للحقيقة والتاريخ:
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
واحة جغبوب
في مذكرات دولة إسماعيل صدقي باشا
للأستاذ أحمد رمزي بك
1 - تلقى العالم العربي بترحاب مذكرات دولة صدقي باشا لأنها كشفت بعض ما خفي من أسرار السياسة، وأصبحت تتم حلقات الوثائق التاريخية. وقد انتظر الكثيرون أن يكون لها نفس الروعة والأثر اللذين تتركهما في نفس القارئ مذكرات تشرشل وغيره من جبابرة السياسة في القرن العشرين. 2 - والمطلع عليها في مجلة المصور يشهد بأن دولته قد بذل جهداً في تحريرها وجمع موادها بعد مضي فترة طويلة على الحوادث، بدليل أنه لم ينقل إلينا شيئاً واقعياً حياً أو صورة حية لما سجله قلمه وقتئذ، ولكنه تناول بأسهاب بعض المسائل العامة، ومر مروراً على حوادث أخرى.
وإني ألتمس له العذر في ذلك لأن صفحات المجلة لا تتسع لأكثر من ذلك. 3 - ومن قبيل ما تناوله دولته باختصار مسألة واحة جغبوب وخليج السلوم: فقد رسمها بقلمه ليقنع القارئ بأن السياسة الحزبية صورت الاتفاق بصورة سوداء، مع أنه وفق في حل هذه المسألة توفيقاً انتهى به إلى نتائج معلومة سبق أن وضعتها السياسة المصرية أمام أعينها، وأنه بهذا الاتفاق حقق لمصر أهدافاً معينة هي من عمله وحده. 4 - والذي نعلمه هو أن الحدود العثمانية القديمة كانت تجعل السلوم داخل الأراضي الطرابلسية، وأن احتلال السلوم حدث مرتين: الأولى في سنة 1911 بواسطة الجنود المصريين عقب إعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا مباشرة، والأخرى في الحرب العالمية الثانية عقب انسحاب القوات السنوسية منها، وبقيت بيد القوات المصرية منذ ذلك التاريخ إلى أن عقد الاتفاق المشار إليه بين مصر وإيطاليا. 5 - جاء الاحتلال الأول بناء على أوامر كتشنر تنفيذاً للاتفاقات السرية التي عقدتها الحكومة البريطانية مع إيطاليا التي تنص على إدخال جزء من الأراضي العثمانية ف الأراضي المصرية مقابل الحصول على صمت الحكومة البريطانية، وحياد مصر إزاء اعتداء إيطاليا على أملاك الدولة العثمانية في طرابلس. 6 - وهذه الاتفاقات من قبيل اتفاق سنة 1906 الخاص بتعيين حدود مصر الشرقية في سينا: غير أن الأولى سرية مكتومة والثاني اتفاق عام بين مصر المحتلة والدولة التي كانت يوماً ما صاحبة السيادة صورق عليه ونشر على العالم. ولكل منها هدف واحد: هو ضمان الدفاع عن الأراضي المصرية في حالة حرب سواء كان الهجوم من جهة الشرق أو الغرب. 7 - ويعجب القارئ أن هذا الهدف كان من ضمن ما أوصت به قرارات لجنة الدفاع الدائمة للإمبراطورية في وزارة الحربية البريطانية منذ عام 1906، وبعد حرب البوير 1901 وانتهائها مباشرة. 8 - ففي سنة 1915 انتهت حملة الدردنيل بالفشل، واضطرب الحكومة البريطانية إلى إيجاد لجنة تحقيق لمعرفة نتائج أسباب هذه الفشل: واستعرضت اللجنة قرارات وخطط الدفاع البريطانية، فظهر أن تفاصيل حملة مهاجمة المضايق وضعتها وزارة الحربية البريطانية مع اشتراك الأميرالية في عام 1906، وأن مشاكل الدفاع عن الأراضي المصرية درست من ذلك العهد، وأن توصيات لجنة الدفاع نفذت باتفاق 1906 لأبعاد الحدود العثمانية عن منطقة القنال، وكان من ضمن أبحاثها دراسة الحدد الغربية والحصول على خليج السلوم بناء على إلحاح الأميرالية. 9 - والدليل على ذلك اتفاق ملنر - شالوبا بين بريطانيا وإيطاليا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، وهو يؤكد ما ورد بالاتفاقات السرية الخاصة بتوزيع أسلاب الدولة العثمانية بعد الحرب، وفيه تعترف بريطانيا بسيادة إيطاليا على جغبوب، وتعترف إيطاليا بضم السلوم وما يتبعها إلى مصر. 10 - إذن فالمفاوضات التي أشار إليها دولته، وهدد بقطعها وسافر من أجلها، كانت تتناول مسائل شكلية للحدود الجديدة بوضع علامات عليها وتعديلها لإدخال بعض الآثار، ولا تتناول لب الموضوع بل تقر حالة سابقة مهدت لها الدبلوماسية الأوربية كل المراحل بين دولتين عظيمتين تحددان مناطق نفوذهما وقواعد الحوار بينهما، ولم ينقصها سوى إقرار الحكومة المصرية لتسجيل حالة قائمة من المبدأ. 11 - والمستندات والوثائق وأقوال الرجال الذين اشتركوا في هذه المفاوضات كلها تدل على أن الجانب المصري، أخذ الناحية المظهرية لأسباب عدة يرجع معظمها إلى المتاعب الداخلية التي تلقاها الحكومة من المعارضة.
وقد سمعنا هذا من رجال إيطاليين تولوا مناصب هامة، واشتركوا في هذه المفاوضات من المبدأ؛ فقد صرحوا بأن اللجنة المصرية الإيطالية نفذت بالضبط ما كان قد اتفق عليه بين إيطاليا وبريطانيا، وكان موقف الجانب المصري، مظهرياً أكثر منه جدياً: ومنهم السنيور كوخ، وزير إيطاليا المفوض والذي كان يشغل وظيفة مستشار بسفارة أنقرة، وكان من ضمن من اشتركوا في هذه المباحثات. 12 - وعلى كل حال فان موقف دولته إزاء إيطاليا كان مشرباً بروح المودة بدليل زيارته لموسوليني، وهي زيارة لم تكن قاصرة على مسألة السلوم وجغبوب، وإنما كانت لتقدم الشكر على تمهل الدكتاتور سنوات في عدم احتلال واحة جغبوب، حتى يتم الاتفاق مع الحكومة المصرية عليه: وقد حاء هذا بالنص في كتاب (تقويم القوات الإيطالية المسلحة) طبعة 1927 (صفحة 1011): إن الحكومة الإيطالية لم تشأ أن تحتل الواحة عسكرياً قبل أن تحصل على اعتراف الحكومة المصرية لها بهذا الحق).
هذا طبعاً حفظاً لتقاليد الوداد التي لا تريد أن تمسها: ولا نستبعد أن يكون الثمن الذي طلبه الدكتاتور بصبره الطويل، هو إتمام هذه الزيارة، وكان يهمه موافقة بريطانيا عليها. 13 - ذلك لأنه كان في وسعها احتلال جغبوب بعد اتفاق (ملنر شالوبا) مباشرة، ولكنه انتظر حتى تم امضاء الاتفاق المصري، فاحتلت جغبوب يوم 7 فبراير سنة 1926 بقوتين مسلحتين قامتا في وقت واحد، إحداهما من طبرق، والأخرى من البردية، وتلاقتا في الواحة، لإسدال الستار على مأساة بدأت في عام 1902 حينما دخلت إيطاليا في مفاوضات مع دول الاتفاق الثنائي فرنسا وروسيا.
والذي أصبح ثلاثيا بانضمام بريطانيا إليه نهائياً، ولا تخلو فترة ولا مرحلة فيه من دون تفاهم واتفاق على احتلال أماكن استراتيجية، أو الاعتداء على حق من حقوق الأمم المظلومة: ثمناً لخروج إيطاليا من تحالف، ودخولها في تحالف مضاد للدول أحمد رمزي