أرشيف المقالات

الأمة في مواجهة الصعود الإيراني

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
فقد بدأت الثورة الإيرانية في عام 1979م بحرب استنزاف كبيرة مع العراق، استمرت لثمان سنوات، ربما كانت تلك الحرب فيما بعد –أحد المحفزات الأساسية لتطوير ترسانتها العسكرية، لكن لا يعزى التمدد الإيراني في العالم الإسلامي لهذه القوة العسكرية بالتأكيد!
ولا يعزى أيضاً للقوة الاقتصادية -رغم أنها دولة نفطية- فقد كانت ولا زالت منهكة اقتصادياً بسبب تركيزها على التصنيع العسكري، وبسبب الحصار الاقتصادي المضروب عليها من الغرب!
ولا تعزى قوة إيران لتماسكها السكاني والمجتمعي، فإيران دولة طائفية هشة لم تستطع استيعاب الأعراق والمذاهب المشكلة للتركيبة السكانية.
إذا ما مصادر القوة الاستراتيجة في المشروع الإيراني؟!
مصادر القوة في تقديرنا يمكن عزوها لثلاثة مصادر رئيسية:
المصدر الأول: البعد العقدي.
فالعقيدة حاضرة بقوة في المشروع الإيراني سواء أكان ذلك في الخطابين السياسي والإعلامي داخلياً وخارجياً أم في ميدان التخطيط والعمل، واستطاع قائد الثورة الخميني الانتقال بالمشروع الرافضي من عقيدة الانتظار إلى عقيدة ولاية الفقيه.

ولعل هذا أحد أهم مصادر القوة التي شكلت توافقاً عند الشيعة الفرس، وأسس لرسالة جامعة التفت حولها جميع القوى الفارسية في الداخل.
وفي السياق نفسه توجهت بوصلة الثورة الإيرانية منذ انطلاقها إلى الشعور بالمسؤولية السياسية والدينية تجاه الأقليات الشيعية، وسخرت إمكاناتها الاقتصادية للدعم والاستقطاب، واحتواء التجمعات المتناثرة في مشروع ولاية الفقيه، وكان من أكبر نجاحات المشروع الإيراني قدرته على بناء مرجعية دينية وسياسية تأسست على الولاء الجامع الذي يدور رحاه على آيات قم وعمائم طهران، فتحولت الأقليات الشيعية والجيوب المذهبية من مجموعات هامشية مغمورة إلى مطية وحلقات فاعلة في ترس العجلة الإيرانية.
وفي الوقت الذي كانت فيه عمائم الآيات والملالي تزرع روح الولاء للطائفة وتستعدي التجمعات الشيعية على السنة، كان بعض الإعلاميين والمثقفين العرب يحذرون من طائفية أهل السنة ويزعمون أن هذا الخطاب المؤدلج سيقضي على قيم التسامح والاجماع الوطني والقومي؟
المصدر الثاني: الوهن الإقليمي:
في الوقت الذي نجحت فيه إيران في بناء مشروع عقدي جامع، أخفقت الدول العربية بتخليها عن هويتها العقدية والحضارية، وفشلت في المحافظة على البدائل الهشة التي حاولت الاجتماع عليها، فالقومية العربية أفلست في أول تجربة لها في عام النكبة (1948م) ثم في عام النكسة (1967م)، وتاهت ولاءاتها بين الشرق اليساري والغرب الليبرالي، وحين انكفأت على نفسها واستبدلت شعار القومية العربية بشعار الوطنية لم تعزز ذلك بتماسك حقيقي يبني الأوطان بروح معطاءة، وإنما نخرها الفساد والاستبداد.
فقوة إيران تعزى في الحقيقة لوهن العرب وتمزقهم وغياب مشروعهم المحلي والإقليمي، فالفراغ السياسي والغيبوبة الفكرية العربية هما الفضاء الذي تمدد فيه الصفويون واستطاعوا استغلاله.
المصدر الثالث: الشعارات الثورية:
استطاعت الثورة الإيرانية استقطاب بعض الأطراف في الشارع الإسلامي، وخداعه بأكاذيبها وشعاراتها البرجماتية، واستغلت ثلاث قضايا رئيسية لتسويق أجندتها في العالم الإسلامي:
الأولى: الوحدة الإسلامية، وما يسمونه بالتقارب السني الشيعي، ومزاعم محبة آل البيت التي تبين فيما بعد أنها مداخل لاختراق المناطق والتجمعات السنية، وتغيير هويتها، وتقريبها للتشيع أو تشييعها عقدياً أو سياسياً!
الثانية: مواجهة الكيان الصهيوني وتحرير المقدسات الإسلامية في فلسطين ، حيث ارتفع صوت إيران وحلفائها بقوة للمزايدة في تبني القضية الفلسطينية،واستطاع حزب الله بمغامراته وشعاراته الإعلامية تحريك أطراف في الشارع الإسلامي، انطلت عليه تلك الأحابيل.
نعم! أدركت إيران مركزية القدس والقضية الفلسطينية في الوجدان الإسلامي والعربي، فتمحور خطابها السياسي والإعلامي حولها في الوقت الذي وقعت فيه مصر اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع الكيان الصهيوني، ثم تتابع أكثر العرب لتوقيع اتفاقيات السلام وطي ما كانوا يسمونه بالنضال والفدائية العربية!
الثالثة: نشطت التجمعات والبعثات الصفوية في دول الأطراف في العالم الإسلامي، وتبنت العمل الخيري، واستقطبت المؤسسات والجمعيات والعلماء والشخصيات الاعتبارية، وكفلت أعداداً كبيرة للدراسة في طهران وقم، خاصة بعد انحسار المؤسسات الخيرية الخليجية بعد ما أسمته الولايات المتحدة الأمريكية بـ (الحرب على الإرهاب) بعد أحداث 11 سبتمير.
هذه العوامل مجتمعة ساعدت من قوة تجذر المشروع الصفوي، وتمدده في الفضاء العربي والإسلامي في مرحلة سابقة، لكن إيران بنت سياستها بمنطق الإمبراطورية التوسعية التي أسكرتها الثورة، وليس منطق الدولة الذي يسعى للبناء والتنمية والاستقرار، وأصبح الحرس الثوري وعمائم قم هي الجواد الإيراني الذي يجر المشروع الصفوي إلى التآكل والتفكك، وعوامل القوة التي أشرنا إليها أضحت في الوقت الراهن من عوامل الضعف الذي بدأ ينهك الدولة ويسنزف مقدراتها الاستراتيجية، وسيأتي اليوم الذي تجد فيه إيران نفسها غير قادرة على جمع أطرافها وخدمة أقلياتها!
ولعل من أهم مصادر الضعف التي بدأت تظهر على المشروع الإيراني:
المصدر الأول: الانكشاف القيمي والأخلاقي: فالمزايدات السياسية والشعارات الدينية التي بدأت بها الثورة الإيرانية ابتداء بشعارات الوحدة والتقريب ومحبة آل البيت مروراً بتحرير المقدسات الفلسطينية وانتهاء بشعارات ( الموت لإسرائيل...الموت لأمريكا) انكشفت بشكل صارخ في استحقاقات سياسية متعددة، كان من أبرزها الانكشاف في سوريا والعراق واليمن، ولم تعد تلك الشعارات تنجح في إخفاء الوجه الطائفي المتعصب، الذي راح يجتر عقائد الرافضة الأوائل، وينافح عنها، ويخاصم من أجلها، ولم تعد تنجح في إخفاء الوجه النفعي القبيح، الذي تلطخ بالدماء والقتل، وتحالف مع الاستبداد والفساد، وأدار حروباً قذرة، ولم تعد تنجح في إخفاء العلاقات الاستراتيجية مع أمريكا والكيان الصهيوني وروسيا التي ظهرت بجلاء في احتلال وتدمير العراق وأفغانستان ثم سوريا!
المصدر الثاني: التفكك الداخلي، فالنظام الإيراني لم يستطع استيعاب الأعراق المكونة للمجتمع الإيراني بل تعامل معها بمنطق الإقصاء والتهميش والكبت، وكانت اللغة الوحيدة التي استخدمها النظام في التعامل مع حركات الاحتجاج العرقية أو المذهبية هي لغة السجن والقتل، حتى تحولت إيران إلى سجن كبير لا يتنفس فيه إلا أصحاب العمائم وحواشيهم!
هذه المكونات العرقية المضطهدة هي في الحقيقة قنابل موقوتة قابلة للانفجار بشكل مفاجئ، ويمكن أن تشعل الداخل الإيراني بقوة!
المصدر الثالث: غرور القوة:التمدد الإيراني في العالم أسقط أقنعة وأكاذيب التقية، فتحول الخطاب الإيراني إلى خطاب عدائي استفزازي استدعى خطاب الغلو الفكري والثارات التاريخية وكوامن الحقد والانتقام سواء أكان في الخطاب الديني العقدي أم في الخطاب السياسي، ومع الوقت سعت إيران إلى عسكرة الثورة، وهذا أدى إلى نتيجتين في غاية الخطورة:
الأولى: تثوير أذرعتها وأقلياتها في العالمين العربي والإسلامي، فمن فيلق بدر وفيلق القدس وحزب الله اللبناني..
إلى الحركة الحوثية في اليمن، وحزب الله في السنغال والخليج، حتى أصبحت هذه التجمعات والأقليات الطائفية مجرد ورقة إيرانية توظف في خصومات ونزاعات إقليمية ومحلية، وهذا أدى إلى إغراقها في صراعات ونزاعات بالوكالة، وانعزالها عن النسيج الوطني والاجتماعي الذي كانت تعيش فيه.
لقد غيرت الثورة الإيرانية مفاهيم الاستقرار والتعايش الذي كانت تلتزم به الأقليات ودفعت بهم إلى ميادين الثورة والتدريب العسكري، فوضعت إيران نفسها في موضع قائد العصابة الذي يدير مليشيات وجيوب إجرامية تصطنع المشكلات في الفضاء الإقليمي المتوتر!
ومع استمرار هذه الحماقات بدأت إيران تعجز عن إطفاء حرائقها، واستيعاب متطلبات تلك المليشيات وأعبائها السياسية والأمنية، على المستوى الإقليمي والدولي!
الثانية: استنزاف المقدرات الاقتصادية للدولة وتحويلها من البناء الداخلي والتنمية الحضارية إلى التسليح وتمويل الأذرعة العسكرية!
وهذا بلا شك أوجد حالة من التذمر الداخلي والخلل البنيوي الكبير مما أفقد ثقة الشعب بحكومة الآيات والملالي.
كل هذه العوامل بدأت تصَاعد بقوة في المشروع الإيراني وهي تتجه به إلى الضعف والتآكل المتسارع، وسيأتي اليوم الذي تنفجر فيه تلك الفقاعة الصفوية لتقتل نفسها.
لقد آن الأوان أن نتحدث بلسان الحال عن مشروع سني جاد يملأ الفراغ الهائل الذي يعاني منه العالم الإسلامي، ويستطيع أن يوظف طاقات الأمة، كل الأمة في بناء نهضة حقيقية تعيد رصَ الصفوف وتجديد المسار، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣