عنوان الفتوى : يسأل : هل يصح تكفير الأشاعرة لأنهم ينفون صفات الله ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

سئل الإمام أحمد عن رجل يشتم معاوية أيصلى خلفه ؟ قال: لا، ولا كرامة. وأنتم قلتم : إنه يصلى خلف من بدعته ليست مكفرة ، وأما من كانت بدعته مكفرة فلا تصح الصلاة خلفه ، وذكرتم أن الصلاة تصح خلف الأشاعرة ، أليس الأشاعرة يكفرون ؛ لأنهم من الجهمية ، فهم نفوا صفات الله ، ويخالفون صريح القرآن ، كصفة العلو مثلا ، وللشافعي كلام ونصه ، قال الشافعي رحمه الله : " إني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل " وقال : " لله أسماء وصفات جاء بها كتابه ، وأخبر بها نبيه أمته ، لا يسع لأحد ردها ، فمن خالف في ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر ، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل ، ومن يخالف القرآن أو السنة فهو كافر ؛ لأنه عارض صريح الكتاب والسنة " ؟ هذا أولا . وثانيا : هم ـ والله أعلم ـ يطعنون بمعاوية ، والإمام أحمد قال : لا يصلى خلفه، كما ذكرت آنفا . وثالثا : أنهم أيضا كما هو معروف يختلفون معنا في اعتقاد القدر ، فكيف بعد هذا يصلى خلفهم ؟ وأيضا واللجنة الدائمة قالت : " إن من نفى صفة العلو، ولكنك ذكرت له الأدلة ، وأقمت عليهم الحجة ، فإذا بقي بعدها على معتقده فهو كافر ، وكثير من الناس نقيم عليهم الحجة في مواقع التواصل ، ونعطيهم الأدلة ويبقون على معتقدهم فهل صارو كفارا ؟ وشيخ الإسلام قال : " من كانت بدعتهم مكفرة لا يصلى خلفهم ، وهؤلاء بدعتهم مكفرة ، فما قولكم ؟

مدة قراءة الإجابة : 24 دقائق

الحمد لله

أولا:

ينبغي أن يعلم أن وصف "البدع المكفرة" : ينطبق على أنواع كثيرة من المقالات، تختلف من حيث الظهور والخفاء ، وغلبة الظن باشتباه أمرها ، أو عدم اشتباهه .

فمن البدع المكفرة: الاستغاثة بالأموات، والنذر والذبح لهم، وإنكار جنس الصفات، والقول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله تعالى، والعلمانية والشيوعية والاشتراكية، نحو ذلك من البدع والضلالات .

والأصل العام في هذا الباب : أنه لا يكفر الشخص المعين حتى تقام عليه الحجة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

"وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا ، فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ ، وَيُقَالُ : مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ .

لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ : لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ، حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا " انتهى من " مجموع الفتاوى " (23/ 345).

وقال رحمه الله :

"هَذَا؛ مَعَ أَنِّي دَائِمًا ، وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي : أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ ؛ إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية ، الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا : كَانَ كَافِرًا تَارَةً ، وَفَاسِقًا أُخْرَى ، وَعَاصِيًا أُخْرَى .

وَإِنِّي أُقَرِّرُ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا ؛ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ ، وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ .

وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ ، لَا بِكُفْرِ ، وَلَا بِفِسْقِ ، وَلَا مَعْصِيَةٍ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (3/229).

وقال أيضا :

"وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَتَكْفِيرُ " الْمُعَيَّنِ " مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ ، بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْكُفَّارِ: لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ، إلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَى أَحَدِهِمْ الْحُجَّةُ الرسالية ، الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا كُفْرٌ.

وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ " الْمُعَيَّنِينَ " ؛ مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ ، وَبَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَيْسَ فِي بَعْضٍ .

فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ أَخْطَأَ ، وَغَلِطَ ؛ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ ، وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ .

وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينِ ، لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ ." انتهى من " مجموع الفتاوى " (12/501).

وقال في شأن بعض ما يقع فيه الجهال من أمور شرك العبادة :

" وهذا الشركُ : إذا قامت على الإنسان الحجةُ فيه ، ولم يَنتهِ، وَجَبَ قتلُه ، كقتلِ أمثالِه من المشركين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه .

وأمَّا إذا كان جاهلاً ، لم يَبلُغْه العلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشرك الذي قاتلَ عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين، فإنه لا يُحكَم بكُفْرِه، ولاسِيَّما وقد كَثُر هذا الشركُ في المنتسبين إلى الإسلام .

ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنه ضَالٌّ باتفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ الحجة كافر." انتهى من " جامع المسائل " (3/151) .

ثانيا:

الصلاة خلف صاحب البدعة المكفرة، فيها نزاع مشهور بين الفقهاء، وهو مبني على تكفير المبتدع بعينه ، أو عدم تكفيره.

وأعدل الأقوال، أن يقال: إن هذا المبتدع لا يُولَّى، ولا يُمكّن من الإمامة، إنكارا لمنكره، وزجرا عن بدعته .

فإن لم يمكن تنحيته عن الإمامة، وأمكنت الصلاة خلف غيره : فإنه لا يُصلَّى خلفه .

فإن لم تمكن الصلاة خلف غيره، كالجمعة والعيدين، فإنه يصلى خلفه ، إذا لم نعلم أن الحجة قد قامت عليه ، ولم نحكم بكفره عينا؛ لأن من صحت صلاته لنفسه ، صحت صلاته لغيره.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نافع في هذه المسألة، وفيه تنبيه على سبب الخلاف فيها، ونحن نلخص مقاصده هنا . قال رحمه الله:

"وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع ، وخلف أهل الفجور : ففيه نزاع مشهور وتفصيل، ليس هذا موضع بسطه .

لكن أوسط الأقوال في هؤلاء : أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة : لا يجوز ، مع القدرة على غيره.

فإن من كان مظهرا للفجور أو البدع : يجب الإنكار عليه ، ونهيه عن ذلك .

وأقل مراتب الإنكار : هجره ، لينتهي عن فجوره وبدعته...

لكن إذا ولاه غيره ، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يُتَمَكَّن من صرفه إلا بشرٍّ أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر : فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، بحسب الإمكان. ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا .

فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور، إلا بضرر زائد على ضرر إمامته : لم يجز ذلك ؛ بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه ، كالجمع والأعياد والجماعة ، إذا لم يكن هناك إمام غيره.

ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج ، والمختار بن أبي عبيد الثقفي ، وغيرهما ، الجمعة والجماعة .

فإن تفويت الجمعة والجماعة : أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر ، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره ؛ فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.

ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور ، مطلقا : معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع .

وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البَرِّ : فهو أولى من فعلها خلف الفاجر .

وحينئذ ؛ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر : فهو موضع اجتهاد للعلماء ...

وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء: فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه. ومن قال: إنه يكفر، أمر بالإعادة؛ لأنها صلاة خلف كافر .

لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، والناس مضطربون في هذه المسألة. وقد حكي عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي فيها قولان . وعن الإمام أحمد أيضا فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام ؛ فذكروا للأشعري فيها قولين، وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل .

وحقيقة الأمر في ذلك : أن القول قد يكون كفرا ، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر . لكن الشخص المعين الذي قاله ، لا يحكم بكفره ، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ...

وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها : قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها .

فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية ، أو العملية .

هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماهير أئمة الإسلام .

وما قسموا المسائل إلى : مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها ...

ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين .

ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك ، ولم يفهموا غور قولهم .

فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقا، حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي، وربما رجحت التكفير والتخليد في النار .

وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم.

وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته; لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة، ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل. وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة .

لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه؛ ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم، حتى إنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وغير ذلك، ولا يولون متوليا، ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك =

ومع هذا ، فالإمام أحمد رحمه الله تعالى : ترحم عليهم ، واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبيَّن لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا، وقلدوا من قال لهم ذلك " انتهى من مجموع الفتاوى (23/ 342- 349).

فتأمل هذا الكلام الدقيق المشتمل على صنوف من الفقه والعدل والإنصاف، واعتبر به فيما أشرت إليه من قيام الحجة بالمناقشات على الإنترنت! فإن أحمد رحمه الله لم يكفر كثيرا من الولاة القائلين بقول الجهمية، مع حضورهم مناظرات أهل السنة، وعجز المخالف عن رد أدلتهم وحججهم.

ثالثا:

الأشاعرة ونحوهم، يسميهم الأئمة: الصفاتية، لأنهم يثبتون أصل الصفات، وإن نازعوا في بعضها كالصفات الاختيارية، أو تأولوا بعضها كالعلو، فإنهم يقولون: المراد بالعلو علو القهر والشأن، ويؤولون الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة، والوجه بالذات، وهكذا .

وهم مخطئون في ذلك ولا ريب، لكنهم لا يكفرون، وما علمنا من أطلق القول بتكفيرهم، وذلك لمانع التأويل؛ فإنهم نفوا ما نفوا بحجة التنزيه لله تعالى، وطردا لأصول فاسدة ظنوها صحيحة.

ونحن ننقل هنا بعض كلام أهل العلم في إعذار المتأولين، وفي عدم تكفيرهم الأشاعرة بما أنكروه أو تأولوه من الصفات، ليتم الجواب:

1-قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه بعد ذكر جماعة من الأشاعرة كأبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، ومن تبعهما:

" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام: مساع مشكورة، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.

لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة ، وهم فضلاء عقلاء : احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ؛ فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين. وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل ؛ وخيار الأمور أوسطها.

وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين .

والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (الحشر: 10) .

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك: فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا (البقرة: 286)" انتهى . من درء تعارض العقل والنقل (2/ 102).

2-وقال رحمه الله عن الأشاعرة: " ومباحثهم في مسألة حدوث العالم ، والكلام في الأجسام والأعراض : هو من الكلام الذي ذمه الأئمة والسلف، حتى قال محمد بن خويز منداد: أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه : هم أهل الكلام ؛ فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء ، أشعريًّا كان ، أو غير أشعري.

وذكر ابن خزيمة وغيره : أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وعن أصحابه ، كالحارث ؛ وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل الفاسدة .

وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة ، وموافقة السنة : ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدّون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم" انتهى من بيان تلبيس الجهمية (3/ 536).

3-وقد أثنى رحمه الله على كبار أئمة الأشاعرة كأبي الحسن الأشعري، والغزالي، والرازي، فيما أصابوا فيه السنة، وردوا به شبهات الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم، ومن ذلك قوله عن أبي حامد الغزالي لما نسب التأويل للإمام أحمد:

"ولم يكن ممن يتعمد الكذب، كان أجلّ قدراً من ذلك، وكان من أعظم الناس ذكاء ، وطلباً للعلم ، وبحثاً عن الأمور، ولما قاله: كان من أعظم الناس قصداً للحق، وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة، بليغة، ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين .

لكن لكونه لم يصل إلى ما جاء به الرسول من الطرق الصحيحة: كان ينقل ذلك بحسب ما بلغه، لاسيما مع هذا الأصل الفاسد؛ إذ جعل النبوات فرعاً على غيرها" انتهى من بيان تلبيس الجهمية (6/ 127).

4-وقال العلامة السعدي رحمه الله: "إن المتأولين من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقا ، والتزموا ذلك، لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية = فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين ، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك" انتهى من الإرشاد إلى معرفة الأحكام، ص207.

5-وقال الدكتور عبد الله الجبرين في مختصر تسهيل العقيدة الإسلامية، ص78: "ومن موانع التكفير للمعيَّن أيضاً: التأويل، وهو: أن يرتكب المسلم أمراً كفرياً ، معتقداً مشروعيته ، أو إباحته له ، لدليل يرى صحته ، أو لأمر يراه عذراً له في ذلك ؛ وهو مخطئ في ذلك كله .

فإذا أنكر المسلم أمراً معلوماً من الدين بالضرورة مثلاً، أو فعل ما يدل على إنكاره لذلك، وكان عنده شبهة تأويل، فإنه يعذر بذلك ، ولو كانت هذه الشبهة ضعيفة ، إذا كان هذا التأويل سائغاً في لغة العرب، وله وجه في العلم، وهذا مما لا خلاف يه بين أهل السنة .

وعلى وجه العموم: فعذر التأويل من أوسع موانع تكفير المعين، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه إذا بلغ الدليلُ المتأوِّلَ فيما خالف فيه ، ولم يرجع ، وكان في مسألة يُحتَملُ وقوع الخطأ فيها، واحتمل بقاء الشبهة في قلب من أخطأ فيها ، لشبه أثيرت حولها ، أو لملابسات أحاطت بها ، في واقعة معينة = أنه لا يحكم بكفره، لقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الأحزاب: 5 .

ولذلك لم يكِفّر بعض العلماء ، بعض المعينين من الجهمية ، الذين يعتقدون بعض الاعتقادات الكفرية في صفات الله تعالى .

ومن أجل مانع التأويل أيضاً : لم يكفر بعض العلماء ، بعض من يغلون في الموتى ، ويسألونهم الشفاعة عند الله تعالى .

ومن أجل مانع التأويل كذلك : لم يكفر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الخوارج الذين خرجوا عليهم وحاربوهم، وخالفوا أموراً كثيرة مجمعاً عليها بين الصحابة ، إجماعاً قطعياً" انتهى.

6- وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: " هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة أم لا ؟ وهل نحكم عليهم من المذهب أم كفار ؟

فأجاب : " الأشاعرة من أهل السنة في غالب الأمور ، ولكنهم ليسوا منهم في تأويل الصفات ، وليسوا بكفار ، بل فيهم الأئمة والعلماء والأخيار ، ولكنهم غلطوا في تأويل بعض الصفات ، فهم خالفوا أهل السنة في مسائل ؛ منها تأويل غالب الصفات ، وقد أخطأوا في تأويلها ، والذي عليه أهل السنة والجماعة إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز "(28 /256) .

7-وقال رحمه الله: " أما المذهب الثاني فهو مذهب الخلف المذموم. وهو مذهب أهل التأويل والتحريف والتكلف .

ولا يلزم من ذم مذهب الخلف ، والتحذير منه : القول بتكفيرهم ؛ فإن التكفير له حكم آخر ، يبنى على معرفة قول الشخص ، وما لديه من الباطل ، ومدى مخالفته للحق .

فلا يجوز أن يقال : إنه يلزم من ذم مذهب الخلف، أو الإنكار على الأشاعرة ما وقعوا فيه من تأويل الصفات وتحريفها ، إلا صفات قليلة استثنوها = القولُ بتكفيرهم .

وإنما المقصود بيان مخالفتهم لأهل السنة في ذلك ، وبطلان ما ذهب إليه الخلف من التأويل، وبيان أن الصواب هو مذهب السلف الصالح - وهم أهل السنة والجماعة - في إمرار آيات الصفات وأحاديثها ، وإثبات ما دلت عليه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل" انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز "(3 /64) .

8-وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (3/ 220): " ما حكم من مات على التوحيد الأشعري ، قبل بلوغ توحيد الأسماء والصفات إليه ، ولم يسمعه من أحد ولا فهمه وقد أقر بتوحيد الربوبية والإلهية ولم ينبهه عليه أحد فينكره، هل له عذر أم لا؟

ج: أمره إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأشاعرة ليسوا كفارا، وإنما أخطأوا في تأويلهم بعض الصفات.

وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى.

9-وجاء فيها (3/ 240): " ثالثا: من تأول من الأشعرية ونحوهم نصوص الأسماء والصفات : إنما تأولها لمنافاتها الأدلة العقلية ، وبعض النصوص الشرعية في زعمه، وليس الأمر كذلك ؛ فإنها ليس فيها ما ينافي العقل الصريح ، وليس فيها ما ينافي النصوص ، فإن نصوص الشرع في أسماء الله وصفاته : يصدق بعضها بعضا ، مع كثرتها ، في إثبات أسماء الله وصفاته على الحقيقة ، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة خلقه.

رابعا: موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ، ممن تأول بعض صفات الله تعالى ، أو فوضوا في أصل معناها :

أنهم ، في نظرنا : من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم ، فرحمهم الله رحمة واسعة ، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم ، وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير .

وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات ، وخالفوا فيه سلف الأمة ، وأئمة السنة رحمهم الله، سواء تأولوا الصفات الذاتية ، وصفات الأفعال ، أم بعض ذلك.

وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى.

رابعا:

ما نقلته عن الشافعي رحمه الله : لم يصح عنه ، وليس هو في أي من كتبه الثابتة عنه ، ولم يرو عنه أيضا بإسناد صحيح ، تقوم به الحجة .

وهذا بحث يمكن مراجعته في مصادر توثيق ذلك ، ولا يسع المقام ذكره هنا .

وعلى فرض أن هذا القول ثابت عنه ، فإن فيه أن "من خالف في ذلك ، بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر ، فأما قبل ثبوت الحجة فمعذور بالجهل" !!

وهذا موافق لما قدمناه، فإن الأشاعرة إما علماء متأولون، اجتهدوا ، فأخطأوا . أو مقلدون لهم، فلا يكفرون ، لا هؤلاء ، ولا هؤلاء .

خامسا:

ما نسبته إلى الأشاعرة من الطعن في معاوية ليس من مذهبهم.

وما  نسبته لشيخ الإسلام من أن صاحب البدعة المكفرة لا يصلى خلفه، قد تبين تفصيله فيما نقلنا عنه .

وبه يتبين أن الأمر ليس كما أطلقته عن شيخ الإسلام . وأنه ـ على كل حال ـ لا ينطبق على الأشاعرة أصلا .

والحاصل : أن الأشاعرة مخالفون للسلف في أبواب عدة كالإيمان والقدر والصفات، ولكن ذلك لا يقتضي تكفيرهم ، ومنع الصلاة خلفهم ، وقد نقلنا من كلام أهل العلم فيهم ما يخالف ما جاء في السؤال .

ونصيحتنا لك يا عبد الله : أن تطلب العلم على يد الراسخين من أهله، وأن تحذر من التسرع في التكفير والإقدام عليه ، دون رجوع لأهل العلم.

فتعلم العلم ، وأحكم منه ما فيه نجاتك يا عبد الله ، قبل أن تتورط في أبواب لا قبل لك بها ، ولم يبلغها علمك ، ولا وصلت إليه أداتك وآلتك ، والله جل جلاله لن يحاسبك على مثل هذا ؛ إنما يحاسبك في تفريطك فيما فيه نجاتك ، من العلم النافع ، والعمل الصالح .

نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.

وانظر للفائدة جواب السؤال رقم : (148123) ورقم (40147).

والله أعلم.