عنوان الفتوى : ضوابط الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
ما هي ضوابط الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ومتى لا يصح أن يتعدى آراء السلف وأقوال المفسرين؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلعل أوضح ما وجدناه في ذلك، هو محاضرة الشيخ عبد الله بن بيه، فقد تكلم على هذه الضوابط، وذكر أنه لا تجوز مخالفة نصوص الوحيين، ولغة العرب، وتجوز مخالفة السلف فيما اعتمدوا فيه المجاز، وكان الإعجاز العلمي تعضده الحقيقة اللغوية.
وهذا هو نص محاضرته عن الإعجاز: القرآن المجيد هو المعجزة التي تخاطب أجيال البشرية المتعاقبة؛ لتهديها إلى البارئ جل وعلا، وإلى سبيل النجاة، والخلود في دار المقامة والكرامة ولتعريف الإنسان على حكمة خلقه.
وكل جيل سيجد في كتاب الله من البينات، ما يقيم عليه الحجة (ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة) ومعنى ذلك أن باب التفسير سيظل مفتوحاً أمام الأجيال في نطاق احترام ثوابت التفسير وهي :
1- المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2- المأثور عن أصحابه عليهم رضوان الله.
3- مقتضيات اللغة العربية. فإذا احترمت هذه الثوابت، فلا حرج -إن شاء الله- على المفسر، ولعله لا يدخل تحت طائلة الوعيد في الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي عنه عليه الصلاة والسلام: ( من تكلم في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ ). وقول الصديق -رضي الله عنه- وقد سئل عن الأب فقال: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في القرآن برأيي؟).
فكل الأدلة تشير إلى أن شخصاً قد يفتح له بفهم في كتاب الله، لم يكن معروفاً لغيره. وهذا ما يشير إليه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل )، واتفق العلماء على أنه تأويل القرآن، وقول أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه، وأرضاه- لما قال له أبو حنيفة: هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله؟ فقال: (لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ).
فهذا الفهم هو الذي نعتمد عليه في تعاملنا مع القرآن بالعلوم.
وقد قال الفخر الرازي: (إن المتقدمين إذا ذكروا وجهاً في تفسير الآية، فذلك لا يمنع المتأخرين من استنباط وجه آخر في تفسيرها )
هذا في التفسير بما لم يؤثر عن السلف بصفة خاصة، أما فيما يتعلق بالتفسير العلمي، فقد اختلفت أنظار العلماء، ولعل أقرب ذلك إلى الصواب. وأولاه بالإتباع ما قاله في التحرير والتنوير، حيث يقول ابن عاشور: (.. وإن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقاً بتفسير آي القرآن ….. وكذا قوله تعالى: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة، فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة، وبين أسرارها، وعللها، بما هو مبين علم الهيئة، كان قد زاد للمقصد خدمة.
وأما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني، وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع، وأما على وجه الاسترواح من الآية، كما يؤخذ من قوله تعالى: ( ويوم نسير الجبال ) أن فناء الأرض بالزلازل، ومن قوله تعالى: (إذا الشمس كورت ) .. الآية. أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم ) ...
أما الإعجاز العلمي: فهو إعجاز خبري بدون شك، ولكن وسيلة كشفه هي العلوم المعاصرة. ومعنى ذلك أن مستقر النبأ يجيء عن طريق العلوم العصرية ( لكل نبأٍ مستقر) مستقره يوم اكتشافه، وهو أمر لا ينافي نصوص الشريعة، ولا مقاصدها.
والإعجاز العلمي مركب من لفظين أولهما: الإعجاز، وهو السبق، والفوت، وهو أيضاً جعل الآخر عاجزاً.
وثانيهما: العلم، وهو كما يقول الأصفهاني: (إدراك الشيء على حقيقته. وذلك ضربان، أحدهما: إدراك ذات الشيء.
والثاني: الحكم على الشيء بوجود شيء، هو موجود به، أو نفي شيء، هو منفي عنه).
والعلم هنا المراد به ما كشفته العلوم التجريبية من حقائق كونية، بحقائق مقررة في القرآن الكريم، أو السنة النبوية، ووجه الإعجاز يتركب من ثلاثة عناصر: عنصر الزمان، والرسول الأمي صلى الله عليه وسلم، والكشف العلمي المتأخر، وذلك أنه يستحيل عادة في ذلك الزمان، أي زمان الوحي إدراك هذه الحقيقة بالوسائل البشرية المتاحة، ويستحيل في كل زمان أن يدركها رجل أمي صلى الله عليه وسلم، لم يتعاط وسائل العلوم، ومقدماتها الضرورية في كل زمان للوصول إلى نتائج معينة.
أما العنصر الثالث فهو الاكتشاف المتأخر لهذه الحقيقة. ولكن يجب أن يضبط ذلك بضوابط من شأنها أن تحدد الإطار الشرعي للتعامل مع هذا الموضوع، حتى لا تتفرق السبل، ويتنكب عن الجادة، ويصبح موضوع الإعجاز فوضى لا توصف بالخطأ الاجتهادي، بل يجب أن توصم بالخطر الذي يصل إلى الافتراء، والقول في كتاب الله بلا علم، والوقوع تحت طائلة الوعيد: (من قال في كتاب الله بغير علم فهو مخطئ ولو كان مصيباً ) .
-الضابط الأول: أن يكون معنى اللفظ الوارد في الكتاب، والسنة والذي يقصد مطابقته للحقيقة العلمية، مفسراً بتفسير نبوي عنه عليه الصلاة والسلام، أو مفسراً من قبل صحابي كتفسير ابن عباس -رضي الله عنه- (للرتق ) في قوله تعالى: ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ) بكونها ملتصقتين. فقد قال ابن عباس، والحسن، وعطاء، والضحاك، وقتادة: يعني أنها كانت شيئاً واحداً ملتزقتين) القرطبي .
-والكيفية التي كان عليها الجسم المرتوق قبل الفتق، غير معروفة على سبيل التأكيد، إلا أن بعض قصص التراث، تروي شيئاً قد لا يكون بعيدا عما تصوره القائلون بنظرية الانفجار الكبير، التي ترى أن جسيما متناهيا في الصغر من الطاقة الخالصة، ذا كثافة، وحرارة هائلة، انفجرت، فتناثرت أجزاؤه في شتى الاتجاهات في شكل سحب)
وقد عاد العلماء إلى هذه النظرية، استناداً إلى معلومات القمر الصناعي الأمريكي في أبريل 1992 م، ....
- الضابط الثاني: في غياب تفسير نبوي، أو تفسير صحابي؛ فالضابط أن يكون التفسير بمقتضيات اللغة العربية، بأن يكون إطلاق اللفظ على المعنى من قبيل الحقيقة (وهي استعمال اللفظ فيما وضعت له العرب وضعاً ) ويتصور ذلك في مرتبتين:
مرتبة (المفسر ) عند الأحناف، وهو النص عند الجمهور؛ لأنه لفظ لا يدل على معنى واحد لا يقبل التأويل.
مرتبة الظاهر: لفظ احتمل أكثر من معنى، إلا أنه أظهر في أحد معانيه، أن يكون اللفظ حقيقة عرفية، أو شرعية. إذا لم يكن اللفظ نصاً، ولا ظاهراً حقيقة بأي معنى من المعاني، فإن عدل عن الحقيقة إلى المجاز، وعن الظاهر إلى المعنى المرجوح، فإن الأمر سيكون من قبيل التأويل الذي يجب أن ينضبط بضوابط التأويل التي تقتضي وجود قرينة من نص آخر، أو قياس مع احتمال اللفظ للمعنى المرجوح احتمالاً لغوياً لا غبار عليه، وقد تكون الحقيقة العلمية إذا كانت أكيدة فـ (خضراً ) في قوله تعالى: ( فأخرجنا منه خضراً ) هو الشيء الأخضر. هذا ظاهره، إلا أن حمله على اليخضور بالمصطلح العلمي، أمر سهل لاحتمال اللفظ احتمالاً لا غبار عليه، وتأكيد الحقيقة العلمية. إلا أن الشيء الذي يجب الانتباه إليه أن التفسير العلمي، قد يكون موافقاً للحقيقة الوضعية، لكنه يقابل مجازاً درج المفسرون عليه؛ مما يقتضي من الباحث التقصي عن عدم وجود تفسير نبوي، ولا صحابي، فإن اطمأن إلى ذلك، أمكن حمل اللفظ على حقيقته الوضعية؛ وبالتالي الالتقاء بين الحقيقة العلمية، والحقيقة القرآنية كما في آية: ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) إذا صحت الحقيقة التي وصل العالمان الأمريكيان فولر، وزميله في الحديد. فيكون الإنزال على حقيقته، يوضح ذلك حديث: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد، والنار، والماء، والملح) عن القرطبي في تفسيره.
وقد فسر أكثر المفسرين (الإنزال) بأنه استعارة لخلق معدن الحديد، كما هي عبارة صاحب التحرير والتنوير.
هذه هي الضوابط التي يجب على كل باحث أن يضعها في حسابه، وهو يحاول أن يتعامل مع الإعجاز العلمي في القرآن. ومع هذا فلا حجر في التعامل مع الإشارات القرآنية، والحديثية بشرط عدم الإخلال بالنص، وعدم الخروج عليه. فمن القواعد المقررة عند الأصوليين، أن الإشارة لا يعتد بها إذا خالفت النص، والحقيقة أن مخالفتها للنص، دليل على عدم وجود إشارة.
كما يمكن للباحثين أن يجعلوا بحوثهم تدور حول بعض القضايا العامة في خلق الكون كقانون الزوجية، الذي تكرر التصريح به في أكثر من آية في الإنسان، والأنعام: ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) سورة الشورى –11-
كذلك فإن الزوجية وردت في النبات: ( وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) سورة ق – 7 . إلا أن الزوجية جاءت في صيغة العموم، والشمول في خلق الكون: ( والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون*والأرض فرشناها فنعم الماهدون* ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون*ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين*ولا تجعلوا مع الله إلهاً ءاخر إني لكم منه نذير مبين ) الذاريات 47 –50 .
إن الزوجية من خصائص المخلوقات، ودليل الاحتياج والافتقار، والوحدانية، والفردانية من خصوصيات الخالق، وذلك ما يشير إليه التقابل في سورة الشورى، والذاريات. اهـ.
هذه المحاضرة موجودة على موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن، والسنة.
والله أعلم.