عنوان الفتوى : حكم الوقف الذي لم تُعَيَّن الجهة الموقوف عليها
جدتي عندها أرض، وقد نوت أن توقفها، قالت: أوقفتها، لكن لم تدخل في إجراءات الوقف، وهي الآن محتاجة للفلوس. هل تستطيع أن تتراجع عن وقفها؟ هي أم أمي، وتسكن معنا، وليس لها أحد بعد الله غير أمي، وحالتنا المادية ضعيفة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالذي فهمناه من السؤال، أن هذه الجدة نوت وقف أرضها، وتلفظت بلفظ الوقف، ولكنها لم تعين الجهة الموقوف عليها.
فإن كان كذلك، ففي صحة هذا الوقف خلاف بين أهل العلم، والأظهر في مذهب الشافعية أنه باطل لا يصح، خلافا للجمهور.
قال النووي في (منهاج الطالبين): ولو اقتصر على: وقفت. فالأظهر بطلانه. اهـ.
قال الدميري في شرحه (النجم الوهاج): (ولو اقتصر على) قوله: (وقفت) أي: كذا، ولم يذكر مصرفه (فالأظهر: بطلانه)؛ لأن الوقف يقتضي التمليك، فإذا لم يعين المالك، بطل. كما لو قال: بعت ثوبي لعشرة، ولم يقل: لزيد، ولأن جهالة المصرف مبطلة، فعدم ذكرها أولى. اهـ.
وفي مذهب الحنفية خلاف، فلا يصح مثل هذا الوقف عند محمد بن الحسن، وأما الإمام أبو حنيفة نفسه، فعنده يكون نذرا بالصدقة بغلة الأرض، ويبقى ملكه على حاله، فإذا مات تورث عنه.
جاء في حاشية ابن عابدين: قال في الإسعاف: لو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة، جاز عند عامة العلماء، إلا أن محمدا اشترط التسليم إلى المتولي، واختاره جماعة. وعند الإمام يكون نذرا بالصدقة بغلة الأرض، ويبقى ملكه على حاله، فإذا مات تورث عنه. اهـ.
وعند الحنابلة: يصح الوقف، ويصرف إلى ورثة الواقف من النسب على قدر إرثهم، ويكون وقفا عليهم، فلا يملكون نقل الملك في رقبته، فإن عدموا، فيصرف للفقراء والمساكين وقفا عليهم، ونص الإمام أحمد أنه يصرف في مصالح المسلمين.
قال البهوتي في (شرح منتهى الإرادات): (و) يصرف (ما وقفه وسكت) بأن قال: هذه الدار وقف، ولم يسم مصرفا (إلى ورثته) لأن مقتضى الوقف التأبيد، فيحمل على مقتضاه. ولا يضر تركه ذكر مصرفه؛ لأن الإطلاق إذا كان له عرف صح، وحمل عليه. وعرف المصرف هنا أولى الجهات به، وورثته أحق الناس ببره. فكأنه عينهم لصرفه ... (نسبا) لا ولاء، ولا نكاحا (على قدر إرثهم) من الواقف (وقفا) عليهم. فلا يملكون نقل الملك في رقبته. وعلم منه صحة الوقف وإن لم يعين له مصرفا، خلافا لما في الإقناع ... (فإن عدموا) أي ورثة الواقف نسبا (ف) هو (للفقراء والمساكين) وقفا عليهم؛ لأن القصد بالوقف الثواب الجاري على وجه الدوام. وإنما قدم الأقارب على المساكين؛ لكونهم أولى. فإذا لم يكونوا، فالمساكين أهل لذلك (ونصه) أي الإمام أحمد: يصرف (في مصالح المسلمين) فيرجع إلى بيت المال. اهـ.
وأما المالكية فيصح عندهم مثل هذا الوقف؛ لأنهم لا يشترطون تعيين الموقوف عليه، ويصرف عندهم بحسب العرف الغالب في بلد الواقف، فإن لم يكن فللفقراء.
قال خليل في مختصره: ولا يشترط التنجيز ... ولا تعيين مصرفه، وصرف في غالب، وإلا فالفقراء. اهـ.
قال المواق في (التاج والإكليل): فلا خلاف أنها وقف مؤبد، ولا ترجع ملكا، وتصرف عند مالك في الفقراء والمساكين، وإن كان في الموضع عرف للوجوه التي توضع فيها الأحباس، وتجعل لها، حملت عليه. اهـ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): الأصل في الموقوف عليه أن تكون الجهة الموقوف عليها معلومة، فإذا لم تحدد الجهة أصلا في الوقف، كما إذا قال الواقف: وقفت وسكت، ولم يحدد مصرفا، أو إذا كانت الجهة مجهولة، أو مبهمة كالوقف على رجل غير معين، فقد اختلف الفقهاء في صحته على قولين:
الأول: يرى جمهور الفقهاء صحته، ولهم في ذلك تفصيل ...
الثاني: أنه يبطل، وهو الأظهر عند الشافعية، وهو قول محمد من الحنفية. اهـ.
وعلى ذلك، فهذا الوقف لا يصح على الأظهر عند الشافعية، ومحمد بن الحسن من الحنفية؛ لأنه لم يُسلّم إلى المتولي. وبالتالي يبقى ملك الأرض للجدة، ويصح منها التصرف فيها بالبيع، أو الهبة، أو غير ذلك.
وعند أبي حنيفة تبقى الأرض على ملك الجدة، وتكون غلتها في حكم النذر، تتصدق بها الجدة في حياتها لزوما، فإذا ماتت انتقل ملك الرقبة إلى الورثة.
وعند الحنابلة يصح الوقف، ولا يمكن نقل الملك، ولكن الورثة هم من ينتفعون بغلة الأرض ما بقي منهم أحد.
ويسع السائلة وجدتها العمل بأي من الأقوال السابقة بحسب حالتهم، وحاجتهم، طالما لم يقض فيها قاض شرعي بشيء.
وهنا ننبه على أن المعتبر في الوقف كغيره من المعاملات الشرعية، هو وقوعه مستوفيا لشروط صحته، وأما الإجراءات الرسمية، فهي لمجرد التوثيق.
والله أعلم.