قصة الفيتامين
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
تجربة غذائية عرضية
في ربيع عام 1915 قبيل دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب الماضية ألقت الباخرة البرنس ولهلم الألمانية مرساها أمام الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية. وكانت تعمل هذه الباخرة قبل الحرب في خدمة المسافرين والنقل، فأصبحت بعده تؤدي واجبها في البحرية الألمانية كطراد تجاري وأجري تعديلها تبعاً لذلك فحولت ردهاتها وأبهاؤها إلى مستودعات للذخيرة والوقود ونصبت فوق ظهرها المدافع الضخمة تغلبت البرنس ولهلم على الكثير من البواخر المعادية واستولت منها بحكم الغلبة على وافر من المواد الغذائية من دقيق وزبد وخبز جاف ولحوم وخضر جافة محفوظة.
وبهذا أصبح الذين على ظهرها في سعة ومتعة غارقين فيما استولوا عليه من غذاء ظهرت بعدئذ على رجالها حالة مرضية لم تكن منتظرة لمثلهم في هذه السعة والوفرة الغذائية، وطرأت على الكثير منهم أعراض مرضية غريبة كنوبات عصبية تصيب البعض، واضطرابات في القلب والتنفس، وتضخم في المفاصل عند البعض الآخر، ووقفت إصابتا كسر في العظام بلا شفاء يرجى رغم العناية والمحاولات التي بذلت في هذا السبيل.
وذكرت صورة المرض هذه بالأقصوصة الشائعة حينذاك عن مرض البري بري الذي أصاب رجال المركب الشراعي الذين كان قوام غذائهم المواد المحفوظة.
ولكن شتان بين وجهي الشبه في الحالتين ولا سيما أن رجال البرنس ولهلم يتمتعون بغذاء منوع وعلى حساب العدو هانئين بوافر من الدقيق والبسكويت والبطاطس والزبدة وأنواع الجبن حتى البن والشاي كان في متناولهم بلا حساب ذهبت محاولات طبيب الباخرة وقائدها في علاج المرضى أدراج الرياح حتى امتلأت بهم عيادة الباخرة التي تحولت إلى مستشفى عائم في أمد وجيز.
وعندما طوح المرض بمائة وعشرة من ملاحي الباخرة البالغ عددهم خمسمائة لم يجد طبيب الباخرة ولا قائدها بدا من اللجوء إلى أقرب ميناء محايد.
وفي 11 أبريل من نفس العام ألقت الباخرة مرساها أمام ميناء نيوبورت نيوز الأمريكي سرى هذا المرض العجيب إلى الأوساط العلمية الأمريكية مسرى البرق وتقلب على ظهر السفين الكثير من العلماء والأطباء كي يشاهدوا هذه الحالة الشاذة عن قرب ويتبادلوا الآراء، والتعليلات الممكنة، وجاء على لسان بعضهم مرض البري بري الذي سبق ذكره وتعليل أثره في السطو على الأعصاب بكائنات صغيرة حية، وهكذا تضاربت الآراء واختلفت الأفكار حول إمكان انتشار هذا المرض بالعدوى أو غيرها.
ولم يهتد طبيب أو مفكر إلى أي نتيجة تفيد الموقف، لأنه ما من أحد حتى هذه السنة كان ليهديه التفكير إلى أنه قد ينقص الغذاء الكثير المتنوع تلك المركبات الدقيقة اللازمة لإتمام عمليات التفاعل الكيميائي في الجسم كان أسبق الناس في التفكير والتطلع إلى هذا النحو الجديد الفسيولوجي الإنجليزي إذ ذكر في محاضرة له في مؤتمر الطب العالمي الذي عقد في لندن في عام 1913 نتائج تجارب غذائية قام بها في كمبردج على الفيران، وكان قد قدم لها غذاء خاصاً يحتوي عل جميع المواد اللازمة التي يقرها علم التغذية من مواد زلالية ودهنية ونشوية ومعدنية مضبوطة وفي شكل واحد، وبالرغم من هذا نفقت الحيوانات في وقت قصير ولقد جاءت آراء هوبكنز هذه سابقة لأوانها لأن الأذهان لم تكن لتلفقه وتعي بعد ارتباط تلك التجارب الغذائية بتلكم المواد التي ما زالت مجهولة.
ولم تجد زيارات الأطباء والعلماء المرضى نفعاً، وعجز الجميع عن تقديم أية مساعدة فعالة تقي هؤلاء البحارة مصرعهم البطيء المؤلم.
وفق بعدئذ الكيميائي النيويوركي ألفرد ماك كان في تتبع آثار النكبة التي حلت برجال الباخرة.
وساعده على ذلك قراءة ما تركه هوبكنز عن اختباراته، وبفضل اختباراته الشخصية ودراساته لعلم التغذية ظهر له ما قد ينقصه غذاء هؤلاء المرضى ويقض مضاجعهم.
وبمجهود أمكنه الاتصال بطبيب الباخرة، ودعا طاهيها إلى الحديث، فظهر له بالتحري والسؤال انه برغم توفر اللحوم المحفوظة والدقيق ولبن العلب والخضراوات الجافة لم يحصل البحارة المنكودون على فواكه طازجة ولم يتذوقوا خضراً نيئة، عندئذ صاح مظفراً وقال مخاطباً طبيب الباخرة الذي وقف مشدوهاً: لقد سلبت القوة الحيوية الطبيعية من جميع أنواع الغذاء الذي قدم لهؤلاء البحارة التعساء، فاللحوم المجففة والبطاطس قد فقدت أملاحها الفسفورية عند تحضيرها للتعبئة ومعالجتها بماء الأملاح الحمضية لحفظها، كما فقدت الخضراوات قوتها الحيوية بمعالجتها بالقواعد، كما فصل الدقيق من أغلفته ونزع من الأرز قشوره، وبهذا لم تكن التغذية على ظهر السفينة طبيعية مستوفاة متنوعة، ونصح بتغيير قائمة الطعام وإضافة الخضر الطازجة والفواكه الطازجة وعصيرها واللبن الكامل واللحوم غير المحفوظة.
تبادل طبيب الباخرة وطاهيها النظرات مستبعدين صحة ما يدلي به هذا الشاب ولكن ما يمنعهم من تجربة ما يقول وقد أعيتهم الحيل، ولتكن محاولة أخيرة عل فيها الشفاء وبإتباع قائمة الغذاء الجديدة تبد الحال وسرى في المرضى تيار الصحة وظهرت عليهم أعراض الإبلال فهبطت أورام المفاصل وخف ضغط الأعصاب وزحف الذين أقعدهم المرض.
وبانقضاء أسبوع واحد على نظام التغذية الجديد الذي أشار به ماك كان غادر مستشفى الباخرة الفوج الأول من المرض، وبمضي أسبوعين وقف المقعدون ومن حل بهم المرض ودب في الجميع دبيب الحياة لقد كان في المأساة التي حلت برجال الطراد وأودت بأرواح مائة وعشرة من الأنفس المخاطرة القوية أسى وعبرة ومثل واضح لقوم تمنعهم وفرة الغذاء ولا ترف العيش من التعرض لأصناف الهلاك والضعف إذا ما ساب من هذا الغذاء القوة الحيوية الغامضة التي أودعتها الطبيعة إياه، وكم كان جميلاً وطبيعياً من الإنسان الأول الذي عاش على الفطرة ونما مع الطبيعة أن كان يحصن نفسه ضد هذه العوارض إذا أقبلت عليه بمضغ الخضراوات وتبلغ الأعشاب كي يقاسمها بعض ما أودعتها الطبيعة من قوى حية كامنة أما بعد ذلك وبدافع التطور والمدنية فقلما يفعل الإنسان ما كان يفعله السلف الغابر، بل قد ادعى الأفضلية على الطبيعة فعمل على تهذيب ما تهبنا من غذاء عالجه للحفظ تارة بالتسخين وأخرى بالغلي أو التعقيم أو التمليح أو الغسل بالحوامض والقلويات حتى التكرير والتبييض والتلميع.
وبهذه العمليات القاسية أبعد الإنسان من غذائه هذه المواد التابعة التي لم يعرها أي انتباه ما دام يرضي الغذاء الذي يستسيغه ويروقه، والذي يعتقد احتواءه على النسب اللازمة من المواد الغذائية والوحدات الحرارية (الكالوري). (يتبع)