عنوان الفتوى : استعظام الوسواس الخوف منه لا يكون إلا لمن استكمل الايمان
مشكلتي أني كنت أعاني من بعض الاكتئاب وذلك لأني قد تقدم لي عريس ثم وافقت عليه، وبعد يوم واحد من محادثتي إياه رفضت هذا العريس لأني شعرت أنه ليس الشخص المناسب وأحسست بهذا الشعور بعد أداء صلاه الاستخارة. وعندما رفضت هذا العريس جاء لي وسواس أني ظلمته وأن الله ليس راضيا عني وكنت وقتها سوف أنهي امتحاناتي وأذهب إلى أداء العمرة، وفي ذات يوم وأنا أصلي جاءني وسواس أني لم أر الكعبة ولكن بفضل الله تخلصت من هذا الوسواس والحمد لله ذهبت لأداء العمرة ورأيت الكعبة، وبعد أدائي للعمرة قررت أني لن أعيش إلا في حب الله لدرجة أني قد نسيت الدنيا ونسيت هوايتي التي أحب وكنت دائما أشعر أني أريد الصلاة في كل الأوقات وقراءة القرآن والحمد لله على ذلك.ولكن ذات يوم عندما استيقظت من النوم جاء لي خاطر أني أريد أخذ راحة من الصلاة وقراءة القرآن ووقتها استغفرت الله وقلت هل يأخذ أحد راحة من العبادة؟ ولكن المشكلة أني في ذات يوم وأنا أصلي قيام الليل أتى لي وسواس في حقوق الله تعالى ويتعاظم علي أن أذكره ومن يومها وأنا أعاني من كثرة الوسواس فهو يتزايد علي كل يوم وأنا أشعر باكتئاب وعدم سعادة لدرجة أني أصبحت لا أشعر بطعم الحياة، وأحاول دائما أن أدفع هذا الوسواس عني وعندما أذهب لقراءة القرآن أو الصلاة يزداد هذا الوسواس معي ويأتي لي أن الله لن يستجيب دعائي.إلى أن وصل لي من يومين وسواس أني بالفعل أكره هذا الوسواس- وسامحني أني سوف أذكره- فإني بحاجة إلى الإجابة وهو ما فيه شرك والعياذ بالله ولكني لم أستسلم وظللت أذكر لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فهل أنا معاقبه على كل ذلك؟ وهل لمجرد أن خطر في فكرى هذه الأفكار قد وصلت لدرجة الكفر التي لا توبة لها والعياذ بالله؟ وما هو حل هذا الوسواس هل هناك آيات من القرآن تذهبه أو أني ينبغي أن أذهب إلى شيخ يقرأ علي؟ وهل هذا الوسواس من النفس أم من الشيطان الرجيم؟ ولماذا دائما أشعر أني سوف أموت؟ ويراودني دائما سؤال لماذا يأتي لي هذا الوسواس وأنا لم أفعل شيئا إلا صلاة الفروض والنوافل جميعا واللهم لا اعتراض على حكم الله؟ وهل يمكن أن يأتي للإنسان عين في قراءه القرآن والصلاة تجعله لا يريد الصلاة أو قراءة القرآن؟ أرجو الرد السريع والدعاء لي بالشفاء؟ الحمد لله على كل شيء.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فابتداء ننبهك على أن مجرد رد الخاطب لا يعتبر من الظلم ولا الإساءة حتى وإن كان بغير سبب, هذا على وجه العموم، فإذا انضم إلى ذلك أن ردك له لعدم الراحة النفسية بعد صلاة الاستخارة فقد يكون هو الخير لك إن شاء الله فلا تحزني لذلك وسلي ربك أن يبدلك خيرا منه.
أما عن أمر الوساوس فإنها مما عمت به البلوى وكثرت منه الشكوى خصوصا بين أهل الطاعة والاستقامة وإنا لا نجد علاجا أنجع ولا أنفع من الإعراض عنه والانصراف عن التفكير فيه، ولا يضرك أمره إن شاء الله ما دمت كارهة له، ولا يخرج صاحبه بذلك عن الدين ولا يأثم بل هو مثاب على ذلك إن شاء الله، لأن هذا صريح الإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجد بعض الصحابة رضوان الله عليهم شيئاً من ذلك وشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أو قد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
جاء في شرح النووي على مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: ذلك صريح الايمان ومحض الايمان معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الايمان، فان استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الايمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك. انتهى.
وجاء في كتاب الإيمان لابن منده: ذكر ما يدل على أن الوسوسة التي تقع في قلب المسلم من أمر الرب عزو جل صريح الإيمان ...... عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وسلم فقال: يا رسول الله إني أجد في نفسي الحديث لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به. فقال :ذاك صريح الإيمان. انتهى.
فتأملي كيف جعل رسول الله بغض الشخص لهذا الذي يجده في صدره وتحرجه من الكلام به هو محض الإيمان.
يقول ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان؛ كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه؛ فهذا أعظم الجهاد و" الصريح " الخالص كاللبن الصريح. وإنما صار صريحا لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحا . ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا ؛ ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا وإما أن يصير منافقا؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة، ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه ؛ بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه . وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة. انتهى.
وعلى ذلك فإن إيمانك لا يتأثر بهذه الوساوس - إن شاء الله - طالما أنك كارهة لها. وننصحك للاستعانة على ما أنت فيه بما يلي:
1- أن تكثري من الصلاة وذكر الله والدعاء والتضرع إليه سبحانه أن يصرف عنك هذا البلاء.
2- أن تعرضي عن هذه الوساوس ولا تسترسلي معها فإن أعظم علاج للوساوس بعد الاستعانة بالله سبحانه هو الإعراض عنها جملة واحدة والانصراف عن التفكير فيها كما ذكرنا.
3- أن تكثري من الاستعاذة بالله من كيد الشيطان وقد نبه الشرع على مزيد عناية بالاستعاذة في مواطن كثيرة منها: عند قراءة القرآن, وبدء استفتاح الصلاة , وعند الغضب, وعند سماع نهيق الحمار وعند دخول الخلاء وغير ذلك.
أن تكثري من قول: الله الله ربي لا أشرك به شيئا. وقول: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. ففي سنن أبي داود وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب ؟ الله الله ربي لا أشرك به شيئا. حسنه الألباني. وفيها أيضا عن أبي زميل سماك بن الوليد رضي الله عنه قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به! قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال وضحك قال: ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله عز وجل: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين, قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئا فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. حسنه الألباني.
4- أن تقبلي على تعلم أمور الدين وعظمة الشريعة وبركتها وحكمتها, فإن من جهل شيئا عاداه والجاهل بأحكام الله سبحانه وأمره ودينه قريب من الشيطان فما أيسر أن يوسوس له وأن يضله بخلاف العالم والمتعلم فإن الله يعصمهما بالعلم, فإذا أقبلت على دراسة العلم ومعرفة عظمة القرآن وحكمته وإعجازه اطمأن قلبك وأخبت إلى ربه , قال سبحانه: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. {الحج: 53 ، 54}.
أما مصدر هذه الوساوس فهو من الشيطان غالبا بدليل ما جاء في سنن أبي داود وصححه الألباني عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. انتهى.
ولكن هذا لا يعني أن النفس لا توسوس بل قد صرح القرآن أنها توسوس لصاحبها قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. {ق : 16}, ولكن هناك فرق لطيف بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله في مجموع الفتاوى: وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان فقال: ما كرهته نفسك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه، وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه. انتهى.
ونوصيك بالمحافظة على الرقية الشرعية من العين والحسد فربما حُسد الإنسان أو أصابته عين بسبب اجتهاده في الطاعة فأدى ذلك إلى فتوره أو انقطاعه.
والله أعلم.