أرشيف المقالات

(34) «مؤسس جماعة المرابطين» عبد اللَّه بن ياسين - مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
كلما غوَّرت أكثر في هذا الكتاب اكتشفت العجب!
كنت أعلم منذ البداية أن عظماء هذه الأمة لديهم من الخصائص ما يجمعهم ويوحدهم تحت سقف واحد، ولكن ما كنت أجهله فعلًا هو ذلك الشبه العجيب الذي يتكرر تباعًا بين عظماء أمة الإسلام المائة، وكأنهم وُلدوا إخوانًا! أو كأنهم خُلقوا جميعًا من نفس الجينات البشرية! فالقصص تتكرر بشكلٍ عجيب أذهلني شخصيًا.

فعندما بدأت كتابة هذا الكتاب وقررت أن أصل بين كل عظيم والعظيم الذي يليه، ساورني بعض الشك في إمكانية ربط أناسٍ من بلدان مختلفة وأعراق مختلفة وأزمانٍ مختلفة، ولكنني أعترف أنه إلى حد الآن -وبعد أن أنجزت ما يقرب من ثلث هذا الكتاب- لم أجد صعوبة تذكر في ربطٍ أي منهم بالآخر!
بل إن الشيء الأعجب في الأمر، والذي لا يعرفه القارئ الكريم، أنني لا أمتلك أي خطة عمل في ترتيب العظماء المائة! فكاتب هذا الكتاب مثل قارئه لا يعرف من سيأتي بعد ذلك! فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يكن ضمن حساباتي مثلًا أن أكتب عن هذا العظيم الإسلامي في هذا الموضع، وإنما جاءت فكرة الكتابة عنه قبل عدة ساعات وفي نفس هذا اليوم الذي انتهيت فيه من الكتابة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب!
فالقصة بينهما ليست متشابهة فحسب، بل إنها تكاد تكون متطابقة تمامًا، ولكن مع تغييرٍ في مسرح الأحداث من صحراء نجدٍ في جزيرة العرب إلى صحراء موريتانيا في الغرب الأفريقي، وتغييرٍ في الزمان من القرن الثاني عشر الهجري إلى الخامس الهجري.
هناك في أقصى الجنوب الموريتاني كانت أحوال المسلمين مزريةً للغاية، فبالرغم من دخول قبائل "صنهاجة" البربرية في الإسلام منذ فجر الفتوحات على يد الفاتح الإسلامي الأموي (عقبة بن نافع)؛ 
إلا أن الإسلام الصحيح ضاع بين البربر هناك مع مرور الزمن وبُعد المكان عن مهبط الوحي وانعزاله خلف كثبان الصحراء الكبرى، فتبرك المسلمون هناك بالقبور، ودعا الناس الأولياء الصالحين من دون اللَّه، وأدمنوا شرب الخمور، وانتشر الزنى بينهم بشكلٍ رهيب، حتى أن الرجل كان يجامع خليلة جاره من دون أن يعترض زوجها على ذلك!
وامتنع الناس عن أكل لحم الخنزير، ولكنهم أكلوا لحم الخنزيرة!!! وكان لقبيلة "جُدالة" وهي فرعٌ من فروع "صِنهاجة" شيخ بفطرةٍ طيبة اسمه الشيخ (يحيى بن إبراهيم الجدالي)، فأراد هذا الشيخ أن يصلح من حال قبيلته، ولكنه لم يكن يعلم من أمور الدين الكثير، فذهب إلى الحج ، وفي طريق عودته مرَّ على "القيروان" في تونس، وقصَّ على علمائها أمر قومه وما هم عليه من الضلال والبعد عن شرع اللَّه، فبعثوا معه رجلًا من البربر اسمه الشيخ (عبد اللَّه بن ياسين) لكي يُرجع أهل جدالة إلى التوحيد الذي جاء به محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛
فأخذ الشيخ عبد اللَّه ابن ياسين يدعوهم إلى عبادة اللَّه وحده وترك الدعاء عند القبور، فطلب الناس منه أن يتركهم وشأنهم وأن يعود من حيث أتى، لكن الشيخ رفض ترك الدعوة ، فحرق الناس بيته، وطردوه خارج القبيلة وهددوا الشيخ يحيى بن إبراهيم بنفس المصير إن هو ساعده، فأصبح الشيخ عبد اللَّه بن ياسين طريدًا في صحراء موريتنيا، وأصبح بين خيارين، إما العودة أو الاستمرار؛
فاختار الشيخ ابن ياسين خيار الأنبياء، وهو الطريق الأصعب بطبيعة الحال، ولو أنه اختار الطريق السهل، لمات مجهولًا في حدائق القيروان، ولما كُتبت هذه الحروف عنه بعد ما يقارب الألف عام من وفاته، فبدلًا من أن يتجه الشيخ عبد اللَّه ابن ياسين إلى الشمال حيث تلال تونس الخضراء، غوَّر جنوبًا في أدغال أفريقيا ليعبر نهر السنغال، وهناك في غابة من غاباتها، أقام خيمةً ورابط فيها، فكانت خيمة الرباط الأولى، ثم بعث رسالة إلى أهل جدالة يخبرهم فيها أنه من أراد تعلم دين اللَّه فليأته في رباطه في أرض السنغال، فخرج خمسة شباب من جدالة خفية واتجهوا نحو السنغال، ورابطوا مع الشيخ ابن ياسين في خيمته، فأخذ الشيخ يعلمهم معنى التوحيد، فاقتنع الشباب الخمسة بدعوة الشيخ، فذهبوا إلى جدالة وأحضروا عائلاتهم، وبنى كل منهم خيمة يرابط بها بعد أن روى لهم الشيخ حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- «رباط يومٍ وليلةٍ خير من صيام شهرٍ وقيامه»، ثم جاء خمسة شباب آخرين؛ فصار المرابطون عشرة، ثم صاروا عشرين، فمائة، فوضع الشيخ لجماعة المرابطين برنامجًا قاسيًا في التربية ، فكان عليهم قيام الليل ، وصيام النهار، وحفظ القرآن، وصيد طعامهم من غابات السنغال بأيديهم، فصار الشيخ يعلمهم فنون القتال بنفسه، وما هي إلا أربعة أعوامٍ حتى صار بين يدي الشيخ عبد اللَّه بن ياسين ألف رجل من المرابطين الأشداء السليمي العقيدة ، وفي هدية من هدايا اللَّه سبحانه وتعالى، يؤمن زعيم قبيلة "لنتونة" وهي فرعٌ آخر من فروع "صنهاجة"، كان هذا الرجل اسمه (يحيى بن عمر اللنتوني)، ليدخل هذا الشيخ جزاه اللَّه كل خير بين يومٍ وليلة جميع رجال قبيلته المقدر عددهم بسبعة آلاف رجل في جماعة المرابطين، في الوقت الذي احتاج فيه الشيخ المجاهد عبد اللَّه بن ياسين إلى أربع سنواتٍ ليجمع فيها ألف مرابط فقط! وبعدها بأيام يموت الشيخ يحيى بن عمر اللنتوني رحمه اللَّه بعد أن أدخل قبيلةً كاملة إلى دين التوحيد، ويالها من خواتيم!
وبعد ذلك دخلت "جدالة" كلها مع المرابطين، ليصبح عدد المرابطين اثني عشر ألفا، لينشر ابن ياسين المرابطين بين القبائل البربرية يدعوهم إلى دين اللَّه الصحيح من جديد، وفي إحدى طلعاته، أغارت قبيلة من القبائل المبتدعة على الشيخ ومن معه من المرابطين، فطلب المرابطون منه أن يبقى في خيمته ليقوموا هم بحمايته، إلّا أن الشيخ المجاهد عبد اللَّه بن ياسين تناول سيفه ولبس عدة القتال وقال للمرابطين من حوله: "إني لأرجوا أن يرزقني اللَّه الشهادة ، فإذا قتلت فادفنوني في نفس المكان الذي أسقط فيه" وفعلًا استشهد الشيخ البطل عبد اللَّه بن ياسين في ميدان الجهاد ، ودُفن رحمه اللَّه في مكان استشهاده كما أوصى.

فما الذي حصل لجماعة المرابطين بعد مقتل زعيمها؟ وكيف تطورت جماعة المرابطين التي بدأت بخيمة على نهر السنغال لكي تصبح أكبر إمبراطورية عرفتها أفريقيا وأوروبا؟ ومن يكون ذلك الرجل العظيم الذي أدخل بمفرده خمسة عشر دولة أفريقية في دين اللَّه؟
يتبع.

.

.

________________________________
المصدر: كتاب العظماء المائة
المؤلف: جهاد الترباني

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١