عنوان الفتوى : أحكام الوقف على النفس، والذكور دون الإناث
حبس ووقف عقار. حبسا ابتداء على أنفسهما ينتفعان به مدة بقائهما في الحياة، فإن ماتا فترجع على أولادهما الذكور الموجودين، ومن سيوجد -إن قدر الله به- من ذكر وأنثى، إلا متأيمة ويتيمة ومتهجلة، وأما الحافد لا مدخل له. عليهما وعلى عاقبهما ما تناسوا، و تسلسلوا، و امتدت فروعهم في الإسلام طبقة بعد طبقة، الذكر من كل طبقة. فإن مات أحدهم عن غير عقب فيه لمن عداه، فمن هو في درجته، ولا تدخل الطبقة السفلى مع وجود العليا، ولا الأبناء مع وجود الآباء. مقلدا في ذلك الإمام النعمان وهو أبي حنيفة -رضي الله عنه- المتقدم سنا على المذاهب، وبعض أئمة مذهبه الإمام مالك وهو ابن شعبان -رضي الله عنه-. وهؤلاء المحبسين بحال صحتهما وطوعهما ورشدهما ورضيا بأنفسهم. فإن انقرضوا عن آخرهم وأتى الحمام على وضيعهم ورفيعهم، فترجع حبسا لأقاربهم من جهة الأب. فإن انقرض أقاربهم، فترجع حبسا على مكة والمدينة -شرفها الله- وعلى ساكنها أفضل الصلاة و السلام. تصرف غلته فيما يصرف فيه جملة الأحباس. هل هذا الوقف (الحبس) صحيح؟ ويمكن العمل به أم لا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالوقف بهذه الكيفية وهذه الصورة في صحته خلاف، وجمهور الفقهاء على بطلانه. ومحل الخلاف في مسألتين:
الأولى: مسألة الوقف على النفس، فهذا يصح في المعتمد من مذهب الحنفية، خلافا لجمهور الفقهاء، وراجع في ذلك الفتوى: 368032.
وأما ما نُسب إلى ابن شعبان المالكي في نص الحبس، فهذا إنما يصح عنه إذا أشرك الواقف غيره مع نفسه. قال خليل في شرح مختصر ابن الحاجب: ولا يصح وقف الإنسان على نفسه. وقيل: إن أفرد؛ لأن فيه تحجيرا على نفسه وعلى وارثه بعد الموت، ولأنه لا بد من تغاير المعطي والمعطى، والثاني نقله الباجي وابن شاس وابن عبد السلام وغيرهم عن ابن شعبان. اهـ.
يعني أنه لا يصح حال إفراد النفس الوقف عليها، فإن أشرك غيره صح عند ابن شعبان. قال عليش المالكي في شرح مختصر خليل: (ولو) وقف على نفسه (بشريك) أي مع غيره، كوقفت على نفسي وعلى فلان. فهو باطل على المشهور، وقال ابن شعبان: يصح عليهما. اهـ.
والمسألة الثانية: الوقف على الذكور دون الإناث، هذا أيضا محل خلاف، فالجمهور على كراهته، وغيرهم يحرمه، بل ويبطله، جاء في كتاب (المعاملات المالية أصالة ومعاصرة): اختلف العلماء في تفضيل المذكور في الوقف على الإناث على أقوال:
- القول الأول: يكره تخصيص الوقف على الذكور دون الإناث، وهذا مذهب الجمهور. وخص الحنفية والحنابلة وأبو الوليد الباجي من المالكية الكراهة مع الاستواء في الحاجة وعدمها، فإن كان التفضيل لزيادة فضل، أو شدة حاجة، أو كان النقص خوفًا من استعماله في معصية، أو لظهور عقوق ونحوها لم يكره.
- القول الثاني: يحرم تخصيص البنين دون البنات، ويجب رده إن وقع. روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وطاووس، وعمر بن عبد العزيز، واختاره بعض الشافعية وصوَّب رده إن وقع بناءً على اشتراط القربة لصحة الوقف. وبه قال أهل الظاهر. وعليه أكثر المالكية؛ إلا أن المالكية اختلفوا في رده إن وقع على قولين:
الأول: يجب رده مطلقًا.
والثاني: يجب رده إن كان في يد الواقف، ولم يحز عنه، فإن حيز عنه، أو مات مضى على شرطه، وهذا قول ابن القاسم. اهـ.
والذي يظهر لنا هو عدم صحة الوقف بهذه الشروط، والأفضل - على أية حال - بل المتعين رفع الأمر للمحكمة الشرعية لتقر ذلك أو تبطله، فإن حكم القاضي يرفع النزاع، ومسائل الوقف من المسائل المعقدة والخاضعة للعرف؛ فلذلك لا ينبغي توجيهها إلا لعلماء البلد أو قضاته.
والله أعلم.