عنوان الفتوى : بيان خطر تفسير الأحاديث النبوية بالهوى وبغير علم
جاء في موضوع لأحد الإخوة عن تفسير حديث: أنا مدينة العلم، وعلي بابها. ودون الدخول في صحة الحديث من عدمه أود الاستفسار: هل يجوز أن يفسر كل منا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق ما يتراءى له؟ رأيت أن كلامه غريب. فهل أخطأت؟ قال الأخ: ثم قوله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم. وصف دقيق من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإشارة منه صلى الله عليه وسلم للأمة بأن تقيم مدينة، وحضارة إسلامية قائمة على العلم، فتنتشر الحياة بالمدينة بكل وسائلها الصناعية، والزراعية، والاجتماعية لنقيم حضارة للإسلام العظيم، ونحن نعيش على كوكب وعلى اليابسة وليس في السماء، أو في البحر. ثم عند ما أقول لكم أنا: هذه هي مدينة التوحيد مثلا. فأنا أقصد حصرا أن التوحيد فيها، وأن كل التوحيد منصب في هذه المدينة. وهكذا عند ما أقول لك: أنا مدينة العلم. فأنا أقصد أن العلم قد تجمع كله في هذه المدينة، وليس في سماء أو بحور لا حياة للبشر فيها. أما شرح الحديث فقد رددنا على الشيخ عثمان الخميس بقوله: إن وصف الرسول لنفسه بأنه مدينة العلم ليس قولا بليغا، مما يدل على أن واضع الحديث ليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فرددنا أن قول المدينة جامع وحاصر للعلم فيها، وأن المركز الذي ينتقل منه العلم هي هذه المدينة. فسألته عن مصدر معلوماته. فأجاب مرة أنه ناقل، وأخرى أنها من استنباطه. أخيرا قال: أخي الكريم: أما فيما يخص الحديث، فقد ذكرت لك أنه بعد التأمل بالحديث، ونقلت لك كلاما من أبجدياتنا أن الرسول صلى الله عليه آله وسلم لا ينطق عن الهوى. وذكره للمدينة لم يأت عبثا ولماذا كانت مدينة لم تكن شيئا آخر؟ فسر لي أنت ذلك لو سمحت ورد على
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن حديث: ( أنا مدينه العلم، وعلي بابها ) حديث واه جدا، قد حكم عليه جمع من المحققين بأنه مكذوب، كابن الجوزي في الموضوعات، وشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة، والذهبي في الميزان، وغيرهم. والحديث مع أنه واهي السند، فإن متنه يدل على وضعه واختلاقه، وقد سبق أن بينا هذا في الفتويين: 71500 33190 .
والحديث الموضوع - كهذا الحديث - لا يحتج به باتفاق العلماء، فلا طائل تحت الكلام في تفسيره وشرحه؛ لأنه لا حجة فيه، وعلى فرض ثبوته فإن تفسيره بالمعنى المنقول في السؤال في غاية الغرابة والبعد.
وليعلم أن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخوض المرء في معناها دون علم، فالسنة مثل القرآن، - كما في الحديث : ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه. أخرجه أبو داود، وصححه الألباني -، فكما أنه لا يجوز الكلام في تفسير القرآن العظيم بغير علم، فكذلك السنة فإنها وحي ثان. فتفسير الأحاديث النبوية دون علم شرعي، وبمجرد الرأي، هو من القول على الله بلا علم.
قال ابن تيمية : فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين؛ لكن مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم؛ فيخطئ، ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام، وأخطأ، فإنه كاذب آثم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ رجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة». فهذا الذي يجهل وإن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر». فهذا جعل له أجرا مع خطئه؛ لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع، بخلاف من قضى بما ليس له به علم، وتكلم بدون الاجتهاد المسوّغ له الكلام؛ فإن هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية: «بغير علم» وفي حديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار» وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالما؛ اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا؛ فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلّوا» وفي رواية للبخاري: «فأفتوا برأيهم» ..والمقصود: أن من تكلم بلا علم يسوغ، وقال غير الحق فإنه يسمى كاذبا .اهـ. بتصرف من الإخنائية .
والله أعلم.