أرشيف المقالات

المال بين الحكمة الربانية والنفس البشرية

مدة قراءة المادة : 33 دقائق .
المال بين الحكمة الربانية والنفس البشرية
 
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه.
 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
 
أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد:
فيا إخوة الإسلام، نقف مع المال الذي هو عصبُ الحياة، والمالُ هو كل ما يُتمول، ويدخل فيه الذهبُ والفِضة والجواهر، وكذلك الأطيان والعقارات والتجارات، وكذا العُملات المتداوَلة بين الأمم والشعوب، وسنتعرف على الحكمة الربانية التي مِن أجلها أنزل الله تعالى المالَ، وعن مسؤولية المرء عن مالِه، وعن طبيعة النفس البشرية مع المال.
 
العنصر الأول: الحكمة من إنزال الله تعالى للمال:
اعلَم - علَّمني الله تعالى وإياك، وزادني الله وإياك علمًا - أن الله تعالى أنزل المالَ لغايةٍ سامية، تسمو عن الغايةِ التي من أجلها يتكالبُ البشر على المال، إن الغاية مِن إنزاله أوضَحَها الله تعالى لنا في الحديث القُدسيِّ، فتأمَّلوا - عبادَ الله - في ذلك الحديث:
عن أبي واقد الليثيِّ قال: كنا نأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه، فيحدِّثنا، فقال لنا ذات يوم: ((إن الله عز وجل قال: إنَّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم وادٍ لأحَبَّ أن يكون إليه ثانٍ، ولو كان له واديانِ لأحبَّ أن يكون إليهما ثالثٌ، ولا يملأُ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ثم يتوب الله على مَن تاب))[1].
 
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
"فأخبر سبحانه أنه أنزَل المال ليُستَعان به على إقامةِ حقِّه بالصلاة، وإقامة حق عباده بالزكاة، لا للاستمتاع والتلذُّذ كما تأكل الأنعام، فإذا زاد المال على ذلك، أو خرج عن هذين المقصودين، فات الغرضُ والحكمة التي أُنزل لها، وكان الترابُ أولى به، فرجع هو والجوف الذي امتلأ بمحبتِه وجمعِه إلى التراب الذي هو أصله، فلم ينتفع صاحبُه به، ولا انتفع الجوفُ الذي امتلأ به بما خُلق له من الإيمان والعلم والحكمة؛ فإنه خُلق لأَنْ يكون وعاءً لمعرفة ربه وخالقه، والإيمان به ومحبته وذِكره، وأنزل عليه مِن المال ما يَستعينُ به على ذلك، فعطَّل الجاهلُ بالله وبأمر الله وبتوحيد الله وبأسمائه وصفاته جوفَه عمَّا خُلِق له، وملأه بمحبة المال الفاني الذاهب، الذي هو ذاهبٌ عن صاحبه أو بالعكس، وجمعه والاستكثار منه، ومع ذلك فلم يمتلِئْ، بل ازداد فقرًا وحرصًا إلى أن امتلأ جوفُه بالتراب الذي خُلق منه، فرجع إلى مادته الترابية التي خُلق منها هو وماله، ولم تتكمَّل مادته بامتلاءِ جوفه من العلم والإيمان، الذي بهما كمالُه وفَلاحه وسعادته في معاشه ومعاده، فالمال إن لم ينفَعْ صاحبَه، ضرَّه ولا بد، وكذلك العلم والملك والقدرة، كل ذلك إن لم ينفَعْه ضرَّه، فإن هذه الأمور وسائلُ لمقاصدَ يُتوسَّل بها إليها في الخير والشر، فإن عُطِّلت عن التوسل بها إلى المقاصد والغايات المحمودة، تُوسِّل بها إلى أضدادها؛ فأربحُ الناسِ مَن جعلها وسائل إلى الله والدار الآخرة، وذلك الذي ينفعه في معاشه ومعاده، وأخسرُ الناس مَن توسَّل بها إلى هواه ونَيْل شهواته وأغراضه العاجلة، فخسِر الدنيا والآخرة، فهذا لم يجعَلِ الوسائلَ مقاصدَ، ولو جعلها كذلك لكان خاسرًا، لكنه جعلها وسائل إلى ضد ما جُعِلت له، فهو بمثابة مَن توسَّل بأسباب اللذَّة إلى أعظم الآلام وأدومها"[2].
 
فأين الذين شغَلهم المال عن عبادة الكبير المتعال؟
أين الذين كان ولاؤهم وبراؤهم، وحبُّهم وبغضهم من أجل المال؟
أين الذين أنساهم المالُ اللهَ تعالى، فأنساهم الله تعالى أنفسَهم فلم ينتبهوا إلا وهم في معسكرِ الأموات؟
الغاية واضحة، هي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إنها حكمة الحكيم جل في علاه.
 
العنصر الثاني: المال في القرآن:
اعلَمْ - علَّمني الله وإياك - أن الله سبحانه وتعالى ذكَرَ المال في القرآن الكريم تارةً في مقام المدح، وتارة في مقام الذم.
 
ذكره في مقام المدح:
• سمَّاه الله تعالى حسنةً، فقال سبحانه: ﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأعراف: 95].
 
• وسماه الله تعالى رحمةً، فقال: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ [فصلت: 50].
 
• وسمَّاه نعمةً: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ﴾ [الإسراء: 83].
 
• وسماه زينة: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].
 
• وسماه خيرًا، فقال سبحانه: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8].
 
المال في مقام الذم:
• سماه الله تعالى فتنةً، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 28].
وسماه عدوًّا، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14].
 
العنصر الثالث: النفس البشرية وحب المال:
اعلَم - بارك الله فيك - أن النَّفْس البشرية جُبِلَت على حب المال، قال تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]، وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو كان لابنِ آدمَ واديانِ من مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يملأُ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ))[3].
 
قال الطيبي: "يمكن أن يكون معناه: أن بني آدم مجبُولونَ على حب المال والسعي في طلبه، وألا يشبَعَ منه إلا مَن عصمه الله ووفَّقه لإزالة هذه الجبلَّة عن نفسه، وقليلٌ ما هم، فوضع قولَه: ((ويتوبُ الله على مَن تاب)) موضعَه؛ إشعارًا بأن هذه الجبلَّة المركوزةَ مذمومةٌ جاريةٌ مجرَى الذنب، وأن إزالتها ممكنة بتوفيق الله وتسديده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]"[4].
 
﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [الإسراء: 100]، فهذا يدلُّ على أن حرصَ ابنِ آدم وخوفَه من الفقر الباعثَ له على البخلِ حتى على نفسه - أقوى من الطير الذي يموتُ عطشًا على ساحل البحر خوفًا من نفادِه، ومِن الدودة التي قُوتُها التراب وتموت جوعًا خشيةً من فراغه؛ لأن ما ذكر من الماء والتراب في جنب خزائن رحمة ربِّ الأرباب كقطرة من السحاب[5].
 
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكبَرُ ابنُ آدمَ ويكبُرُ معه اثنانِ: حب المال وطول العمر))[6].
قالوا: والحكمة في التخصيص بهذينِ الأمرين أن أحبَّ الأشياء إلى ابن آدم نفسُه، فهو راغبٌ في بقائها، فأحَبَّ بذلك طول العمر، وأحبَّ المالَ؛ لأنه مِن أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبًا طولُ العمر، فكلما أحسَّ بقرب نفادِ ذلك، اشتد حبُّه له، ورغبته في دوامه[7].
 
قال الشاعر:






النفسُ تجزَعُ أن تكونَ فقيرةً
والفقرُ خيرٌ مِن غنًى يُطغِيهَا


وغنى النفوسِ هو الكفافُ، فإن أَبَتْ
فجميعُ ما في الأرضِ لا يَكْفِيهَا







العنصر الرابع: فتنة المال:
واعلَم - حفظني الله وإياك - أن المالَ أخبر عنه الكبيرُ المتعال بأنه فتنةٌ يفتن بها المرء فتصُده عن طاعة الله، أو تأمره بمعصية الله جل في علاه، ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 15].
عن عِياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وإن فتنةَ أمتي المالُ))[8].
 
قال المناوي رحمه الله: "((إن لكل أمةٍ فتنةً))؛ أي: امتحانًا واختبارًا، وقال القاضي: أراد بالفتنة الضلالَ والمعصية، ((وإن فتنةَ أمتي المالُ))؛ أي: الالتهاءُ به؛ لأنه يشغَلُ البال عن القيام بالطاعة، ويُنسِي الآخرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، وفيه أن المال فتنةٌ، وبه تمسَّك من فضَّل الفقر على الغنى، قالوا: فلو لم يكُنِ الغنى بالمال إلا أنه فتنةٌ، فقلَّ مَن سلِم مِن إصابتها له وتأثيرها في دينه، لكفى"[9].
 
المال يدعو إلى الطغيان:
أخي المسلم أختي المسلمة: المال يزرع في نفوس كثيرٍ مِن ملَّاكِه - إلا مَن رحِم اللهُ - الطغيانَ والتكبُّر والتجبُّر على خلق الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، والطغيان هو مجاوزة الحد الذي حدَّه الله تعالى.
قال الزحيلي رحمه الله: "وقيل: المراد بالآية: حقًّا إن أمر الإنسان عجيبٌ، يستذلُّ ويضعُفُ حال الفقر، ويطغى ويتجاوز الحدَّ في المعاصي ويتكبَّر ويتمرَّد حتى أحسَّ بنفسه القدرة والثروة، وأكثر المفسِّرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله"[10].
 
وتأملوا عباد الله في أثرِ المال على نفسية المرء عندما يفارقها الشكر والعرفان للملك الديَّان، وقد وردت قصة ذلك في سورة الكهف؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33]، فهذا الغنيُّ كان يمتلِكُ جنَّتينِ مُثمِرتينِ فيهما الأعنابُ والنخيل، يجري خلالهما نَهَرٌ، فأيُّ شيء أحسن من هذا؟ ثمر وخضرة وماء، فماذا كان من صاحبِ هاتين الجنَّتين؟ ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، وهكذا جعَله هذا المالُ يتعالَى على صاحبه بكثرةِ المال والولد، فكانت بداية الطريق في الإغواء التكبُّر والتعالي على الفقراء والضِّعاف، فلو كان صاحبُه ذا مالٍ وولَدٍ، لَمَا قال له هذا، بل استغلَّ فقرَه وضَعْفَ نسلِه، فتعالى عليه في هذا الشأن، ثم امتدَّ به التعالي والكبر إلى أن يدخُلَ جنتَيْه بهذه النفسية المتكبرة، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 35]، وظُلم النفس في مطاوعتها على الجحود والنكران، وفي إطلاق العنان لوساوسِها، وعدم رَدْعها وقمعِها، ثم امتدَّ به الغرورُ والكِبْر ليقول: ﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 35]؛ كأنه أخذ مِن الله عهدًا بذلك، أو أنه هو الذي نَمَّاها وجعَلها بهذا الشكل بذكائه ومقدرته، حتى اطمأنَّ إلى أنَّ هذه لن تَبِيدَ، وبهذا يكون قد نسَب ما بها من نماءٍ إلى نفسه وصُنْعه، وكأنه شابَهَ في هذا الأمر قارونَ الذي نسَب كثرةَ المال إلى عِلمه: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ﴾ [القصص: 78]، وعلى هذا يكونُ قد مشَى قُدمًا في طريق الجحود، وأن شيطانه ينقُلُه من ذنبٍ إلى ذنب أكبرَ، فقال: ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 36]، فانتقَل حالُه من الفخر بالمال والتكبُّر على صاحبه إلى الغرور بأن هذه لن تَبِيدَ أبدًا، كأنه مُنشِئُها، ثم أظهَر بعد ذلك الكفرَ والجحود، فأنكَر قيام الساعة أو أنه سينقلب إلى ربِّه بعد ذلك، فمعنى كلامِه أنه غيرُ موقِن بالحساب، ثم قال: إِنْ كان هناك آخرة، فإنه سيُعطَى خيرًا من جنتَيْه، فطالما أنه استحقَّ هاتينِ الجنَّتين في الدنيا، فإنه بالتأكيد سيَنالُ أفضلَ في الآخرة، وهذا قياسٌ باطلٌ؛ فإن اللهَ يُملِي للظالمِ في الدنيا ثم يأخُذُه، فإذا أخَذه لم يُفلِتْه؛ قال الله تعالى:﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178]، ولقد أحسَّ صاحبُه الفقير أنه قد اشتطَّ في غيِّه، وخرَج عن حدِّ الإيمان، ودخَل في الكفر، ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 37، 38]، وقال له: لكني أنا أقول: إن اللهَ ربي، ولا أشركُ بربي أحدًا، ثم إن اللهَ قد أحاط بجنَّتَيْه، فأصبحتَا خاويتينِ على عروشهما، فأخَذ يضرِبُ كفًّا بكفٍّ؛ ألَمًا وأسَفًا وحسرةً، ﴿ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42]، وهكذا فإن المالَ قد فَتَنَه وأضلَّه، فاضطرَبَ تفكيرُه فضَلَّ، فكان مالُه وبالًا عليه؛ فالمال له سَكْرةٌ في النَّفس مثل سَكْرة الخَمر أو أشد، وسَكرته تُبطِرُ الإنسانَ، وتُذهِبُ تفكيرَه في حاله ومآله.
 
• "عن يزيد بن ميسرة: أن رجلًا ممن مضى جمع مالًا وولدًا، فأوعى، ولم يَدَعْ صِنفًا من أصناف المال إلا اتَّخذه، وابتنى قصرًا، وجعل عليه بابينِ وثيقين، وجعل عليه حرسًا من غلمانِه، ثم جمع أهله، وصنع لهم طعامًا، وقعَد على سريره، ورفع إحدى رجلَيْه على الأخرى، وهم يأكلون، فلما فرغوا من طعامهم، قال: يا نفسُ، انعَمِي لسنينَ؛ قد جمعت ما يكفيك، قال: فلم يفرُغْ من كلامه حتى أقبل إليه مَلَك الموت في هيئة رجل، عليه خلقان من الثياب، في عنقه مِخْلاة، يتشبَّه بالمساكين، فقرع الباب قرعةً فأفزعه، وهو على فراشه، فوثَب إليه الغِلْمة؛ فقالوا: ما أنت؟ وما شأنُك؟ قال: ادعوا لي مولاكم، قالوا: إليك يخرج مولانا؟ قال: نعم فادعوه، قال: فأرسل إليهم مولاهم: مَن هذا الذي قرع الباب؟ فأخبَروه بهيئته؛ قال: فهلَّا فعلتم وفعلتم؟ قالوا: قد فعَلنا، ثم أقبَل أيضًا، فقرع الباب قرعة هي أشد من الأولى، قال: وهو على فراشه، قال: فوثب إليه الحرس، فقالوا: قد جئتَ أيضًا؟ قال: نعم، فادعوا لي مولاكم، وأخبِروه أني مَلَك الموت؛ قال: فلما سمِعوه، ألقي عليهم الذل والتخشع، فجاء الحرس، فأخبروا سيدهم بالذي قال لهم ملك الموت، فقال لهم سيدهم: قولوا له قولًا لينًا، وقولوا له: هل يأخذ معه أحدًا غيره؟ قال: فأتوه، فأخبروه بذلك، قال: فدخل عليه، فقال: قُمْ فاصنع في مالك ما أنت صانع، فإني لست بخارج منها حتى أُخرِج نفسك، وأحضر مالَه بين يدَيْه، فقال حين رآه: لعَنَك الله من مالٍ، فأنت شغَلْتَني عن عبادة ربي، ومنَعْتَني أن أتخلَّى لربي، فأنطق الله المال، فقال: لمَ سبَبْتَني، وقد كنتَ وضيعًا في أعينِ الناس، فرفعتُك لِما يُرَى عليك من أثري، وكنتَ تحضر سُدَد الملوك فتدخل، ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة، فتُنكَح، ويخطب عباد الله الصالحون، فلا يُنكَحون؟ ألم تكن تُنفِقني في سُبُل الخبث ولا أتعاصى، ولو أنفَقْتَني في سبيل الله لم أتعاصَ عليك؟ فأنت ألوم فيه مني؛ إنما خلقت أنا، وأنتم يا بني آدم مِن تراب، فمنطلقٌ بإثم، ومنطلق ببرٍّ، فهكذا يقول المال، فاحذروا، وقبض ملك الموت روحه، فمات"[11].
 
العنصر الخامس: صورٌ مِن جشع وطمع النفس البشرية:
اعلم - بارك الله فيك - أن المال وحبه رأسُ كلِّ شر وعداوة وبغضاء؛ لذا بكى عمر رضي الله عنه لَمَّا فُتِح عليه كنوز كسرى وقيصر؛ مخافةَ الفُرقة والاختلاف، والعداوة والبغضاء!
عن المِسْوَر بن مَخْرَمةَ قال: قُدِم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمالٍ في ولايته، فجعَل يتصفَّحه وينظر إليه، فهملت عيناه دموعًا فبكى، فقال له عبدالرحمن بن عوف: ما يُبْكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لمن مواطنِ الشكر، فقال عمر: إن هذا المال والله ما أُعطيه قومٌ إلا أُلقي بينهم العداوة والبغضاء[12].
 
الصورة الأولى: الطمع وعدم الرضا بالقليل:
أول تلك الصورِ الطمعُ الذي يُفسِد على المرء دينَه ودنياه وأخراه، فالناظر إلى ما تعيشه البشرية في الحقبة الأخيرة من حروبٍ طاحنة، وظلم واستبداد، يرى الطمعَ هو الذي يجعل الدول يقتلُ بعضها بعضًا من أجل الاستيلاء على ثروات ومدَّخرات الأمم.
عن كعب بن مالك الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبانِ أُرسِلا في غنم بأفسدَ لها مِن حرص المرء على المال والشرف - لدينه))[13].
 
قال المناوي: (فمقصودُ الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفسادًا للدِّين من إفساد الذئبينِ للغنم؛ لأن ذلك الأشر والبَطَر يستفزُّ صاحبه ويأخُذُ به إلى ما يضرُّه، وذلك مذمومٌ؛ لاستدعائه العلوَّ في الأرض والفساد المذمومينِ شرعًا)[14].
عن حَكِيم بن حِزام رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيمُ، إن هذا المالَ خَضِرةٌ حلوةٌ، فمَن أخَذه بطِيب نفسٍ بُورِك له فيه، ومَن أخَذه بإشرافِ نفسٍ لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكلُ ولا يشبَعُ، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى))[15].
 
الصورة الثانية: الربا:
ومِن صُوَر تعاملات النفس الخبيثة التعامُلُ بالرِّبا، الذي هو انتهازٌ للفقر والحاجة لدى المحتاجين، وامتصاص أموالهم وأعمارهم، فالنفس الرِّبَوِيَّة نفسٌ دموية خبيثة؛ لذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا يسبَحُ في بحرٍ مِن دم!
 
عن سَمُرة بن جُندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى أقبل علينا بوجهه، فقال: ((هل رأى أحدٌ منكم الليلةَ رؤيا؟))؛ الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُ الليلةَ رجلينِ أَتَيَاني فأخَذا بيدي، فأخرَجاني إلى أرض مستوية أو فضاء))؛ الحديث، وقال فيه: ((فانطلَقْنا حتى انتهَيْنا إلى نهرٍ مِن دمٍ، فيه رجال قيام، ورجل قائم على شط النهر، بين يديه حجارة، فيقبل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرُجَ منه، رماه الرجل بحجرٍ في فِيهِ، فردَّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرجَ رماه في فيه بحجرٍ فردَّه حيث كان، فقلتُ لهما: ما هذا؟ فقالا: الذي رأيته في النهر آكلُ الربا))[16]، وهذا إشارةٌ إلى ما يقع فيه من الطمع، كلما أراد الخروج منه طمِع، فرجَع لحبِّ المال.
 
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]، وربما سمى الناس الربا بغير اسمه؛ كأن يقال: "الفائدة"، و"الفوائد"، أو "أذون الخزانة"، أو غير ذلك! وهذا كله لا يُخرِجُه عن كونه محرَّمًا، وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن صنوفِ أهل آخِرِ الزمان بأنهم يأكلون الربا ويسمُّونه بغير اسمه، ويشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها.
وما نُشاهِده اليوم من الفقر والفاقة إنما هو بسببِ محق البركة الناتج عن التعامل بالربا، والله تعالى قد قال: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، بل إن الرِّبا أبلغ من كثير من الفواحش، ولكن الناس قلَّ أن يلتَفِتوا لذلك!
 
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتَنِبُوا السبعَ المُوبِقات))، قيل: يا رسولَ الله، وما هُنَّ؟ قال: ((الشركُ بالله، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفْس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الرِّبا، والتولِّي يوم الزحف، وقذفُ المُحصَنات الغافلات المؤمنات))[17].
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((درهمُ ربا أشدُّ على الله مِن ستٍّ وثلاثين زنيةً))، وقال: ((مَن نبَت لحمُه مِن السُّحتِ، فالنار أَولى به))[18].
 
الصورة الثالثة: الغش والخداع:
واعلم أن مِن صور الجشعِ والطمعِ النفسيِّ: الغشَّ، والخداعَ، وإخفاء العيوب، وتغيير تاريخ الصلاحية، ونسبة المنتَج إلى غير مُنتجِه، وغير ذلك من صورٍ تُسوِّل للإنسان نفسُه بها، وخاصة في ظل غياب الرقابة على المواصفات والمقاييس والمصانع والسلع ونحوها، وهذا كثير وكثير!
 
عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ في السوق على صُبْرَةِ طعامٍ، فأَدْخَلَ يدَه فيها، فنالتْ أَصابعُه بَلَلًا، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟))، قال: يا رسول الله، أَصابَتْه السماء، قال: ((أَفلا جعلتَه فوقَ الطعام حتى يراهُ الناسُ؟!))، وقال: ((مَن غَشَّنا فليس منا))[19].
 
الصورة الرابعة: الرشوة:
وهذا قد انتشر في شتى المصالح والدوائر - إلا مَن رحم ربك - وسمَّوها بغير اسمها، فهذا يقول: عمولة، وآخر يقول: دخانه، وثالث يقول: قهوته، وأصبحت المصالحُ لا تُقضَى إلا بها، وهذا من كبائر الذنوب التي لا يبالي بها كثيرٌ من أبناء الأمة!
عن عبدالله بن عمرو، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لعَن الله الراشي والمرتشي))[20].
 
قال الذهبي: "فيه أن الرشوة كبيرةٌ، قال: والناس في القضاء على مراتب في الجودة والرداءة، والقاضي مكشوف للناس لا يمكنه التستر، والناس شهداء الله في أرضه، فمَن ارتشى منهم وجار وتضرر به الخلق، فقد رأيناه جهارًا"[21].
 
الصورة الخامسة: التعدي على المالِ العامِّ:
ومِن أخطر صور الجشع والطمعِ التعدِّي على المالِ العامِّ بالسرقة، أو النهب، أو الاختلاس، أو التفريط.
ولقد رأينا مَن يتخوضون في مالِ الله ويُضيِّعونه، فرأينا مَن يسرق المليارات ويهربونها إلى خارج البلاد، ويسوي أموره - كما يقولون - ويظنون أنهم بذلك قد أمَّنوا مستقبلهم، وما علِموا أن ما فعَلوه من كبائر وعظائم الذنوب، فليس لهم في الآخرة إلا الفضيحة على الملأ، يوم الفضيحة الكبرى.
 
أخرج البخاري عن خولة الأنصارية مرفوعًا: ((إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة))[22].
عن أبي حُمَيد الساعدي أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عاملًا، فجاءه العامل حين فرغ مِن عمله، فقال: يا رسول الله، هذا لكم، وهذا أُهدِي لي، فقال له: ((أفلا قعَدت في بيت أبيك وأمك، فنظرتَ أُيهدَى لك أم لا!))، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيةً بعد الصلاة، فتشهَّد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، فما بال العامل نستعمله فيأتينا، فيقول: هذا مِن عملكم، وهذا أُهدِي لي؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يُهدى له أم لا؟! فوالذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يغلُّ أحدكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمِلُه على عُنُقِه، إن كان بعيرًا جاء به له رُغاءٌ، وإن كانت بقرة جاء بها لها خُوارٌ، وإن كانت شاة جاء بها تَيْعَرُ، فقد بلَّغتُ))، فقال أبو حميد: ثم رفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه حتى إنا لننظر إلى عُفْرة إِبْطَيه[23].
 
فهم يسرقون ويُبرِّرون ذلك بأن أموال الدولة أموالٌ للشعب، وهذا أمرٌ في غايةِ الفساد والبطلان، فمالُ الدولة يُسمَّى مالًا عامًّا، وهذا يُصرَفُ في مصارف المسلمين العامَّة، ويُطعَم منه جائعُهم، ويُواسَى منه فقيرهم ومنكوبهم، وتُصرَف منه رواتب العاملين في الدولة، أما أخذُه مِن أي فرد بدون مسوِّغٍ، فهو من أكل أموال الناس بالباطل، ويكفي في احترام المال العامِّ مالِ الدولة أن سارقه يُحَدُّ، والمال العام ليس أخفَّ من المال الخاص في التحريم، بل هو أشدُّ منه حرمة؛ لأن لكل فرد من أفراد المجتمع الحقَّ فيه، بخلاف المال الخاص.
 
عن عدي بن عميرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن استعملناه منكم على عملٍ فكتَمَنا مِخْيطًا فما فوقه، كان غلولًا يأتي به يوم القيامة))، فقام إليه رجل أسْودُ من الأنصار - كأني أنظر إليه - فقال: يا رسول الله، اقبَلْ عني عمَلَك، قال: ((وما لك؟))، قال: سمعتُك تقول كذا وكذا، قال: ((وأنا أقوله الآن، مَن استعملناه على عملٍ فليجِئْ بقليله وكثيره، فما أُوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى))[24].
 
ذم تعلق القلب بالمال:
• عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: ذو الدرهمين أشد حسابًا من ذي الدرهم[25].
• وعن العلاء بن زياد رحمه الله قال: رأيتُ الناسَ في النَّوم يتبعون شيئًا فتبعتُه، فإذا عجوزٌ كبيرةٌ هتماءُ عَوراءُ، عليها من كُلِّ حِلية وزينة، فقلت: ما أنتِ؟ قالت: أنا الدنيا، فقلتُ: أسأل الله أن يُبغِّضَك إليَّ، قالت: نعم، إن أبغضتَ الدراهم[26].
• وقال الحسن البصري رحمه الله: والله لقد أدركتُ أقوامًا وإن كان أحدُهم لَيَرِثُ المال العظيم، قال: وإنه والله لمجهودٌ شديدُ الجهد، قال: فيقول لأخيه: يا أخي، إني قد علمت أنَّ ذا ميراثٌ وهو حلال، ولكني أخاف أن يُفسِد عليَّ قلبي وعملي، فهو لك لا حاجة لي فيه، قال: فلا يرزأ منه شيئًا أبدًا، قال: وهو والله مجهود شديد الجهد[27].
 
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين
وصلاةً وسلامًا على أشرف المرسلين
ورضي الله عن الصحابة والتابعين



[1] أخرجه أحمد (5/ 218، رقم 21956)، قال الهيثمي (7/ 140): رجاله رجال الصحيح، والطبراني (3/ 248، رقم 3303).


[2] عدة الصابرين (ص: 134).


[3] أخرجه أحمد (5/ 117، رقم 21148)، والضياء (3/ 411، رقم 1209).


[4] تحفة الأحوذي (6/ 519).


[5] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3299).


[6] أخرجه أحمد (3/ 115 و 275) ومسلم (3/ 99).


[7] فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 410).


[8] أخرجه أحمد (4/ 160، رقم 17506)، والترمذي (4/ 569، رقم 2336).


[9] فيض القدير (2/ 507).


[10] التفسير المنير؛ للزحيلي (30/ 318).


[11] حلية الأولياء (5/ 240، 241).


[12] موسوعة ابن أبي الدنيا 7/ 402.


[13] أخرجه أحمد (3/ 456، رقم 15822)، والترمذي (4/ 588 رقم 2376).


[14] فيض القدير (5/ 445).


[15] أخرجه الحميدي (553)، وأحمد (3/ 434)، والبخاري (8/ 116).


[16] مسلم: 2275 فتح: 4/ 313.


[17] أخرجه البخاري (3/ 1017، رقم 2615)، ومسلم (1/ 92، رقم 89).


[18] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/ 393، رقم 5518)، وانظر: صحيح الجامع: 3375، والصحيحة: 1033.


[19] أخرجه مسلم 1/ 69 (101) (164)، و1/ 69 (102).


[20] أخرجه الطيالسي (ص 300، رقم 2276)، وأحمد (2/ 164، رقم 6532)، وأبو داود (3/ 300، رقم 3580).


[21] فيض القدير (5/ 268).


[22] أخرجه البخاري (3/ 1135، رقم 2950).
وأخرجه أيضًا: أحمد (6/ 410، رقم 27359).


[23] أخرجه أحمد (5/ 423، رقم 23646)، والبخاري (6/ 2446، رقم 6260)، ومسلم (3/ 1463، رقم 1832).


[24] أخرجه مسلم 6/ 12 (1833) (30).


[25] الزهد؛ للإمام أحمد، ص 275.


[26] السير (تهذيبه) 1/ 478.


[27] الزهد؛ للإمام أحمد، ص 444.

شارك الخبر

المرئيات-١