا هو أحد أوجه التفسير كما ترى، وهو لم ينتبه إلى الفرق الذي ذكره المفسرون بين حالة الخنوس وحالة الكنوس، فهم لم يقولوا بالتأكيد، ولا ترادف المعنى بين الخنوس والكنوس، كما فهمه هو من كلامهم.

وكلامهم واضح في التفريق بين الحالتين، فالخنوس يتحدث عن أول ظهور النجوم في الليل، والكنوس يتحدث عن آخر وقت النجوم في الليل عند دخولها في ضوء الصباح، فالحديث إذن عن مرحلتين مختلفتين، وليس عن مرحلة واحدة، فيكون من باب التأكيد، كما فهمه الأستاذ الدكتور زغلول من كلامهم، وكلامهم واضح وضوحًا لا لبس فيه، فقد نقل قول القرطبي (ت:661هـ) الآتي: «هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها؛ أي: تستتر كما تكنس الظباء في المغارة، وهو الكِناس».

الوقفة الرابعة: هل هناك تفسير معاصر معتمد على العلم التجريبي، غير ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور زغلول؟

لقد ذكر الأستاذ الدكتور تفسيرًا آخر معتمدًا على ظاهرة فلكية أخرى، وأنَّ الوصف في الآية للمذنبات، وهي أجرام سماوية ضئيلة الكتلة، وتتحرك في مدارات بيضاوية حول الشمس، وهي تُرى كلما اقتربت من الشمس، وهي تظهر وتختفي بصورة دورية على فترات تطول وتقصر، ثمَّ ذكر بعد ذلك كيفية تَكوُّن هذه الظاهرة الفلكية، ومم تَتَكَوَّن، ثمَّ قال: «ووجه الشبه الذي استند إليه هذا النفر من الفلكيين المسلمين المعاصرين بين المذنبات والوصف القرآني (الخنس الجوار الكنس) هو أن المذنَّب يقضي فترة تتراوح بين عدة أيام وعدة شهور مجاورًا للشمس في زيارة خاطفة، فيظهر لنا بوضوح وجلاء، ولكنه يقضي معظم وقته فترة دورانه بعيدًا عن الشمس، فيختفي عنا تمامًا ويستتر، فإذا ما اقترب من الشمس ظهر لنا وبان، ولكن سرعان ما يقفل راجعًا حتى يختفي تمامًا عن الأنظار، واعتبروا ذلك هو الخنوس. ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء».

وإذا تأملت هذا الردَّ الذي ذكره رأيت أنه ردٌّ مجملٌ غيرُ قويٍّ، ولا هو مقنعٌ، وهو مبني على فهم خاصٍّ لمعنى الخنوس ـكما سبق بيانه ـ، وليس لمعنى الخنوس في اللغة، وإذا كان ذلك كذلك، فما المانع ـ عنده ـ من وصف هذه المذنبات بالخنوس والكنوس؟!

ما الذي يجعل هذه المذنبات لا تدخل في معنى الخنوس والكنوس ما دامت تتصف بهذين الوصفين، وما دام الأمر يرجع إلى تقرير قضية فلكية مبهرة، ثمَّ إلى ربطها بالقرآن؟! أي فرق بين ما ذهب إليه هؤلاء الفلكيون، وما ذهب إليه هو من جهة الاعتماد على العلم الفلكي، وطريق الاحتجاج به في تفسير الآية؟!

فيما يظهر لي أنه لا فرق بينهم في هذا، وإذا كان ذلك كذلك، فمن ذا الذي يمكنه الفصل بالصواب بين الفريقين؟

فمن ذهب في تفسير الأوصاف إلى المذنبات، أظهر احتجاجه في معنى وصفها بالخنوس والكنوس، ومن ذهب في تفسيرها إلى الثقوب السود أظهر احتجاجه في وصفها بالخنوس والكنوس، فمن المرجع هنا؟

إن علم الفلك ليس هو المرجع بلا ريب، فهو عندهم صحيح في هاتين القضيتين، فالمذنبات حقيقة فلكية مبهرة، والثقوب السود حقيقة فلكية مبهرة، وما دام الأمر كذلك من جهة علم الفلك، وهو أنه يُصحِّح تلك الحقيقتين ولا يرفضهما، صار الأمر إلى شيء آخر، وهو صحة انطباق الأوصاف على القضيتين الفلكيتين، وبالرجوع إلى المعاني فإنه يجوز فيهما معنى الخنوس والكنوس، على تجوز في معنى الكنوس الذي ذهب إليه الأستاذ الدكتور زغلول، فصار الأمر يحتاج إلى نظر آخر لمعرفة صحة إرادة هاتين القضيتين، أو إحداهما، وليس هناك ما يُرجِّح إحداهما على الأخرى، والمفسر الذي يمتلك أدوات التفسير، هو الأقدر على الترجيح في هذه الأمور، وليس الفلكي. اهـ.

والله أعلم.