أرشيف المقالات

الأشاعرة

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
الأشاعرة
انحراف عقائد الفرق عن عقائد السلف

توقف السلف طويلاً أمام علم الكلام نابذين أصحابه مبتعدين عن الخوض فيه، ثم دخلوا الميدان حينما قويت شوكة المعتزلة، فاضطروا إلى مجابهتهم، ولكن بمنهج مخالف إذ تظهر السمات البارزة للمنهج السلفي الخالص حينذاك في العناية بالحديث النبوي واتخاذ القرآن والحديث نقطة البداية كأصول بغير تأويل يخرج بهما عن مدلولات ألفاظهما، والمحافظة على التفسير المأثور عن الصحابة وتابعيهم.
 
أما التيار الكلامي المعتزلي الذي مر بنا آنفًا فإن أبرز معالمه مخاصمة أهل الحديث والطعن في الأحاديث النبوية، فقد تحامل المعتزلة على المحدثين وأقروا الجدل واعتمدوا على أصول ظنوا أنها عقلية مستبعدين النقل، وأولوا المتشابه من القرآن الكريم تأويلًا لم يقرهم أهل السلف عليه، وكانت مسألة الصفات الإلهية من أهم مسائل النزاع بينهما حتى أصبحت علمًا مميزًا بين الفريقين، يقول الشهرستاني:
((أعلم أن جماعة كبيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقًا واحدًا، وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والرجلين، ويؤولون ذلك إلا أنهم يقولون بتسميتها صفات خبرية)) وكانت المعتزلة ينفون الصفات، والسلف يثبتون، سمي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة.
 
وقد ظهرت الموجة العارضة للمعتزلة في شكل اتجاهين، أحدهما الاتجاه السلفي الذي مضى في طريقه مستمسكًا بنفس طريقة الأوائل، ثم ظهر اتجاه جديد حاول الارتباط بالسلف أيضًا، هو علم الكلام في المدرسة الأشعرية الذي بدأ بابن كلاب، وتابعه فيه أبو الحسن الأشعري، ومضى بعده شيوخ المذهب كالباقلاني والجويني والغزالي والشهرستاني والرازي وغيرهم، وهما أهم اتجاهين في الفكر الإسلامي ما زالا يعيشان إلى اليوم، بينما تضاءل تأثير مدرستي الطحاوي والماتريدي.
 
كما لا نستطيع أن نغض الطرف عن اعتناق الشيعة المتأخرين لتفسيرات المعتزلة الكلامية.
 
الأشاعرة وعلم الكلام:
لاشك أن الرغبة في الدفاع عن عقيدة أهل السنة بخاصة والإسلام بعامة هي التي دفعت أئمة الأشاعرة إلى استخدام الكلام ظنًا منهم أنه المنهج الصحيح لهذا الغرض، ثم تبين لهم بعد التجربة غير ذلك، فتحولوا عنه، ولعل أهم المتحولين إلى طريقة السلف هو الإمام أبو الحسن الأشعري نفسه، وقصة تحوله من الاعتزال إلى عقيدة الإمام أحمد بن حنبل تبرهن على ذلك كما أسلفنا.
 
ومن الثابت عن الذين ترجموا للأشعري - وأبرزهم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري) أن كتاب (الإبانة) من أواخر كتبه وهو دليل على استقراره على طريقة الإمام أحمد ومنهجه وعقيدته متابعة لطريقة السلف.
 
لقد عانى الإمام الأشعري طويلًا لنظريات المعتزلة، وأخذ يكابد نفسيًا هذا الاضطراب الذي يحسه رجل الفكر بين عقيدة تربى في أحضانها وتشربها وظل يدرسها نحو أربعين عامًا، وبين ما رآه حقًا.
 
وبعد طول فكر وإمعان نظر، تنصل من الفكر الاعتزالي وتبرأ من المعتزلة، وأعلن ألا مفر من سلوك الطريق الصحيح: طريق السلف، فهل تحول من النقيض إلى النقيض دفعة واحدة؟ إن التفسير النفسي لهذه الظاهرة يبدو غير مقنع فالأقرب إلى الصحة أنه بعد لفظه للأفكار التي اعتادها بحث عن الحلول السليمة التي يراها بديلة فاهتدى إلى حل وسط - والنهج الوسط لا يحل المسائل - ولاشك أنه أحس بالحيرة تتملكه لأن منهجه الوسط أوقعه في مشاكل من نوع جديد، وهي التي حاول الخروج منها أيام اعتزاله، ثم تعدى هذه الحلقة الوسطى في تفكيره ووجد الحل النهائي في عقيدة السلف التي دونها بكتابه ((الإبانة))[1] هذه العقيدة المطابقة تمامًا لما أورد - في كتابه ((مقالات الإسلاميين)).
 
وجاء بعده الإمام الباقلاني (402 هـ) فكان حريصًا على الانتساب إلى الإمام ابن حنبل أيضًا حتى كان يكتب في بعض أجوبته محمد بن الطيب الحنبلي[2].
 
وأئمة الأشعرية بعده اتخذوا مشابهًا أيضا يثير الانتباه ويدعو لبحث هذه الظاهرة التي- إن دلت على شيء - فإنها تدل على الإخلاص في البحث عن الحقيقة من جهة، كما يدل من جهة أخرى على أنه لا سبيل إلى معرفة أصول الدين إلا من مصادر ه في الكتاب والسنة.
 
فها هو إمام الحرمين الجويني (478 هـ) في كتابه (الرسالة النظامية) يشير إلى اختلاف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن.
وذهب أئمة السلف إلى الكف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب، ثم يصرح بان الذي يرتضيه رأيًا، ويدين لله عقدًا، اتباع سلف الأمة، مبرهنًا على ذلك بأن الدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأئمة حجة متبعة، وهو مستند الشريعة وقد درج صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ترك التعرض لمعانيها وترك ما فيها وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الله، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها.
فلو كان تأويل هذه الظواهر مشروعًا أو محتومًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامه بفروع الشريعة.
ولذلك ثبت عنهم الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على كل ذي دين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين.
ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب فليجر آية الاستواء والمجئ، وقوله: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75] ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾ [الرحمن: 27] وقوله: ﴿ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ﴾ [القمر: 14] وما صح من أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا.
 
ويعضد ذلك ما ذهب إليه في كتابه (غياث الأمم) فبالرغم من أن الكتاب مخصص لعرض الفقه السياسي الإسلامي وآرائه في منصب الخلافة أو الإمامة، فقد حرص في باب (تفصيل ما إلى الأئمة والولاة) على أن ينص على أحد مهام الخليفة على صرف المسلمين عن الخوض في المشكلات الكلامية وتوجيههم إلى طريقة السلف فقال في هذا الصدد: (والذي أذكره الآن لائقًا بمقصود هذا الكتاب، أن الذي يحرص الإمام فيه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن تبغت الأهواء وتزيغ الآراء، وكانوا - رضي الله عنهم - ينهون عن التعرض للغوامض في المشكلات..
إلى أن يقول وما كانوا ينكفون - رضي الله عنهم - عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر، وتلبد في القرائح هيهات! قد كانوا أذكى الخلائق أذهانًا وأرجحهم بيانًا[3].
 
ورأى الغزالي (505 هـ) أيضًا في علم الكلام مدون في كتبه معروف مشهور لا سيما (الأحياء)؛ فقد قال فيه: (وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكبر من الكشف والتعريف...) وإلى نفس المعنى يذهب في كتابه (المنقذ من الضلال) فذم علم الكلام أيضًا وقال بأن أدلته لا تفيد اليقين.
وفي كتابه (التفرقة بين الإيمان والزندقة) صرح بتحريم الخوض فيه فقال: (لو تركنا المداهنة لصرحنا بأن الخوض في هذا العلم حرام).
 
ومات الغزالي على خير أحواله، مات على الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم، طالبًا علم الحديث، فتحول من علم الكلام إلى طلب السنة من مصادرها الصحيحة.
 
أما الرازي (606 هـ) وهو المعبر عن المذهب الأشعري في مرحلته الأخيرة حيث خلط الكلام بالفلسفة - فقد نبه في أواخر عمره إلى ضرورة اتباع منهج السلف، وأعلن أنه أسلم المناهج بعد أن دار دورته في طرق علم الكلام والفلسفة، فقال في النهاية: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق القرآن، أقرأ في الإثبات ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10] ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وكان يتمثل كثيرًا في الأبيات التالية:






نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال


وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال


ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا[4]






 
وقال في وصيته: (أحمد الله بالمحامد التي ذكره بها أفضل ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق به أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهدتهم، بل أقول ذلك من تاريخ الحدوث والإمكان، فأحمده بالمحامد التي يستحقها لإلهيته ويستوجبها لكمال الإلهية، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراث مع جلال رب الأرباب)..
إلى قوله: (ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ويمنع من التعمق في إيراد المعارضات والمناقشات والمتناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك الضايق العميقة والمناهج الخفية) وذكر في وصيته أيضا أنه يدين لله تعالى: محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسأل الله تعالى أن يقبل منه هذه الجملة ولا يطالبه بالتفصيل[5].
 
ونكتفي بهذا القدر لبيان النتائج التي توصل إليها أكبر أئمة المتكلمين في المدرسة الأشعرية، إذ تأكدوا بعد رحلة طويلة مع الكلام والخوض في قضاياه إلى نتائج حاسمة حيث وجدوا - كما ذكر الرازي- أن طريقة القرآن كافية شافية، وأن طريقة أهل الحديث موصلة إلى اليقين، داعية إلى الاطمئنان وثبات الإيمان.
 
ومهما يكن من أمر، فإننا في نظرنا إلى المدرستين الكبيرتين في علم أصول الدين، وهما المعتزلة والأشاعرة، فإننا نقترب من الأساس الصحيح لتقويمها ولوجدنا الميزان الذي نستخدمه باعتبارهما يتفقان في استخدام منهج التأويل.
 
ونبدأ بالمعتزلة فنقول: لو نزعنا الاسم من مدلوله التاريخي، وتقيدنا بالمعنى الاصطلاحي لاتضح لنا أنه يطلق على من يحاول تجريد الإسلام من دليله النقلي وتفريغه في مضمون عقلي فلسفي، يتسم بالجفاف ولا يخلو من تعسف وغلو التأويل.
فدعوى التوحيد أدت إلى تجريد الذات الإلهية من الأسماء والصفات، وتجرأوا على الكلام عن الله سبحانه وتعالى بكلام ينقصه الهيبة ويخلو من أصول وآداب الحديث عن مقام الألوهية، ودعوى العدل ألغت العلم الإلهي المسبق وكفى بهاتين النتيجتين سببًا لمعارضة السلفيين للمعتزلة هذا إذا أغضينا الطرف عن باقي أخطائهم.
 
وكذلك الأشاعرة، لو نزعنا عنهم ثوبهم التاريخي، والظروف التي أدت إلى ظهور الكلام الأشعري، لأمكن وصفهم بأنهم أصحاب الاتجاه الوسط- مع الاختلافات الفردية الخاصة بين شيوخهم أنفسهم - وليس بمستغرب على كلا الاتجاهين أن تختلف آراء أفراده وتتعارض، وهذا دليل على خطأ المنهجين القائمين على التأويل المخالف لطريق السلف[6].
 
ويرجع سبب الجدل الذي خاضه معهم ابن تيمية إلى فهمه للصلة الوثيقة بين الأفكار وأثرها، لأن المبالغة في تقدير دور العقل الإنساني وأحكامه أدت بهم إلى التزامات منحرفة عن الحقائق القرآنية ومخالفة تأويلاتهم للأصول الإسلامية الصحيحة.
 
ويذهب الدكتور محمد علي الزغبي إلى أن مرض التأويل غير المشروط قد سرى إلى المسلمين من اليهود، واشتهر به الفيلسوف اليهودي (فيلون) حتى أله (عزير) وأن الانشغال بالتأويل والتحلل من التكاليف قديم لدى اليهود، إذ أمرهم الله أن لا يصيدوا سمكًا يوم سبت.
فأخذوا يحفرون أخاديد إلى جانب الشاطئ يوم الجمعة حتى إذا سقط بها السمك أغلقوا طريق عودته وصادوه يوم الأحد، ثم تمادوا في هذا التأويل حتى استقرت لديهم قاعدة (إذ تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز) ثم كانت الصبيحة الأخيرة لفيلسوفهم الهولندي (اسبينوزا) العائد إلى مبدأ "يجب أن نفسر التوراة بالتوراة"[7].



[1] أما مسألة أيهما أسبق: كتاب (اللمع) أم (الإبانة)، وهي التي لم يسبق إثارتها - فيما نعلم - إلا بواسطة الشيخ الكوثري بقوله إن السلفيين هم الذين انفردوا بالقول بان آخر كتب الأشعري هو (الإبانة)، فإن أول ما يستحق الانتباه هنا أن استناد ابن تيمية في هذه القضية يعود فيه إلى أصحاب الأشعري أنفسهم فيقول: (وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه) ابن تيمية- العقيدة الحموية ص 149، وينظر كتاب (اللمعة فى تحقيق باحث الوجود والحدوث والقدر وأفعال العباد (للحلبي 1190م) يقول: (كتاب الإبانة هو آخر تصنيفه كما ذكره الحافظ ابن تيمية الحنبلي وهو المعول عليه).


[2] ابن تيمية: موافقة..
ج 2 ص 9، 51.


[3] الجويني: غياث الأمم في التياث الظلم ص 140-141 تحقيق د.
مصطفى حلمي ود.
فؤاد
عبد المنعم- ط.
دار الدعوة بالإسكندرية سنة 1400هـ.


[4] ابن الوزير اليماني: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ج 3 ص168 المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1385هـ.


[5] ابن الوزير اليماني: الروض الباسم - ج 3 ص 186.
وقد أورد نصوصًا كثيرة أخرى تثبت رجوع أئمة الكلام إلى طريقة السلف، فنقل عن القرطبي في (شرح مسلم) أيضًا أن الجويني كان يقول لأصحابه: يا أصحابنا لا تشغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به، وأوصى الكرابيسي قبل موته أتباعه بقوله:
(عليكم بما عليه أهل الحديث، فإني رأيت الحق معهم) وأورد قول أبي الوفاء بن عقيل لأصحابه: (لقد بالغت في الأصول طول عمري ثم عدت القهقري إلى مذهب المكتب- يعني الذين يكتبون الحديث ويشتغلون به).
وأيضا قال الشهرستاني: (عليكم بدين العجائز - فإنه أسنى الجوائز) المصدر السابق ص 168-169.
(الإمام فخر الدين الرازي- حياته وآثاره ص 75) ط.
المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1388هـ- 1969م.


[6] ينظر كتابنا (منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين) ص 157 وما بعدها- ط.
دار الدعوة بالإسكندرية.


[7] الماسونية في العراء ص 231.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢