عنوان الفتوى : تمنيات أهل الجنة.. الممكن والمستحيل

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

لفت انتباهي ردكم على سؤالي رقم: 2605077، عندما قلتم: فقد دلت النصوص الشرعية على أن الله عز وجل يعطي أهل الجنة كل ما يتمنون، ووردت أمثلة على ذلك مع بعض المستثنيات التي قدر الله أنها لا تكون مثل: الرجوع للدنيا، لكنني لم أقل لكم الرجوع إلى الدنيا فكلامي كان واضحا وصريحا، وقد تعجبت من ردكم في هذا الباب: قلت لكم في

مدة قراءة الإجابة : 5 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فغفر الله للسائل فقد كان يكفيه العبارة التي نقلها من جواب سؤاله السابق، والتي تنص على أن ما لم يرد بشأنه دليل من الكتاب أو السنة: لا يمكن الجزم فيه بشيء، فإن هذا واضح في أن النفي والإثبات كلاهما لا يصح الجزم به حتى يقوم دليل عليه، وفي هذا رد على من يجزم بإثبات أو بنفي، ولولا الإمكان العقلي ودخول ذلك في عموم قدرة الله تعالى، لما صلح إلا النفي، والمقصود أن جوابنا على السائل كان بنفي الجزم لا الإمكان! وفي هذا القدر كفاية، فإن أبى السائل إلا أن نسايره في منطق تفكيره، قلنا: إن الفرق بين الجهاد وبين الصيد أو الزواج مما ذكره السائل من أماني أهل الجنة قائم ظاهر، لأن وجود الجهاد وملحقاته -التي ذكرها السائل في سؤاله السابق- من وجود جيش لا يرى آخره، وقتال اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار، وحصول الغنائم والسبي، وتحرير القدس.. هذا كله لا يتصور وجوده حقيقةً إلا في دار تكليف يصح فيها وصف الإيمان والكفر، ويقوم فيها داعي الجهاد والقتل، وتؤخذ فيها الغنائم، ويحكم فيها لقتلى المؤمنين بالجنة، وقتلى الكافرين بالنار، وما إلى ذلك مما لا يكون إلا في دار تكليف، بخلاف وجود الصيد والزواج وأنواع النعيم والشهوات التي لا تستلزم ذلك، ولأن الجنة دار جزاء، لا دار عمل وتكليف، فإن ما يستلزم وجود التكليف فيها ممتنع، ولذلك قضى الله تعالى ألا يرجع إلى الدنيا من يموت فيدخلها، كما في حديث جابر بن عبد الله بن حرام قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا جابر؛ ما لي أراك منكسرا؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي قتل يوم أحد، وترك عيالا ودينا، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحا، فقال: يا عبدي تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وحسنه الألباني.

وأما تمني الواحد من أهل الجنة أن يخلق له ملك الملوك سبحانه وتعالى كوكبا على هيئة الأرض، على حد ما جاء في السؤال، فنقول في جوابه: هذا الكوكب لا يخرج في التصور الذهني عن أن يكون: إما داخل الجنة، وإما خارجها، فإن كان داخل الجنة فيرد عليه ما سبق أن ذكرناه من انتفاء التكليف هناك، وإن كان خارجها فيرد عليه ما سبق أيضا، إضافة إلى تعارض ذلك مع رغبتهم في البقاء الدائم في الجنة، وعدم رضاهم بالتحول عنها، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا {الكهف107ـ 108}.

قال ابن كثير: في قوله: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ـ تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا. اهـ.

ولذلك إذا دخل أهل الجنة الجنة ورأوا ما فيها، سموها دار المقامة، كما قال تعالى على لسانهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ {فاطر:34ـ35}.

قال القشيري: دَارَ الْمُقَامَةِ ـ أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجاً. اهـ.

وقال السعدي: أي: الدار التي تدوم فيها الإقامة، والدار التي يرغب في المقام فيها، لكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها وزوال كدوراتها. اهـ.

وعلى أية حال، فإنا نرجع للسائل فنقول: حسبنا في وصف نعيم أهل الجنة أن لهم فيها ما يشاءون، وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، كما قال تعالى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ {النحل: 31}.

وقال سبحانه: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ {فصلت: 31}.

وقال عز وجل: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ {الزخرف: 71}.

وقال تبارك وتعالى: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ {الأنبياء: 102}.

والله أعلم.