عنوان الفتوى : حكم إلقاء السلام على المتلبس بالمعصية
ما حكم ابتداء حليق اللحية أو مسبل الثوب بالسلام أو أي شخص مسلم كان على منكر ؛ كمن يدخن مثلا ، هل أبدأه بالسلام وهو يدخن ؟
الحمد لله.
أولا : من الحقوق الثابتة للمسلم على أخيه المسلم : أن يسلم عليه إذا لقيه .
روى مسلم (2163) ، وأحمد (8638) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ )، قِيلَ : مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ) .
ولا يبطل هذه الحقوق وقوع المسلم في بعض الذنوب والمعاصي ، فإن هذا لا يسلم منه أحد ؛ لا سيما إذا كانت من الصغائر واللمم ، أو كان متسترا بما وقع فيه ، مستحييا منه ، نادما عليه.
ولكن إذا وقع المسلم في بعض الكبائر ولم يتب منها ، فهذا هو الذي يشرع هجره ، بشرط أن يكون في هذا الهجر مصلحة .
ويتأكد ذلك الأمر : إذا كان مجاهرا بذنبه ، مستخفا به ، أو داعيا إليه ، ناشرا للفاحشة بين المؤمنين ، فمثل هذا يتأكد في حقه الهجر جدا .
وينظر جواب السؤال رقم : (239089).
والمصلحة من عدم إلقاء السلام على صاحب المعصية ؛ هي تأديب هذا العاصي ، ومحاصرة معصيته ، وحماية المجتمع منها .
فإذا كان عدم إلقاء السلام على العصاة يحقق هذه المصلحة ، فيكون مطلوبا .
أما إذا كان لا يحققها بل يزيد الأمر سوءا ، كأن يكون هذا العاصي صحبته كلهم أهل سوء ، وبعدم تسليمك عليه يحصل نفور بينكما ، فتنفرد به هذه الصحبة ، ولا يجد الناصح ؛ فهنا الأولى إلقاء السلام عليه وتأليف قلبه ، لأن الإعراض عنه في هذه الحالة لا يحقق المقصود ، بل تفوت معه المصلحة .
وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" احتار كثير من المسلمين في مسألة إلقاء السلام من عدمه على العاصي المجاهر حال عصيانه كشرب الدخان ، هل من قاعدة تبين هذه المسألة وأمثالها أفتونا مأجورين ؟
فأجاب :
نعم القاعدة : أولاً : الفسوق لا يخرج الإنسان من الإيمان ، ولا يجوز هجر المؤمن أكثر من ثلاثة أيام ، لكن إذا كان الهجر دواءً له ، بمعنى : أنه إذا رأى أن فلاناً هجره ، أو أن الناس هجروه ، استقام وصلحت حاله : فحينئذٍ يكون الهجر محموداً .
الهجر قد يكون مستحباً ، وقد يكون واجباً ، بحسب ما يترتب عليه ، ولهذا هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه ، وأمر الناس بهجرهم لتخلفهم عن غزوة تبوك ، لكن هذا الهجر نفع أم لم ينفع ؟ نفع ؛ لأنه زادهم لجوءاً إلى الله عز وجل وقوة إيمان ...
فالمهم يا أخي ! أن الهجر إذا كان فيه مصلحة بالنسبة للفاسق : فاهجره ، وإلا : لا تهجره ، لو مررت بشخصٍ يشرب الدخان ، والدخان معصية وحرام ، والإصرار عليه ينزل صاحبه من مرتبة العدالة إلى مرتبة الفسوق سلم عليه ، إذا رأيت أن هجره لا يفيد ، سلم عليه ، ربما إذا سلمت عليه ووقفت معه وحدثته بأن هذا حرام ، وأنه لا يليق بك ، ربما يمتثل ويطفئ السيجارة ولا يعود .
لكن لو أنك لم تسلم عليه : كبُر ذلك في نفسه ، وكرهك ، وكره ما تأتي به من نصيحة .
حتى لو أصر على المعصية : سلم عليه ، وانصحه " .
انتهى من " لقاء الباب المفتوح " ( 165 / 12 ترقيم الشاملة ) .
ثم يتأكد جانب : ترك الهجر ، والمداراة ، والاستصلاح : إذا كان مثل ذلك في زمان ، أو مكان : تضعف فيه السنة ، وأهلها ، وتزداد فيه غربة القائمين عليها ، وتضعف فيها آثار النبوة والرسالة ، والبينات الشرعية .
جاء في "مسائل إسحاق الكوسج" ، للإمام أحمد (2/565) :
" مَن يقولُ : القرآن مخلوق ؟
قَالَ : ألحق به كل بلية . ...
قُلْتُ : فتظهرُ العداوة لهم ، أو تداريهم ؟
قَالَ : أهل خراسان لا يَقْوَوْن بهم ، يقول : كأن المداراة " !! انتهى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وهذا الجواب منه ، مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة ، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة: من الدفع بالتي هي أحسن ، ومخاطبتهم بالحجج يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم ، والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم ...
فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات ...
وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة ؛ فلهذا اختلف حكم الشرع .. بين القادر والعاجز ، وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته ، وقوته وضعفه ، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم من الكفر والفسوق والعصيان.
فإن كل ما حرمه الله فهو ظلم؛ إما في حق الله فقط ، وإما في حق عباده ، وإما فيهما.
وما أمر به من هجر الترك والانتهاء ، وهجر العقوبة والتعزير : إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله .
وإلا ؛ فإذا كان في السيئة حسنة راجحة : لم تكن سيئة .
وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة : لم تكن حسنة؛ بل تكون سيئة .
وإن كانت مكافئة : لم تكن حسنة ، ولا سيئة .
فالهجران : قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة ، التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد .
وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد ، والنهي عن المنكر ، وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا ، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله. فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه ، وتحضها على فعل ضد ظلمه: من الإيمان والسنة ونحو ذلك.
فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ، ولا انتهاء أحد؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرةً مأمورا بها ، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية !!
فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم : سقط الأمر بفعل هذه الحسنة ، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي.
وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة : فلو ترك رواية الحديث عنهم ، لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم.
فإذا تعذر إقامة الواجبات ، من العلم والجهاد وغير ذلك ، إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب ، مع مفسدة مرجوحة معه ؛ خيرا من العكس.
ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل" انتهى من "مجموع الفتاوى" (28/210-212)
وينظر جواب السؤال رقم : (223300) .
ثانيا :
هجر العاصي إنما يشرع إذا كان هذا الشخص يرتكب المعصية ، وهو يعلم أنها معصية ، ولا عذر له فيها .
أما إذا كان جاهلا بحكمها ، أو كان يقلد من يفتي بأنها ليست معصية ، أو كان مكرَهًا ، أو متأولا ، فإنه لا يحكم عليه بأنه فعل معصية ، ولا يكون آثمًا ؛ وحينئذ : لا يكون هجره سائغا، من حيث الأصل .
والأمثلة الثلاثة التي ذكرتها : لا تخرج عن هذا ، في الأعم الأغلب من حال الناس اليوم .
أما إسبال الثياب ، فجمهور العلماء يرون أنه لا يحرم ، إلا إذا فعله الإنسان على سبيل الكبر ، فمن أخذ بهذا القول ، إما اجتهادا وبحثا في الأدلة ، وإما تقليدا : فإنه لا ينكر عليه أصلا ، فضلا عن أن يحكم عليه بأنه عاصٍ ، أو يهجر
وانظر تفصيلا لحكم هذه المسألة في الفتوى رقم : (102260) .
وأما التدخين ، وحلق اللحية : فقد سبق في الموقع بيان الأدلة على تحريم التدخين ، وتحريم حلق اللحية ، انظر الفتوى رقم :(219947) ، (10922) .
ولكن يوجد من المعاصرين من يفتي بأنهما ليسا حراما ، فإذا قلدهما العامي الذي يثق في علمهم من يفتي بذلك ، وليس عنده القدرة على البحث والنظر في الأدلة ، فإنه يكون معذورا إذ (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) .
على أن حلق اللحية يفعله بعض الناس ، وهو يعلم أنه معصية في نفسه ، ولكنه يفعل ذلك مكرها ، إما حقيقة ، وإما يتأول ذلك ، حيث يخشى من بطش بعض الحكومات الجائرة التي تضطهد من يعفي لحيته ؛ فمثل هؤلاء لا نجزم أنهم عصاة ، بل جانب العذر في حقهم : وارد جدا ، والله تعالى بر رحيم ، يحب العذر لعباده ، ولا يعنتهم .
والله أعلم .