عنوان الفتوى : بيع أجهزة الكمبيوتر قبل تملكها
ما المقصود بالنهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيع ما لا يملك؟
أحيانا يأتيني شخص طالبا مواصفات معينة لجهاز كمبيوتر فأبيعها إياه دون أن تكون عندي في ملكي، أصنع ذلك لثقتي أنني أذهب فأشتريه من المورد في دقائق، وهو موجود موفور عند المورد، بل عند عشرات موردين، أيكون هذا من بيع ما ليس عندي؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قد صح النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيع ما لا يملك، وقد اختلف العلماء في بيان مدلول هذا النهي، والمذهب السائد حمله على حرمة بيع الإنسان ما ليس عنده سواء أكان المبيع معينا أو موصوفا مع استثناء السلم بخصوصه ( وهو بيع يقدم فيه الثمن وتؤخر فيه السلعة إلى زمن معلوم مع أنها لا تكون في ملك البائع وقت التعاقد).
إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية بين ضعف هذا المذهب السائد، ورأى أن الصورة المنهي عنها هي ما إذا باع الإنسان شيئا معينا لا يملكه، ويلحق بها بيع الإنسان شيئا موصوفا لا يقدر على تسليمه بأن يكون غير موجود في السوق، فيبيعه البائع على أمل أنه سيسعى إلى توفيره، فهذا لا يجوز.
وأما بيع الإنسان شيئا موصوفا دون تحديد سلعة بعينها فهو جائز إذا كان موجودا في السوق، يمكن للبائع الحصول عليه وقتما شاء كأجهزة الكمبيوتر التي تسأل عنها.
وقد استعرض الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي مذاهب العلماء في المسألة، وناقشها جميعا، وإليك دراسته في ذلك:
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه ( بيع المرابحة للآمر بالشراء):
قال الإمام الخطابي في معالم السنن: قوله صلى الله عليه وسلم ” لا تبع ما ليس عندك ” يريد به بيع العين دون بيع الصفة. ألا ترى أنه أجاز بيع السلعة إلى الآجال. و هو بيع ما ليس عند البائع في الحال. و إنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر. و ذلك مثل أن يبيع عبده الآبق أو جمله الشارد.
و يدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها.
و يدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفاً على إجازة المالك؛ لأنه بيع ما ليس عنده، و لا في ملكه، و هو غرر؛ لأنه لا يدري هل يجيزه صاحبه أم لا؟ معالم السنن جـ5 ص 143 ا. هـ.
و الأمران الأخيران اللذان ذكرهما الخطابي مختلف فيهما. فمن الفقهاء من أجاز بيع كل ما عدا الطعام قبل قبضه انظر المغني ج4 ص 97 و ما بعدها. و المجموع جـ9 ص 270 – 272. و بداية المجتهد جـ 2 ص 108 و ما بعدها. كما أن منهم من أجاز بيع الفضول و تصرفاته إذا وافق عليه المالك. و هو مذهب مالك و أبي حنيفة: انظر بداية المجتهد جـ2 ص129، 130، و الاختيار جـ2 ص 37.
و نقل الشوكاني عن البغوي قوله هنا: النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها. أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروط. فلو باع شيئاً موصوفاً في وقت عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز. و إن لم يكن المبيع موجوداً في ملكه حالة العقد كالسلم.
قال الشوكاني:
و ظاهر النهي تحريم (بيع) ما لم يكن في ملك الإنسان و لا داخلاً تحت مقدرته. و قد استثنى من ذلك السلم، فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم. و كذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض. نيل الأوطار جـ5 ص 253.
و نقل الحافظ في ” الفتح ” و العيني في ” عمدة القاري ” عن الإمام ابن المنذر في تفسير ” بيع ما ليس عندك ” أنه يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يقول: أبيعك عبداً أو داراً معينة، و هي غائبة وقت البيع، فيشبه بيع الغرر، لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها صاحبها.
ثانيهما: أن يقول: أبيعك هذه الدار بكذا، على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها. قال: وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز ألا يقدر على شرائها أو لا يسلمه إليه مالكها. قال: و هذا أصح القولين عندي.
قال الحافظ: و قصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني انظر: فتح الباري جـ5 ص252 و عمدة القارى جـ11 ص254.
و قال ابن القيم:
” و أما قوله – صلى الله عليه وسلم: ” لا تبع ما ليس عندك ” فمطابق لنهيه عن بيع الغرر؛ لأنه إذا باع ما ليس عنده، فليس هو على ثقة من حصوله، بل قد يحصل له و قد لا يحصل، فيكون غرراً، كبيع الآبق و الشارد و الطير في الهواء، و ما تحمل ناقته ونحوه.
قال: و قد ظن طائفة أن السلم مخصوص من عموم هذا الحديث، فإنه بيع ما ليس عنده. و ليس كما ظنوه؛ فإن الحديث إنما تناول بيع الأعيان، و إما السلم فعقد على ما في الذمة… و ما في الذمة مضمون مستقر فيها. و بيع ما ليس عنده إنما نهي عنه؛ لكونه غير مضمون عليه، و لا ثابت في ذمته، و لا في يده، فالمبيع لا بد أن يكون ثابتاً في ذمة المشتري أو في يده. و بيع ما ليس عنده ليس بواحد منهما. فالحديث باق على عمومه تهذيب سنن أبي داود جـ5 ص157، 158.
هذا كلام ابن القيم.. ولشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام كلام نفيس في بيان معنى بيع المعدوم، أو بيع ما ليس عند البائع الذي اعتبره بعض الفقهاء أصلاً ثابتاً، و استثنوا منه ” بيع السلم ” و جعلوا الترخيص فيه على خلاف القياس، لحاجة الناس. و كلامه هنا يدل على عمق فهمه لروح الشريعة و فقهه لمقاصدها، اقتداء بالصحابة الذين كانوا أفقه الناس لهذا الدين و أعرفهم بسماحته.
يقول في رسالته عن ” القياس ” رداً على الذين يقولون: إن السلم جاء على خلاف القياس لأنه بيع معدوم، أو بيع ما ليس عند البائع ، و رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” لا تبع ما ليس عندك… و أرخص في السلم ” قال: و هذا لم يرو في الحديث ، و إنما هو من كلام بعض الفقهاء .
و نهي النبى – صلى الله عليه و سلم – حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده : إما أن يراد به بيع عين معينة ( بيت فلان أو سيارته مثلاً ) فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه. و فيه نظر.
و إما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه و إن كان في الذمة، و هذا أشبه. فيكون قد ضمن له شيئاً لا يدري: هل يحصل أو لا يحصل مجموع فتاوى شيخ الإسلام جـ20 ص 529 ).
والله أعلم.