عنوان الفتوى : الترحم على أهل البدع، وكيف يتعامل طالب العلم مع كتبهم ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ما هي الكتب الأثرية لشتى علوم الدين لأصحاب السنة المحضة الذين لم يعرفوا ببدعة ؟ وما هو سبب اتخاذ المتأخرين من كتب أصحاب البدع الذين ضلوا في أبواب العقيدة وغيرها وهل يجوز الترحم عليهم ، كمثال العز بن عبدالسلام وابن العربي وغيرهم ؟

مدة قراءة الإجابة : 16 دقائق

الحمد لله

أولا:

أهل السنة والحديث والأثر المتبعون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، المجانبون للأهواء والبدع، لهم مؤلفات كثيرة في شتى أبواب العلم، في التفسير والحديث والعقيدة والفقه واللغة وغيرها.

فأما كتبهم في الحديث وعلومه : فقد ملأت الدنيا ، وطبقت الآفاق ؛ فدونك صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، والسنن الأربعة ، وموطأ مالك ، ومصنف ابن أبي شيبة ، ومصنف عبد الرزاق .... وغير ذلك مما لا يسع المقام عده ولا إحصاءه .

ومن مصنفاتهم في التفسير : تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم ، والسمعاني ، والبغوي ، وابن كثير ، وابن سعدي ، وغيرهم .

ومن كتبهم في السنة وأصول الاعتقاد : ما هو معروف ظاهر ، كثير ؛ مثل مصنفات الإمام عثمان بن سعيد الدارمي ، والسنة للخلال ، ولعبد الله بن أحمد ، وابن أبي عاصم ، والتوحيد لابن خزيمة ، والشريعة للآجري ، والإبانة لابن بطة ، والسنة للالكائي ، وغيرها .

ثانيا:

الفرق المخالفة لما كان عليه السلف الصالح كثيرة، منها الخوارج والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، ولهذه الفرق أتباعها ومقلدوها، وربما قويت البدعة وانتشرت في أزمنة معينة ، أو أمكنة معينة لعوامل كثيرة، منها تبني الدولة لها، ومحاربة خصومها.

ويجوز الترحم على أهل البدع غير المكفرة؛ لأنهم مسلمون. وكل مسلم يجوز الدعاء له والترحم عليه. وهذا أمر ظاهر ، لا إشكال فيه ، ولا تردد ، وهو من حقوق المسلم على أخيه ، باعتبار أصل إيمانه .

قال ابن القيم رحمه الله : " لَا خلاف فِي جَوَاز الترحم على الْمُؤمنِينَ " انتهى من "جلاء الأفهام" (159) .

وأما ما يوجد من الكلام والآثار في ترك الأخذ عن بعض أهل البدع ، أو ترك السماع منهم، أو نحو ذلك : فليست هذه قاعدة شرعية كلية مضطردة في حق كل أحد ، بل هي باب من أبواب الزجر والتأديب ، المبني على مراعاة المصلحة الشرعية في مثل ذلك .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"فكل مسلم لم يُعلم أنه منافق جاز الاستغفار له والصلاة عليه، وإن كان فيه بدعة أو فسق .

لكن لا يجب على كل أحد أن يصلي عليه . وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور : مصلحة من جهة انزجار الناس ، فالكف عن الصلاة كان مشروعا لمن كان يؤثّر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلى عليه. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن قتل نفسه: " صلوا على صاحبكم "، وكذلك قال في الغال: " صلوا على صاحبكم ". وقد قيل لسمرة بن جندب: إن ابنك لم ينم البارحة. فقال: أبشما ؟ قالوا: بشما. قال: لو مات لم أصل عليه. يعني: لأنه يكون قد قتل نفسه" انتهى من "منهاج السنة" (5/ 235).

وأي مصلحة لطالب العلم في أن يهجر ما صنفه أهل العلم من الأشاعرة ونحوهم ، لأجل أن صاحب هذا التصنيف قد وقع في بدعة ، أو خطأ ما في مسألة قد بذل وسعه في طلبها ، كما هو الظن في أهل العلم والديانة ، فلم يوفق لوجه الصواب فيها ؟!

وكم يصفو لطالب العلم مما في أيدي الناس ، من كتب ففقه الفقهاء ، وشروحهم ، وحواشيهم ، وشروح الحديث ، وكتب التفاسير ، وكتب أصول الفقه ، وعلوم الآلة ونحو ذلك .

" فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد ، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا ، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله . فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه ، وتحضها على فعل ضد ظلمه : من الإيمان والسنة ونحو ذلك .

فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد ؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها ، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية . فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة ، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي .

وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة ، فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم ...

فإن أقواما جعلوا ذلك عاما ، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به ، فلا يجب ولا يستحب ، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات . وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية ، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ؛ بل تركوها ترك المعرض ؛ لا ترك المنتهي الكاره ، أو وقعوا فيها ، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ، ولا ينهون عنها غيرهم ، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها ، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا ، فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه ، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به . فهذا هذا . ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه . والله سبحانه أعلم " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 28 / 212 - 213 ) .

وينظر جواب السؤال رقم : (223566) .

ثم يتأكد جانب : ترك الهجر ، والمداراة ، والاستصلاح : إذا كان مثل ذلك في زمان ، أو مكان : تضعف فيه السنة ، وأهلها ، وتزداد فيه غربة القائمين عليها ، وتضعف فيها آثار النبوة والرسالة ، والبينات الشرعية .

جاء في "مسائل إسحاق الكوسج" ، للإمام أحمد(2/565) :

" مَن يقولُ : القرآن مخلوق ؟

قَالَ : ألحق به كل بلية . ...

قُلْتُ : فتظهرُ العداوة لهم ، أو تداريهم ؟

قَالَ : أهل خراسان لا يَقْوَوْن بهم ، يقول : كأن المداراة " !! انتهى .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تعليقا على ذلك :  

" وهذا الجواب منه ، مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة ، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة: من الدفع بالتي هي أحسن ، ومخاطبتهم بالحجج يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم ، والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم ...

فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات ...

وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة ؛ فلهذا اختلف حكم الشرع .. بين القادر والعاجز ، وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته ، وقوته وضعفه ، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم من الكفر والفسوق والعصيان.

فإن كل ما حرمه الله فهو ظلم ؛ إما في حق الله فقط ، وإما في حق عباده ، وإما فيهما.

وما أمر به من هجر الترك والانتهاء ، وهجر العقوبة والتعزير : إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله .

وإلا ؛ فإذا كان في السيئة حسنة راجحة : لم تكن سيئة .

وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة : لم تكن حسنة؛ بل تكون سيئة .

وإن كانت مكافئة : لم تكن حسنة ، ولا سيئة .

فالهجران : قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة ، التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد .

وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد ، والنهي عن المنكر ، وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا ، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله. فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه ، وتحضها على فعل ضد ظلمه: من الإيمان والسنة ونحو ذلك.

فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ، ولا انتهاء أحد؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرةً مأمورا بها ، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية !!

فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم : سقط الأمر بفعل هذه الحسنة ، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي.

وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة : فلو ترك رواية الحديث عنهم ، لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم.

فإذا تعذر إقامة الواجبات ، من العلم والجهاد وغير ذلك ، إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب ، مع مفسدة مرجوحة معه ؛ خيرا من العكس.

ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل" انتهى من "مجموع الفتاوى" (28/210-212) .

وينظر جواب السؤال رقم : (223300) ، ورقم : (224640) .

نعم ؛ لا يؤخذ عنهم شيء من العلم في الباب الذي خالفوا فيه أهل السنة ، ولا يعتني طالب العلم بمصنفاتهم الكلامية ، بل يعرف من علماء أهل السنة ما أخطأوا فيه ، وخالفوا  السنة المحضة ، ليحذر بدعتهم في ذلك الباب ، ويدع الأخذ عنهم فيه ، بل ويحذر مما أخطأؤوا فيه ، إن كان أهلا لذلك . ثم ينتفع بما أحسنوا فيه من العلوم بعد ذلك .

وإنما يعتني بمنصفاتهم الكلامية : المختصون المتأهلون للنظر والبحث فيها .

وطالب العلم المبتدئ ، وعامة الناس ، ونحوهم من "المثقفين" ، فإنما يكفيهم ما ينفعم من المختصرات والمصنفات الميسرة ، فينظر في تفسير ابن كثير ، وتفسير السعدي ، ومختصر التفسير ، والتفسير الميسر ونحو ذلك ، مما يكفيه وزيادة ، وينظر في شرح رياض الصالحين ، للشيخ ابن عثمين ، وجامع العلوم والحكم ، ونحو ذلك .

ثالثا :

الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي ، وهو يشتبه على بعض الناس بالصوفي الضال ، فهو عالم إمام ، له باع عظيم في الفقه والأصول والتفسير والحديث ، وله مصنفات عظيمة ، نافعة ، ما زال أهل العلم والدين يشتغلون بها ، وينتفعون بما فيها .

مع معرفة أهل العلم وطلابه بمذهبه الأشعري ، وتصانيفه في ذلك ؛ فيتوقون ما فيه نصرة لبدعة، وينتفعون بما عنه من العلوم والمعارف .

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (107645) ، ورقم : (161770) .

ومثل ذلك يقال في عز الدين ابن عبد السلام :

فهو عالم كبير ، وفقيه إمام ، من كبار فقهاء الشافعية ، ومن أهل العلم والديانة .

وله مصنفات نافعة ، أشهرها وأعظمها : "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" ، المشهور بالقواعد الكبرى ، ومختصره : القواعد الصغرى ، وتصانيف أخرى كثيرة نافعة .

مع المعرفة بما كان عليه من الأصول الأشعرية ، كحال كثير من علماء مذهبه ، والفقهاء في زمانه .

وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، شيئا من مقالاته وتقريراته ، في كتابه العظيم : "الانتصار لأهل الأثر" ، ط عالم الفوائد . فليراجع للاستفادة .

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله طائفة من علماء الأشاعرة وأئمتهم وعلمائهم ، مثل القاضي أ[ي بكر الباقلاني ، وأبي ذر الهروي ، وأبي حامد ، وأبي بكر ابن العربي ، وما وقعوا فيه من الأصول المبتدعة المخالفة لطريقة السلف الصالح ، ثم قال عن هؤلاء وأمثالهم :

" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف .

لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة [ يعني : نفي الأفعال الاختيارية ، والأمور المتعلقة بمشيئة الله تعالى ] ، وهم فضلاء عقلاء ، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين .

وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل ، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل ، وخيار الأمور أوساطها !!

وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء ؛ بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين ، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ، ويتجاوز لهم عن السيئات : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ( الحشر : 10 ) .

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخطأ في بعض ذلك ، فالله يغفر له خطأه ؛ تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( البقرة : 286 )

ومن اتبع ظنه وهواه ، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ، ظنه صوابا بعد اجتهاده ، وهو من البدع المخالفة للسنة ؛ فإنه يلزمه نظير ذلك ، أو وأعظم أو أصغر ، فيمن يُعَظِّمُه هو من أصحابه ؛ فقلَّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين ، لكثرة الاشتباه والاضطراب ، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب .. " انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (2/102-103) .

وينظر للأهمية : جواب السؤال رقم : (256198) .

والنصيحة أن تنشغل بطلب العلم على يد موثوقين من أهل السنة، وأن تدع الكلام في الطوائف والمذاهب والرجال، فهذا له أهله.

والله أعلم.