عنوان الفتوى : النصيحة مشروعة في أمور الدين الدنيا
هل الصواب شرعًا أن يسكت الإنسان عن أخطاء غيره من الأهل، والأقارب، والأصدقاء، والزملاء، فيما يتعلق بالأخلاق، والسلوك، والتعامل مع الآخرين؟ أم الأفضل أن يتحمل أذيتهم، ويصبر دون أن يقوم بالتنبيه على الخطأ، ودون تقديم النصيحة لعلاجه؟ أم الأفضل التنبيه على التصرف، أو السلوك الخاطئ بالرفق واللين؛ لكي يتم علاج المشكلة في المستقبل؟ فكثير من الناس ربما أخطأ، ولا يعلم أنه أخطأ، ويتكرر منه الخطأ؛ لأنه بمثابة السلوك الذي اعتاد عليه، فهل التنبيه على الخطأ يتنافى مع الصبر المطلوب على الأذى؟ وماذا عن الحديث الذي في الصحيحين: "عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَلَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَلا لِشَيْءٍ لِمَ أَفْعَلْهُ: أَلا فَعَلْتَ كَذَا!" أم أن النصيحة تكون فيما يتعلق بالدين فقط لا في غيره؟ وماذا لو أن الإنسان تمت نصيحته، ولم يرتدع، ويكف عن الأخطاء، فهل أستمر في نصحه، أم أتركه وأصبر عليه إلى ما شاء الله تعالى - جزاكم الله تعالى خيرًا -؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنصيحة المسلمين تشمل كل ما يتعلق بأمور الدين، وأمور الدنيا كذلك، قال النووي نقلا عن الخطابي: وَأَمَّا نَصِيحَة عَامَّة الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلَاة الْأَمْر، فَإِرْشَادهمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتهمْ وَدُنْيَاهُمْ, وَكَفّ الْأَذَى عَنْهُمْ، فَيُعَلِّمهُمْ مَا يَجْهَلُونَهُ مِنْ دِينهمْ, وَيُعِينهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل, وَسِتْر عَوْرَاتهمْ, وَسَدّ خَلَّاتهمْ, وَدَفْع الْمَضَارّ عَنْهُمْ, وَجَلْب الْمَنَافِع لَهُمْ, وَأَمْرهمْ بِالْمَعْرُوفِ, وَنَهْيهمْ عَنْ الْمُنْكَر بِرِفْقٍ وَإِخْلَاصٍ, وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمْ, وَتَوْقِير كَبِيرهمْ, وَرَحْمَة صَغِيرهمْ, وَتَخَوُّلهمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة, وَتَرْك غِشِّهِمْ وَحَسَدِهِمْ, وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْر, وَيَكْرَه لَهُمْ مَا يَكْرَه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَكْرُوه, وَالذَّبّ عَنْ أَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ, وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل, وَحَثّهمْ عَلَى التَّخَلُّق بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاع النَّصِيحَة, وَتَنْشِيط هَمِّهِمْ إِلَى الطَّاعَات.
وعلى ذلك، فالنصيحة مشروعة عمومًا، فتشمل بعمومها ما يتعلق بالأخلاق، والسلوك، والمعاملات، وغير ذلك.
ومن لا ينتبه إلى خطئه في حق غيره إلا إذا نبه، فحري به أن ينصح ويوجه، وهذا لا يتنافى مع الصبر على أذاه، طالما كان النصح بالأسلوب الحسن المناسب، وطالما كان الهدف هو الإصلاح، لا الزجر والانتهار، وللفائدة عن آداب النصيحة انظر الفتوى رقم: 13288.
وأما الحديث المذكور في السؤال: فإنما يفيد استحباب ترك العتاب فيما يتعلق بحق الشخص، لا ترك النصيحة.
قال ابن حجر: وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا تَرْك الْعِتَاب عَلَى مَا فَاتَ; لِأَنَّ هُنَاكَ مَنْدُوحَة عَنْهُ بِاسْتِئْنَافِ الْأَمْر بِهِ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ, وَفَائِدَة تَنْزِيه اللِّسَان عَنْ الزَّجْر، وَالذَّمّ، وَاسْتِئْلَاف خَاطِر الْخَادِم بِتَرْكِ مُعَاتَبَته, وَكُلّ ذَلِكَ فِي الْأُمُور الَّتِي تَتَعَلَّق بِحَظِّ الْإِنْسَان, وَأَمَّا الْأُمُور اللَّازِمَة شَرْعًا فَلَا يُتَسَامَح فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَاب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر.
فظاهر كلام ابن حجر أن المقصود ترك العتاب على ما فات، وهذا لا يمنع النصح فيما يستأنف بعد ذلك.
وعلى ذلك، فينبغي أن يكون همك إسداء النصح لغيرك، والسعي في صلاح حاله، لا أن يكون همك عتابه وانتهاره.
قال ابن الجوزي في كشف المشكل من حديث الصحيحين: اعلم أنه اتفق في هذا ثلاثة أشياء:
أحدها: كون أنس صبيًا، والصبي يصفح عن خطئه.
والثاني: أنه كان عاقلًا، ولهذا قال أبو طلحة: إن أنسًا غلام كيس، أي عاقل، ولقد قالت له أمه: أين تذهب يا أنس؟ قال: في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ما هي؟ قال: إنها سر، ولم يخبرها، ومتى كان الخادم عاقلًا لم يلم، وقد أنشدوا:
إذا كنت في حاجة مرسلا فأرسل حكيمًا ولا توصه
والثالث: حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعفوه، فلهذه الأشياء امتنع لوم أنس.
وأما تكرار النصيحة: فمداره على المصلحة المترتبة على ذلك، وانظر الفتوى رقم: 119075
وليكن همك النصح والإصلاح، لا العتاب والانتهار - كما أوضحنا -.
والله أعلم.