أرشيف المقالات

مصالحة مع القرآن

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
مصالحة مع القرآن
 
ليس هناك خسارة أكبر من خسارة البعد عن القرآن، ولا توجد هناك معاناة مثل التي يعانيها مَن هجر القرآن، كم من مسلم مصحفه موضوع على رفِّ مكتبته، لا يفتحه إلا مرة في السنة في شهر رمضان، يفتحه على أمل أن يحاول ختمه مرة، ويعتبر نفسه بطلًا لو أتمها، والبعض لا يتم ولو ختمة واحدة، كما نجد بعض الأبطال الذين يختمون تلاوته مرة واثنتين وثلاثًا، فإذا ما انتهى شهر رمضان أعادوا مصاحفهم للرف مرة أخرى.
 
نرى كثيرًا من الناس وهي مهمومة حزينة، ولو سألناهم لعرفنا أن أغلبهم هاجِرٌ للقرآن، فكيف يشعرون بطعم الراحة وهو بعيدون عن القرآن؟! لا يعرفون أن لقراءة القران لذة لا يقدر أحد على وصفها، لم يدركوا أن السعادة والراحة في صحبة القرآن؛ كان الحسن رضي الله عنه يقول: "من أراد أن يكلِّم الله فليصلِّ، من أراد أن يكلِّمه الله فليقرأ القرآن"، هل ندرك معنى أن ربنا سبحانه وتعالى يكلمنا؟!
 
لو كنت محتارًا ولا تدري أين طريق الصواب، فالقرآن سيدلك عليه: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، لو كنت فقيرًا أو مريضًا أو سجينًا أو حزينًا أو مكتئبًا، فهو ينقلك إلى عالم أفضل وأجمل، ويصلك بالله العظيم صاحب الفضل والجود والإنعام والكرم، الذي يُغيِّر ولا يتغيَّر، كل ما يخطر ببالك ستجده في القرآن، فهو دستور حياتك، وكما أنه لا يوجد آلة تعمل بشكل صحيح بدون كتيب التعليمات، لن تستقيم حياة إنسان بدون دستور ومنهج يسير عليه.
 
هل تعرفون كم ضيَّعنا على أنفسنا بهجرنا للقرآن؟ لقد ضيعنا فرصة أن يشفع القرآن لنا يوم القيامة، وإذا كان كل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، فكم من حسنة ضيعناها بهجرنا للقرآن؟ وخير هذه الأمة من تعلم القرآن وعلمه، وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، والماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، وغيرها كثير، وكلها واردة في أحاديث صحيحة، بل هو دليل على أنك تحب الله ورسوله؛ كما في الحديث الذي حسنه الألباني: ((منْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ))، وفي المقابل فإن هاجر القرآن، معيشته ضنك في الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى.
 
وهجر القرآن له أنواع كثيرة، فهجر القرآن ليس معناه هجر قراءته فقط، لكن هجر سماعه وتدبره والعمل به، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه والتحاكم إليه، ولنا هنا وقفة مع هجر حفظه، كم عدد الأغاني التي نحفظها؟ وفي المقابل كم نحفظ من آيات كتاب الله؟ البعض منا لا يحفظ غير قصار السور، لكنه يحفظ ألبومات المغنيين كاملة، وبعد ذلك يطلب راحة النفس واطمئنان القلب، هذا إنسان يضحك على نفسه!
 
رمضان شهر القرآن، وإذا لم نقرأ كتاب الله في شهر رمضان الذي هو شهر القرآن، فمتى سنقرأ؟ لكن رمضان هو البداية، فلنعقد العزم على أن يكون لدينا ورد ثابت من القرآن يوميًّا وإن قل، يحتاج قراءة جزء - في المتوسط - إلى نصف ساعة، ساعات طويلة نقضيها أمام الواتس آب والفيسبوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك لا نستطيع أن نوفر من وقتنا كل يوم نصف أو حتى ربع ساعة نختلي فيها مع القرآن! نصف ساعة مع القرآن نعيش بسببها طوال اليوم في سعادة وراحة!
 
لكن ليس المطلوب أن نقرأ بأعيننا، ولكننا نحتاج إلى نتدبر، نحتاج أن نتغير، نحتاج أن ننفذ الأمر ونتجنب النهي، نحتاج أن تنعكس كل آية على أخلاقنا ومعاملاتنا، لقد استقبل الصحابة رضوان الله عليهم القرآن استقبالًا صحيحًا، وفهموا المقصد الأساسي من نزوله، فتلوَّنت حياتهم به، وقطف الإسلام أطيب الثمار بظهور هذا الجيل الفريد الذي لم تشهده البشرية؛ عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار"، وقال عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن..."، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كنا نحفظ العشر آيات فلا ننتقل إلى ما بعدها حتى نعمل بهن"، وروي عنه أنه حفظ سورة البقرة في تسع سنين، ولم يكن ذلك بسبب الانشغال عن الحفظ أو رداءة الفهم، حاشاه رضي الله عنه، ولكن بسبب التدقيق والتطبيق؛ وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إنَّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإنَّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به".
 
نحتاج إلى مصالحة مع كتاب الله، ولنجعل القرآن الكريم هو أنيسنا وجليسنا، ففيه السعادة والراحة الحقيقية.

 
التطبيق العملي:
• القراءة عن القرآن وتدبره، وأنصحك بكتاب أول مرة أتدبر القرآن لـ"عادل محمد خليل".

• تحديد ورد يومي لقراءة القرآن ولو كان قليلًا، المهم أن يكون دائمًا.
• حفظ خمس سطور على الأقل يوميًّا من القرآن الكريم، وقراءة تفسيرها من كتاب تفسير مبسط مثل التفسير الميسر.
 

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢