بيع المصحف
مدة
قراءة المادة :
38 دقائق
.
بيع المصحف "المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع"
قوله: (وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة...) إلى قوله: (ولا يصح بيع المُصْحَف...) إلى آخره[1].
قال في «الإفصاح»: «واتفقوا على أن شراء المصحف جائز[2]، واختلفوا في بيعه، فكرهه أحمد[3] وَحْده، وأباحه الآخرون[4] من غير كراهة»[5].
وقال ابن رشد: «وإذا اعتبرت الأسباب التي من قِبَلِهَا وَرَدَ النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وُجِدَتْ أربعة:
أحدها: تحريم عين المبيع.
والثاني: الربا.
والثالث: الغَرَر.
والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين أو لمجموعهما.
وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد، وذلك أن النهي إنما تعلَّق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع، لا لأمر من خارج، وأما التي وَرَدَ النهي فيها لأسباب من خارج:
فمنها: الغِشُّ.
ومنها: الضرر.
ومنها: لمكان الوقت المستحق بما هو أهمُّ منه.
ومنها: لأنها محرمة البيع.
ففي هذا الجزء أبواب:
الباب الأول: في الأعيان المحرَّمة البيع، وهذه على ضربين: نجاسات، وغير نجاسات، فأما بيع النجاسات فالأصل في تحريمها: حديث جابر – ثبت في «الصحيحين» - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن، ويُستصبح بها؟ فقال: (لعن الله اليهود؛ حرمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا أثمانها)[6].
وقال في الخمر: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها)[7].
والنجاسات على ضربين:
ضربٌ اتفق المسلمون على تحريم بيعها، وهي الخمر[8]إلا خلافاً شاذّاً في الخمر، أعني: في كونها نجسة، والميتة بجميع أجزائها التي تَقبل الحياة[9]، وكذلك الخنزير بجميع أجزائه التي تَقبل الحياة[10].
واختلف في الانتفاع بشعره، فأجازه ابن القاسم، ومنعه أصبغ[11] [315ب].
وأما القسم الثاني: وهي النجاسات التي تدعو الضرورة إلى استعمالها؛ كالرجيع والزِّبْل الذي يُتخذ في البساتين، فاختلف في بيعها في المذهب[12]:
فقيل: بمنعها مطلقاً.
وقيل: بإجازتها مطلقاً.
وقيل: بالفرق بين العَذِرَة والزِّبْل، أعني: إباحة الزبل ومنع العذرة.
واختلفوا فيما يتخذ من أنياب الفيل؛ لاختلافهم هل هو نجس أم لا؟
فمن رأى أنه نابٌ جعله ميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن، والخلاف فيه في المذهب[13].
وأما ما حُرِّم بيعه مما ليس بنجس أو مختلف في نجاسته، فمنها: الكلب والسِّنَّور.
أما الكلب فاختلفوا في بيعه:
فقال الشَّافعيُّ[14]: لا يجوز بيع الكلب أصلاً.
وقال أبو حنيفة[15]: يجوز ذلك.
وفرَّق أصحاب مالك[16] بين كلب الماشية والزرع المأذون في اتخاذه وبين ما لا يجوز اتخاذه...
إلى أن قال: وأما النهي عن ثمن السِّنَّور فثابِت، ولكن الجمهور[17] على إباحته؛ لأنه طاهر العين مباح المنافع.
فسبب اختلافهم في الكلاب تعارض الأدلة.
ومن هذا الباب: اختلافهم في بيع الزيت النجس وما ضارعه بعد اتفاقهم على تحريم أكله.
فقال مالك[18]: لا يجوز بيع الزيت النجس، وبه قال الشَّافعيُّ[19].
وقال أبو حنيفة[20]: يجوز إذا بُيِّن، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك[21].
وحُجَّةُ من حرَّمه: حديث جابر المتقدم: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح [316أ]: (إن الله ورسوله حرَّما الخمرَ والميتةَ والخنزير)[22].
وعُمدة من أجازه: أنه إذا كان في الشيء أكثر من منفعة واحدة وحُرِّم منه واحدة من تلك المنافع أنه ليس يلزمه أن يحرم منه سائر المنافع، ولا سيما إذا كانت الحاجة إلى المنفعة غير المُحرَّمة كالحاجة إلى المُحرَّمة، فإذا كان الأصل هذا يخرج منه الخمر والميتة والخنزير، وبقيت سائر مُحرَّمات الأكل على الإباحة، أعني: أنه إن كان فيها منافع سوى الأكل فبيعت لهذا جاز.
ورَوَوْا عن علي وابن عباس وابن عمر: أنهم أجازوا بيع الزيت النَّجِس ليستصبح به[23].
وفي مذهب مالك[24]: جواز الاستصباح به وعمل الصابون مع تحريم بيعه.
وأجاز ذلك الشَّافعيُّ[25] أيضاً مع تحريم ثمنه.
وهذا كلُّه ضعيف، وقد قيل: إن في المذهب رواية أخرى تمنع الاستصباح به، وهو ألزم للأصل، أعني: لتحريم البيع.
واختلف أيضاً في المذهب[26] في غسله وطبخه، هل هو مؤثِّر في عين النجاسة ومُزيلٌ لها؟ على قولين:
أحدهما: جواز ذلك.
والآخر: منعه.
وهما مبنيان على أنَّ الزيت إذا خالطته النجاسة هل نجاسته نجاسة عين أو نجاسة مجاوَرَة؟
فمن رآه نجاسة مجاورة طهَّره عند الغَسل والطبخ.
ومن رآه نجاسة عين لم يطهره عنده الطبخ والغَسل.
ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب: اختلافهم في جواز بيع لبن الآدميَّة إذا حُلِب:
فمالك[27] والشافعي[28] يُجوِّزانه.
أبو حنيفة[29] لا يجوِّزه.
وعُمدة من أجاز بيعه: أنه لبن أُبيح شربه فأبيح بيعه قياساً على لبن سائر الأنعام.
وأبو حنيفة يرى أن تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه، وأنه في الأصل مُحرَّم؛ إذ لحم ابن آدم مُحرَّم، والأصل عندهم: أن الألبان تابعة للحوم، فقالوا في قياسهم: هكذا الإنسان حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يَجُزْ بيع لبنه، أصله: لبن الخنزير والأتان.
فسبب اختلافهم في هذا الباب: تعارض أقيسة الشَّبَه، وفروع هذا الباب كثيرة، وإنما نذكر من المسائل في كل باب المشهور؛ ليجري ذلك مجرى الأصول »[30].
وقال في «الإفصاح»: «واتَّفَقُوا على أن بَيْعَ العين الطاهرة صحيح[31].
واختلفوا في العين النجسة في نفسها:
فقال مالك[32] والشافعي[33] وأحمد[34]: لا يجوز بيعها، واستثنى مالك[35] جواز بيع ما فيه المنفعة منها كالكلب المأذون في اتخاذه شرعاً، وكالسِّرْجِين على الرواية التي يقول: إنما هو نجس مع الكراهية، ومن أصحابه من منع الجواز على الإطلاق.
وقال أبو حنيفة[36]: يجوز بيع الكلب والسِّرْجين النجس، والزيت النجس، والسمن النجس »[37] [316ب].
«واختلفوا في جواز بيع آلة الملاهي:
فقال مالك[38] وأحمد[39]: لا يجوز بيعها، ولا ضمان على مُتِلفِها.
وقال أبو حنيفة[40]: يجوز بيعها، ويضمن متلفها ألواحاً غير مؤلَّفة تأليفاً يُلهي.
وقال الشَّافعيُّ[41]: لا يَصِحُّ بيعها، وإن أتلفها إتلافاً شرعيّاً فلا ضمان عليه »[42].
وقال البخاريُّ: «باب: جلود الميتة قبل أن تُدبغ.
وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بشاة ميتة، فقال: (هلا استمتعتم بإِهَابِهَا)، قالوا: إنها ميتة، قال: (إنما حرم أكلها)[43] ».
قال الحافظ: «قوله: (باب: جلود الميتة قبل أن تدبغ) أي: هل يَصِحُّ بيعها أم لا؟
أورد فيه حديث ابن عباس في شاة ميمونة، وكأنه أخذ جواز البيع من جواز الاستمتاع؟ لأن كلَّ ما يُنتفع به يَصِحُّ بيْعُهُ وما لا فلا، وبهذا يُجاب عن اعتراض الإسماعيلي بأن ليس في الخبر الذي أورده تعرُّضٌ للبيع والانتفاع بجلود الميتة مطلقاً قبل الدِّبَاغ وبعده مشهور من مذهب الزهريِّ، وكأنه اختيار البخاريِّ، وحُجَّتُهُ مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما حرم أكلها)، فإنه يدل على أن كل ما عدا أكلها مباح »[44].
وقال البخاريُّ أيضاً: «باب: قتل الخنزير، وقال جابر: حرَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيع الخنزير.
حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدثنا الليث، عن ابن شهابٍ، عن ابن المسيب، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحدٌ)[45] ».
قال الحافظ: «قوله: (باب: قتل الخنزير) أي: هل يُشْرَعُ كما شرع تحريم أكله؟ ووجه دخوله في أبواب البيع: الإشارة إلى أنَّ ما أُمِرَ بقتله لا يجوز بيعه.
قال ابن التين: شذَّ بعض الشافعية[46] فقال: لا يقتل الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة، قال: والجمهور[47] على جواز قتله مطلقاً »[48].
وقال البخاريُّ أيضاً: «باب: لا يُذاب شحم الميتة ولا يُباع وَدَكه، رواه جابرٌ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينارٍ، قال: أخبرني طاوسٌ: أنه سمع ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً، فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود؛ حُرِّمت عليهم الشحوم فجَمَلوها فباعوها)[49]».
قال الحافظ: «في رواية مسلم: أن سَمُرَة باعَ خمراً[50]، قال ابن الجوزي[51] والقُرطبي[52] وغيرهما: اخْتُلِفَ في بيع سَمُرة للخمر على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية، فباعها منهم معتقداً جواز ذلك.
والثاني: قال الخطابي[53]: يجوز أن [317أ] يكون باع العصير ممن يتَّخذه خمراً.
والثالث: أن يكون خَلَّلَ الخمرَ وباعها، قال القُرطبي تبعاً لابن الجوزي: والأشبه الأول.
قال الحافظ: ولا يتعيَّن على الوجه الأول أخذها عن الجزية، بل يحتمل أن تكون حصلت له عن غنيمة أو غيرها.
وقد أبدى الإسماعيلي في «المدخل» فيه احتمالاً آخر: وهو أن سَمُرَة علم تحريم الخمر ولم يعلم تحريم بيعها؛ ولذلك اقتصر عُمر على ذَمِّهِ دون عقوبته.
قوله: (حُرِّمَتْ عليهم الشُّحوم)، أي: أَكْلُها وإلا فلو حُرِّم عليهم بيعها لم يكن لهم حيلة فيما صنعوه من إذابتها، ووجه تشبيه عمر بيع المسلمين الخمر ببيع اليهود المذاب من الشحم: الاشتراك في النهي عن تناول كل منهما، لكن ليس كل ما حُرِّم حُرِّم بيعه، كالحُمُر الأهلية، وسباع الطير، فالظاهر: أن اشتراكهما في كون كل منهما صار بالنهي عن تناوله نجساً.
هكذا حكاه ابن بطَّال عن الطبري وأقره[54]، وليس بواضح، بل كل ما حُرِّم تناوله حُرِّم بيعه، وتناول الحُمُر والسباع وغيرهما مما حُرِّم أكله إنما يتأتَّى بعد ذبحه، وهو بالذبح يصير ميتة؛ لأنه لا ذكاة له، وإذا صار ميتة صار نجساً ولم يَجُزْ بيعه فالإيراد في الأصل غير وارد، هذا قول الجمهور[55]، وإن خالف في بعضه بعض الناس...
إلى أن قال: واستُدل به على مَنْعِ بَيْعِ كُلِّ محرَّم نجس ولو كان فيه منفعة كالسِّرْقين.
وأجاز ذلك الكوفيون[56].
وذهب بعض المالكية[57] إلى جواز ذلك للمشتري دون البائع؛ لاحتياج المشتري دونه »[58].
وقال البخاريُّ أيضاً: «باب: بيع التصاوير التي ليس فيها روحٌ، وما يُكره من ذلك.
حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا يزيد بن زريعٍ، أخبرنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كنت عند ابن عباسٍ رضي الله عنه إذْ أتاه رجلٌ فقال: يا أبا عباسٍ، إني إنسانٌ، إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير؟ فقال ابن عباسٍ: لا أحدِّثكَ إلا ما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول: (مَن صوَّر صورةً فإن الله معذِّبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخٍ فيها أبداً)، فربا الرجل ربوةً شديدةً، واصفر وجهه، فقال: ويحك، أنْ أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كل شيءٍ ليس فيه رُوحٌ[59]».
قال الحافظ: «قوله: (باب: بيع التصاوير التي ليس فيها روح، وما يكره من ذلك)، أي: من الاتخاذ أو البيع أو الصنعة أو ما هو أعمُّ من ذلك.
والمراد بالتصاوير: الأشياء التي تُصَوَّرُ، وثبت في رواية مسلم: فاصنع الشجر وما لا نفس له[60] »[61] [317ب].
وقال البخاري أيضاً: «باب: بيع الميتة والأصنام.
وذكر حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – وهو بمكة عام الفتح -: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)، فقيل: يا رسول الله، أرأيتَ شحوم الميتة فإنها يُطلى بها السفن، ويُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: (لا، هو حرامٌ)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)[62]».
قال الحافظ: «قوله: (باب: بيع الميتة والأصنام)، أي: تحريم ذلك، ونقل ابن المنذر وغيره[63]: الإجماعَ على تحريم بيع الميتة، ويُستثنى من ذلك السمك والجراد.
قوله: (أرأيتَ شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفنُ، ويُدهن بها الجلودُ، ويستصبح بها الناس)، أي: فهل يحلُّ بيعها لما ذكر من المنافع؟ فإنها مقتضية لصحة البيع.
قوله: (فَقَالَ: (لا، هو حَرَامٌ)، أي: البيع، هكذا فسَّره بعض العلماء كالشَّافعيِّ[64]، ومن اتبعه.
ومنهم من حمل قوله: (هو حرام) على الانتفاع، فقال: يحرم الانتفاع بها، وهو قول أكثر العلماء[65]، فلا ينتفع من الميتة أصلاً عندهم إلا ما خص بالدليل وهو الجلد المدبوغ.
واختلفوا فيما يتنجس من الأشياء الطاهرة:
فالجمهور[66] على الجواز.
وقال أحمد[67] وابن الماجشون[68]: لا ينتفع بشيء من ذلك.
واستدل الخطابي[69] على جواز الانتفاع بإجماعهم على أنَّ من ماتت له دابة ساغ له إطعامها لكلاب الصيد، فكذلك يَسُوغ دَهْنُ السفينة بشحم الميتة ولا فرق.
قوله: (ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (قاتل الله اليهود...) إلى آخره، وسياقه مُشْعِر بقوة ما أوَّله الأكثر: أن المراد بقوله: (هو حرام): البيع لا الانتفاع.
وروى أحمد والطبرانيُّ من حديث ابن عمر مرفوعاً: (الويل لبني إسرائيل؛ إنه لما حُرِّمت عليهم الشحوم باعوها فأكلوا ثمنها، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام)[70].
وأخرج أبو داود عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال – وهو عند الركن -: (قاتل الله اليهود؛ إن الله حرَّم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرَّم على قوم أَكْلَ شيء حَرَّم عليهم ثمنه)[71].
قال جمهور العلماء: العِلَّةُ [318أ] في منع[72] بيع الميتة والخمر والخنزير: النجاسة، فيتعدَّى ذلك إلى كل نجاسة، والعِلَّة في بيع الأصنام: عدم المنفعة المباحة.
والظاهر: أن النهي عن بيعها للمبالغة في التنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم، الصلبان التي تعظمها النصارى، ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته.
ويُستثنى من الميتة عند بعض العلماء: ما لا تحله الحياة كالشعر والصوف والوبر فإنه طاهر فيجوز بيعه، وهو قول أكثر المالكية[73] والحنفية[74]، وزاد بعضهم العظم والسِّنُّ والقرن والظِّلف.
وقال بنجاسة الشعور: الحسن والليث والأوزاعي، ولكنها تطهر عندهم بالغسل، وكأنها متنجسة عندهم بما يتعلَّق بها من رُطوبات الميتة لا نجسة العين، ونحوه قول ابن القاسم[75] في عظم الفيل أنه يَطْهُرُ إذا سُلِقَ بالماء »[76] انتهى مُلخصاً.
وقال البخاريُّ أيضاً: «باب: ثمن الكلب.
وذكر حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: ([أن رسول الله صلى الله عليه وسلم][77] نهى عن ثمن الكلب، ومهر البَغِي، وحُلْوَان الكاهن)[78].
وحديث شعبة: قال: أخبرني عون بن أبي جحيفة، قال: رأيت أبي اشترى حجَّاماً [فأمر بمحاجمه فكسرت][79] فسألتُه عن ذلك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب الأَمَة، ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومُوَكِّلَه، ولعنَ المصوِّر[80]».
قال الحافظ: «وظاهر النهي تحريم بيع الكلب، وهو عامٌّ في كل كلب، مُعلَّماً كان أو غيره؛ مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومن لازِم ذلك أن لا قيمة على متلفه، وبذلك قال الجمهور[81].
وقال مالك[82]: لا يجوز بيعه وتجب القيمة على متلفه.
وعنه: كالجمهور.
وعنه: كقول أبي حنيفة[83]: يجوز، وتجب القيمة.
وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره.
وروى أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعاً: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: (إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفَّه تراباً)[84]، وإسناده صحيح.
وروى أيضاً بإسنادٍ حسنٍ، عن أبي هريرة مرفوعاً: (لا يحل ثمن الكلب، ولا حُلْوَان الكاهن، ولا مهر البغي)[85].
والعلة في تحريم بيعه عند الشافعي: نجاسته مُطلقاً، وهي قائمة في المُعلَّم وغيره.
وعِلَّة المنع عند من لا يرى نجاسته النهي عن اتخاذه والأمر بقتله؛ ولذلك خَصَّ منه ما أذن في اتخاذه.
ويدلُّ عليه: حديث جابر: قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد[86]، أخرجه النسائي بإسناد رجاله ثقات، إلا أنه طعن في صحته.
وقد وقع في حديث ابن عمر عند ابن أبي حاتم بلفظ: نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضارياً[87] [318ب] – يعني: مما يصيد – وسنده ضعيف، قال أبو حاتم: هو منكر.
وفي رواية لأحمد: نهى عن ثمن الكلب، وقال: (طُعْمَة جاهلية)[88]، ونحوه للطبراني من حديث ميمونة بنت سعد[89].
وقال القرطبي[90]: مشهور مذهب مالك[91]: جواز اتخاذ الكلب وكراهية بيعه، ولا يفسخ إن وقع.
وكأنه لما لم يكن عنده نجساً، وأذن في اتخاذه؛ لمنافعه الجائزة، كان حكمه حكم جميع المبيعات لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهاً؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق.
قال: وأما تسويته في النهي بينه وبين مهر البغي وحُلوَان الكاهن فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه.
وعلى تقدير العموم في كل كلب، فالنهي في هذه الثلاثة في القدر المشترك من الكراهة أعم من التنزيه والتحريم؛ إذ كل واحدٍ منهما منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، فإنا عرفنا تحريم مهر البغي وحُلْوَان الكاهن من الإجماع لا من مجرد النهي، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه، إذ قد يُعطف الأمر على النهي والإيجاب على النفي »[92].
[1] الروض المربع ص234.
[2] حاشية ابن عابدين 5/111.
والشرح الصغير 2/5، وحاشية الدسوقي 3/7.
وتحفة المحتاج 4/213، ونهاية المحتاج 3/389.
وشرح منتهى الإرادات 3/129، وكشاف القناع 7/316.
[3] شرح منتهى الإرادات 3/128، وكشاف القناع 7/315 – 316.
[4] حاشية ابن عابدين 5/111.
والشرح الصغير 2/5، وحاشية الدسوقي 3/7.
وتحفة المحتاج 4/231، ونهاية المحتاج 3/389.
[5] الإفصاح 2/47.
[6] البخاري (2236)، ومسلم (1581).
[7] رواه مسلم (1579)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] الإجماع (470).
وفتح القدير 5/186و 187، وحاشية ابن عابدين 5/58، والشرح الصغير 1/24، وحاشية الدسوقي 3/15.
وتحفة المحتاج 4/234 – 235، ونهاية المحتاج 3/392 – 393.
وشرح منتهى الإرادات 3/157، وكشاف القناع 7/313.
[9] الإجماع (469).
وفتح القدير 5/186 – 187، وحاشية ابن عابدين 5/53 – 54.
والشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
وتحفة المحتاج 4/234و 235، ونهاية المحتاج 3/392و 393.
وشرح منتهى الإرادات 3/128.
وكشاف القناع 7/317.
[10] الإجماع (472).
وفتح القدير 5/202، وحاشية ابن عابدين 5/58.
والشرح اصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
وتحفة المحتاج 4/234و 235، ونهاية المحتاج 3/392و 393.
وشرح منتهى الإرادات 3/121، وكشاف القناع 7/317.
[11] مواهب الجليل 4/262.
[12] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
[13] الشرح الصغير 1/21، وحاشية الدسوقي 1/54و 55.
[14] تحفة المحتاج 4/234و 235، ونهاية المحتاج 3/392و 393.
[15] فتح القدير 5/357، وحاشية ابن عابدين 5/239.
[16] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/11.
[17] فتح القدير 5/357، وحاشية ابن عابدين 5/239.
والشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/11.
وتحفة المحتاج 4/238، ونهاية المحتاج 3/396.
وشرح منتهى الإرادات 3/127، وكشاف القناع 7/310.
[18] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
[19] تحفة المحتاج 4/235و 236، ونهاية المحتاج 3/393.
[20] فتح القدير 5/357، وحاشية ابن عابدين 5/77.
[21] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
[22] أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581).
[23] أخرجه ابن أبي شيبة 8/93 – 95، والدارقطني 4/292، والبيهقي 9/354، من حديث علي، وابن عباس، وابن عمر، وأنس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[24] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 1/61.
[25] تحفة المحتاج 4/236، ونهاية المحتاج 2/384.
[26] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
[27] مواهب الجليل 4/265.
[28] تحفة المحتاج 4/291، ونهاية المحتاج 3/445.
[29] فتح القدير 5/201، وحاشية ابن عابدين 5/75.
[30] بداية المجتهد 2/116 – 119.
[31] مراتب الإجماع 1/83.
وفتح القدير 5/186، وحاشية ابن عبادين 5/58.
والشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
وتحفة المحتاج 4/234و 235، ونهاية المحتاج 3/392و 393.
وشرح منتهى الإرادات 3/126، وكشاف القناع 7/307و 308.
[32] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
[33] تحفة المحتاج 4/234و 235، ونهاية المحتاج 3/392و 393.
[34] شرح منتهى الإرادات 3/128، وكشاف القناع 7/317و 318.
[35] الشرح الصغير 2/6و 7، وحاشية الدسوقي 3/11.
[36] فتح القدير 5/357، وحاشية ابن عابدين 5/239و 5/77.
[37] الإفصاح 2/23و 24.
[38] الشرح الصغير 2/6، ومنح الجليل 2/476.
[39] شرح منتهى الإرادات 3/129، وكشاف القناع 7/317.
[40] بدائع الصنائع 7/167، وحاشية ابن عابدين 6/224و 225.
[41] تحفة المحتاج 4/238و 239، ونهاية المحتاج 3/396.
[42] الإفصاح 2/32و 33.
[43] البخاري (2221).
[44] فتح الباري 4/413و 414.
[45] البخاري (2222).
[46] طرح التثريب 7/266.
[47] المبسوط 4/92.
والشرح الصغير 1/321و 322، وحاشية الدسوقي 2/108.
وتحفة المحتاج 1/290، ونهاية المحتاج 1/237.
وشرح منتهى الإرادات 4/189، وكشاف القناع 14/365.
[48] فتح الباري 4/414.
[49] البخاري (2223).
[50] مسلم (1582).
[51] كشف المشكل 1/77.
[52] المفهم 4/467.
[53] أعلام الحديث 2/1101.
[54] شرح صحيح البخاري 6/345و 346.
[55] فتح القدير 5/202 – 204 ، وحاشية ابن عابدين 1/344و 345.
والشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
وتحفة المحتاج 4/234 – 236، ونهاية المحتاج 3/392 – 394.
وشرح منتهى الإرادات 3/128، وكشاف القناع 7/317و 318.
[56] فتح القدير 8/122، وحاشية ابن عابدين 6/407و 408.
[57] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
[58] فتح الباري 4/414 – 416.
[59] البخاري (2225).
[60] مسلم (2110).
[61] فتح الباري 4/417.
[62] البخاري (2236).
[63] الإجماع (469).
وفتح القدير 5/186و 187، وحاشية ابن عابدين 5/53و 54.
والشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
وتحفة المحتاج 4/234و 235، ونهاية المحتاج 3/392و 393.
وشرح منتهى الإرادات 3/128، وكشاف القناع 7/317.
[64] تحفة المحتاج 3/32 – 33، ونهاية المحتاج 2/384و 385.
[65] فتح القدير 5/203، وحاشية ابن عابدين 1/344و 345.
والشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
وشرح منتهى الإرادات 3/128، وكشاف القناع 7/318.
[66] فتح القدير 5/203.
والشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
وتحفة المحتاج 4/235 – 237، ونهاية المحتاج 3/393 – 394.
وشرح منتهى الإرادات 3/128، وكشاف القناع 7/319.
[67] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 11/54، وكشاف القناع 7/318.
[68] الشرح الصغير 2/6، وحاشية الدسوقي 3/10.
[69] أعلام الحديث 2/1107.
[70] أحمد 2/117.
وأخرجه أيضاً مسدد في مسنده كما في إتحاف الخيرة المهرة 3/335 (2858)، من طريق عبد الواحد البُناني، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
قال الهيثمي في المجمع 4/88: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح؛ خلا عبد الواحد، وقد وثقه ابن حبان.
قال البوصيري: رجال إسناده ثقات.
[71] أبو داود (3488).
قال ابن الملقن في تحفة المحتاج 2/204 (1177): إسناده صحيح.
[72] ليست في الأصل، واستدركت من الفتح.
[73] الشرح الصغير 1/20، وحاشية الدسوقي 1/49.
[74] فتح القدير 5/203، وحاشية ابن عابدين 5/77.
[75] مواهب الجليل 1/102 – 103.
[76] فتح الباري 4/424 – 426.
[77] ما بين المعقوفين ليس في الأصل، واستدرك من صحيح البخاري.
[78] البخاري (2237).
[79] ما بين المعقوفين ليس في الأصل، واستدرك من صحيح البخاري.
[80] البخاري (2238).
[81] تحفة المحتاج 4/234 – 235، ونهاية المحتاج 3/392و 393.
وشرح منتهى الإرادات 3/127، وكشاف القناع 7/313.
[82] الشرح الصغير 2/6و 7، وحاشية الدسوقي 3/11.
[83] فتح القدير 5/357، وحاشية ابن عابدين 5/239.
[84] أبو داود (3482).
[85] أبو داود (3484).
[86] النسائي 7/309، وقال: هذا منكر.
قال ابن حجر في الدراية 2/161 (807): رجاله موثقون، لكن قال البيهقي: الأحاديث الصحيحة في النهي عن ثمن الكلب ليس فيها استثناء وإنما الاستثناء في الاقتناء، فلعله شبه على بعض الرواة.
[87] ابن أبي حاتم في العلل 1/386 (1153).
[88] أحمد 3/353، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
قال الهيثمي في المجمع 4/91: قلت: هو في الصحيح خلا قوله: (طعمة جاهلية)، رواه أحمد، ورجاله ثقات.
[89] الطبراني في الكبير 25/36 (63).
قال الهيثمي في المجمع 4/92: إسناده ضعيف، وفيه من لا يُعرف.
[90] المفهم 4/444.
[91] الشرح الصغير 2/6و 7، وحاشية الدسوقي 3/11.
[92] فتح الباري 4/426 – 427.