عنوان الفتوى : بيان عدم التعارض بين آية لا إكراه في الدين وقتل المرتد

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل يوجد تعارض بين قول الله تعالى: لا إكراه في الدين. وأحاديث الردة؟ حيث إن القرآن أصح من الأحاديث. والآية عامة لم تخصص، وقد قال لي أحد أصدقائي أن أحاديث الردة موضوعة تناقض القرآن، وأن حكم الردة يصنع المنافقين الذين خطرهم أكبر من الكفار، وأن الإسلام أعز من أن يحتاج إلى منافقين. وسؤالي الآخر: هل طبق الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الردة؟ وشكرا.

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فليس هناك تعارض البتة بحمد الله بين الآية، وبين الأحاديث القاضية بقتل المرتد، ومن توهم التعارض فإنما أتي من جهة ضعف الفهم للنصوص، وعدم الرجوع إلى كلام أهل العلم المعتبرين، وبيان ذلك أن الآية إنما هي في الكافر الأصلي، الذي لم يدخل في الإسلام ابتداء، فهذا الذي لا يُكره على الدخول في الإسلام، وأما من دخل في الإسلام طوعا، والتزم أحكامه، ثم ارتد عنه. فإن الآية لا تتناوله أصلا، بل قتل مثل هذا يجيء صيانة لجناب الدين وحياطة له من عبث العابثين وكيد الكائدين، ولا ريب في أن المرتد شر من الكافر الأصلي وأعظم خطرا وضررا.

  قال الشيخ الفوزان: أما المرتد فهذا يقتل، لأنه كفر بعد إسلامه، وترك الحق بعد معرفته، فهو عضو فاسد يجب بتره، وإراحة المجتمع منه؛ لأنه فاسد العقيدة ويخشى أن يفسد عقائد الباقين، لأنه ترك الحق لا عن جهل، وإنما عن عناد بعد معرفة الحق، فلذلك صار لا يصلح للبقاء فيجب قتله، فلا تعارض بين قوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ سورة البقرة : آية 256 ]. وبين قتل المرتد، لأن الإكراه في الدين هنا عند الدخول في الإسلام، وأما قتل المرتد فهو عند الخروج من الإسلام بعد معرفته وبعد الدخول فيه. انتهى.

 ويبين لك هذا سبب نزول الآية، فعن ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ المرأة [من الأنصار] تَكُونُ مِقْلَاتًا، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ، كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرشد من الغي. رواه أبو داود وغيره.

  والزعم بأن القرآن أصح من الأحاديث، وبأن الآية عامة لم تخصص، زعم غير صحيح، فإنه لا تعارض أصلا -كما بينا- حتى يلجأ إلى الترجيح، وما كان من عند الله فإنه لا يختلف، وما زعم من كون أحاديث قتل المرتد موضوعة من أبطل الباطل، بل هي صحيحة بلغت حد التواتر بحيث لا يمكن الطعن فيها بحال، ولذلك قال الشيخ "المحدث" أحمد شاكر في الرد على بعض معاصريه ممن توهم أن قتل المرتد ثبت بحديث آحاد ظني فقال الشيخ: فإن الأمر بقتل المرتد عن الإسلام لم يثبت بما يسميه المؤلف العلامة "حديث الآحاد"، وإنما هو شيء ثابت بالسنة المتواترة. انتهى. 

  والزعم بأن قتل المرتد يصنع المنافقين، والإسلام غني عنهم، زعم ساقط كذلك، بل الإذن في الردة والسماح بها، وعدم عقوبة المرتد استخفاف بالدين واستهزاء به، وفتح باب عظيم للشر، وإيهام للأغرار بأن غير هذا الدين خير منه، وكل هذه مفاسد عظيمة لا تدفع إلا بعقوبة المرتد عقوبة تردع من تسول له نفسه العبث بهذا الدين والاستخفاف به.

  قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وَحِكْمَةُ تَشْرِيعِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ- مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ بِالْأَصَالَةِ لَا يُقْتَلُ- أَنَّ الِارْتِدَادَ خُرُوجُ فَرْدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَهُوَ بِخُرُوجِهِ مِنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهُ لَمَّا خَالَطَ هَذَا الدِّينَ وَجَدَهُ غَيْرَ صَالِحٍ، وَوَجَدَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلَحَ. فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالدِّينِ وَاسْتِخْفَافٌ بِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا تَمْهِيدُ طَرِيقٍ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْسَلَّ مِنْ هَذَا الدِّينِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْحِلَالِ الْجَامِعَةِ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ لِذَلِكَ زَاجِرٌ مَا انْزَجَرَ النَّاسُ، وَلَا نَجِدُ شَيْئًا زَاجِرًا مِثْلَ تَوَقُّعِ الْمَوْتِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ الْمَوْتُ هُوَ الْعُقُوبَةَ لِلْمُرْتَدِّ حَتَّى لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَحَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [الْبَقَرَة: 256] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ هُوَ إِكْرَاهُ النَّاسِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَدْيَانِهِمْ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ مِنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الْإِسْلَام. انتهى.

  ولو قدر أن أحدا ممن يضمر الكفر استخفى بنفاقه خوف القتل، فإن هذا لا يضر المجتمع الضرر الحاصل بإعلانه للردة وحمله غيره عليها، وهذا متى ما بدت لنا صفحته واستعلن نفاقه عوقب العقوبة الشرعية اللائقة بمثله.

  يقول الدكتور ناصر العقل: صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» ومع ذلك لا يجبر أحد على الإسلام كما قال الله - عز وجل -: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] [سورة البقرة، آية: 256] وذلك يعني:

أولًا: أنه لا يجوز للسلطة إجبار أحد على الإسلام؛ لكنه حين يدين به ويلتزمه، ويعلن ذلك يلتزم تبعات التزامه التي منها أنه لو ارتد وجب قتله.

ثانيا: إن الذي يدخل في الدين بغير نية صادقة والتزام جاد، فإنه يسيء إلى نفسه، ثم يسيء إلى الإسلام وأهله جدير بالعقوبة. وجميع القوانين الدولية تجيز قتل من يعارض المصالح الكبرى للأمة، أو يتعدى فساده، مثل من يتجسس عليهم، أو يريد إشاعة الفوضى وإظهار الفساد في المجتمع، كما أن الذي يرتد عن الإسلام كان يعلم قبل إسلامه أن عقوبة المرتد هي القتل، فلماذا يغامر ويدخل في دين يعلم أن عاقبة الارتداد عنه القتل؟ إنه حين يفعل ذلك فسيتهم بأنه لم يغامر ويعزم أنه سيرتد إلا لمكيدة سابقة دبرها للإسلام، أو تم استئجاره لذلك.

ثالثا: أن في جعل العقوبة في الردة إباحة دم المرتد وقتله، زاجرًا لمن يريد الدخول في هذا الدين نفاقًا وإرصادًا، وباعثًا له على التثبت في أمره، فلا يعتنقه إلا على بصيرة وسلطان بَيِّن، فلديه تكاليف وشعائر يتعسر الاستمرار عليها من قبل المفسدين أصحاب الضمائر الفاسدة، وأصحاب المآرب المدخولة. انتهى بتصرف يسير.

  وبه يتضح بجلاء وهاء وضعف ما زعمه لك هذا الزاعم.

  وأما هل أقام النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة على أحد؟ فاعلم أنه ليس من شرط ثبوت السنن أن تثبت بالفعل والقول معا، بل مهما ثبتت السنة فعلا، أو قولا، أو تقريرا لزم العمل بها ولم تجز معارضتها، وقد أقام حد الردة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، واتفق على ذلك معاذ وأبو موسى وهما من هما، ففي الصحيحين عن أبي بردة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى اليَمَنِ، قَالَ: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلاَفٍ، قَالَ: وَاليَمَنُ مِخْلاَفَانِ، ثُمَّ قَالَ: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا»، فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَسَارَ مُعَاذٌ فِي أَرْضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَبِي مُوسَى، فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَيُّمَ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ، قَالَ: لاَ أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَالَ: إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ فَانْزِلْ، قَالَ: مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ، قضاء الله ورسوله، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ نَزَل... الحديث.

  فأخبر معاذ بأن قتل المرتد هو قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنفذ هذا القضاء دون تردد، والنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك حي بالمدينة بين أظهر الناس، فأي دلالة أوضح من هذا على ثبوت هذا الحكم الشرعي وأنه لا مطعن فيه بحال؟

   والله أعلم.