شرح عمدة الأحكام [54]


الحلقة مفرغة

يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[وعن عمر رضي الله عنه قال: (حملت على فرسٍ في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، فظننت أن يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه -وفي لفظ: فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه، يقيء ثم يعود فيه)].

النهي عن الرجوع في الهبة

فهذا حديث عن عمر ، ذكر فيه أنه كان عنده فرس فأراد أن يتصدق به على رجل، وقال لذلك الرجل: هذا لك تغزو عليه، وتركبه، وتنتفع به، فأعطاه إياه كصدقة وقصده من ذلك أن ينتفع به، وبالأخص في الغزو، وفي السرايا، وفي الخروج في سبيل الله وما أشبه ذلك، ولكن ذلك الرجل الذي أخذ ذلك الفرس لم يكن يعرف قدره فأضاعه وأهمله، ولم يعرف قيمته، ولم يكن من أهل هذا الصنف.

فعند ذلك علم عمر أنه سيبيعه، وأنه يبيعه رخيصاً، فأراد أن يشتريه، لكونه يعلم أهلية ذلك الفرس، ويعلم كفاءته وقوته وغلاءه وصلاحيته، فلما أراد أن يشتريه وهو يباع بثمن رخيص لم يقدم على ذلك حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يخافون أن يقعوا في شيء لا يجوز في الشرع، فتوقف حتى استفصل من النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجوز لي شراؤه وأنا الذي تصدقت به؟

فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد من النبي صلى الله عليه وسلم إنكاراً شديداً لاقتنائه ولتملكه ولو بطريق الشراء، وأخبره بأنه لا يجوز ولا يحل له أن يشتريه: (ولو أعطاكه بدرهم فلا تشتره)، فإن هذا يشبه الرجوع في الهبة؛ لأنك وهبته له، والهبة صدقة وتبرع فلا ترجع في هبتك، ولا تعد فيها، فإنك إذا رجعت فيما وهبته وأخرجته من ملكك لوجه الله تعالى، أشبهت الذي يرجع في قيئه.

وضرب مثلاً سيئاً وهو الكلب، والكلب معروف أنه من شر الحيوانات وأقذرها، فهو موصوف بهذا الوصف القذر؛ وهو أنه يقيء ثم يرجع في قيئه، ومثله أيضاً السباع أو كثير منها، فهذا مثل سيئ، بحيث إنه إذا أكل وامتلأ بطنه واشتد امتلاؤه، وخاف مثلاً أن لا يستطيع العدو، أو لا يستطيع البروك، أو الدخول في جحر أو نحوه، فإنه يخرج من بطنه كثيراً مما أكل حتى يخف عنه، وهو القيء عن طريق الفم، فإذا جاع بعد ذلك رجع إلى ذلك القيء الذي كان قد أخرجه من بطنه مع تغيره ومع نتنه فأكله، هذا مثله سيء شبّه به النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطية ثم يرجع في عطيته، أو يهدي هدية ثم يرجع فيها، أو يهب هبة ثم يرجع فيها، أو يتصدق بصدقة ثم يرجع فيها.

والرجوع فيها معناه: إما أن يطلبها ويقول: رد لي هديتي، رد عليّ صدقتي أو هبتي، رد عليّ ما أعطيتك، أنا أعطيتك مثلاً هذا الثوب أو هذا الكيس فرده عليّ، فإنك لا تستحقه ولست أهلاً ولا كفؤاً له، يطلبه حتى يأخذه منه، كذلك إذا طلبه بشراء فإن ذلك شبيه بالرجوع.

ولأجل ذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يشتري ذلك الفرس ولو كان رخيصاً؛ وذلك لأنه إذا جاء ليشتريه، فإن صاحبه قد يستحيي منه ويتغاضى عنه ويبيعه بشيء من الرخص، فيذهب على صاحبه بعض من الثمن؛ فمثلاً: إذا كان الفرس أو البعير الذي أهديته لزيد يساوي ألفاً، فإنه إذا رآك تستامه احتشم واستحيا منك وباعه بنصف الألف أو بثلث الألف؛ احتشاماً واستحياءً وقال: هذا مالكه، وهذا هو الذي أنعم عليّ وأهداه لي وتفضل به عليّ، فما دام أنه يسومه فإني أبيعه ولا أغالي فيه!!

كذلك إذا طلبته منه، وقلت مثلاً: إني قد أهديتك هذا الإناء مثلاً، أو هذا الثوب، أو هذا القدح، أو هذه الآلة ونحوها، فأريد أن تردها عليّ فإني بحاجةٍ إليها، لا شك أنه بذلك يحتشم ويستحيي، ويردها عليك على استحياء مع أنه قد يكون بحاجة إليها؛ هذا كله فيما إذا كان ذلك هبةً أو هديةً أو نحو ذلك.

لا يجوز المن بالعطية أو الصدقة

ويدخل في ذلك أيضاً المنّ بها وتذكيره إياها، فإن في ذلك شيئاً من التحقير لصاحبها وتكبير النعمة عليه، بحيث إنه يتمنى أنه ما قبل منك هذه الهدية أو هذه الصدقة؛ ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن المن بها، وأخبر بأنه يبطل ثوابها، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262]، فالمنّ يدخل فيه أن يذكره، فكلما لقيك أخذ يذكرك: أتتذكر أني أهديتك ثوباً؟ أما تتذكر أني أهديتك لحماً؟ أما تتذكر أني أهديتك قدحاً أو إناءً؟ أما تتذكر أني أهديتك مالاً، أو فراشاً أو ما أشبه ذلك، فلا يزال يذكرك.

وربما أيضاً يمنّ عليك فيقول: أنا الذي أركبتك وأنت منقطع .. أنا الذي أطعمتك وأنت جائع .. أنا الذي كسوتك وأنت عار .. أنا الذي أنقذتك وأنت هالك! فلا يزال يمنّ عليك إلى أن تتمنى أنك ما قبلت منه تلك الصدقة ونحوها، ولا شك أن هذا مما يحبط الأجر ويبطل الصدقة؛ فلأجل ذلك نهى الله تعالى عن المنّ وعن الأذى.

فضل الصدقة وإخفائها

الصدقة: هي التي يقصد بها المتصدق وجه الله والدار الآخرة، فيجب أن يخلصها لله، بأن يتصدق على الفقير والمسكين وذي الحاجة بقصد رضا الله تعالى وثوابه.

والأولى أيضاً أن يخفيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)؛ لأن إخفاءها: أولاً: فيه الإخلاص والبعد عن الرياء، وثانياً: أن فيها تخفيفاً للمنة على المتصدق عليه.

إذا لم يظهرها بل أخفاها، وكان لا يريد أن يعلم أحد به، وربما لا يعلم المتصدق عليه من صاحب هذه الصدقة، كما إذا وضعها في بيته وهو لا يعلم، أو وضع النقود في جيبه أو في مخبئه وهو لا يدري؛ كان في ذلك إخلاص قوي من المتصدق.

أما الهبة والهدية، فقد يراد بها الأجر الأخروي وقد يراد بها المودة في الدنيا، وحصول الأخوة والمحبة بين المهدي والمهدى له، وفي بعض الأحاديث: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) يعني: تذهب الضغائن التي في القلب، فإنه إذا أهدى لك إنسان هدية، حتى لو كانت شيئاً يسيراً كفاكهة ولحم وطعام، أو أهداك كسوة فاخرة لها قيمتها، فإن قلبك يوده ويميل إليه، وتحصل بينك وبينه ألفة وصداقة، والشرع جاء بتحصيل الألفة بين المسلمين، وتثبيت المحبة والمودة، وإبعاد الضغائن والشحناء عن القلوب.

وقد يقصد بالهدية طلب المكافأة، فإنه إذا عرفت أنه أهدى إليك وأنت أكثر منه مالاً وأغنى منه، وهو من المتوسطين أو من الفقراء، عرفت أنه ما أهدى إليك إلا لتثيبه على الهدية، فلكل هدية ثواب، فقد يريد أكثر من قيمتها، فإذا كافأته عليها وأعطيته أكثر من ثمنها؛ كان ذلك من أسباب القبول، ودخل ذلك أيضاً في أسباب المحبة وثبوت المودة، بين المهدي والمهدى له.

جواز الرجوع في هبة الثواب ما لم يثب

فهذا مما يتعلق بالهدية، فنقول: إن الهدية، وكذلك العطية والنحلة والهبة والصدقة وما أشبهها؛ كلها تمليك، والغالب أنها تمليك بدون عوض مسمى، فما دام أنها بدون عوض مسمى فإن الذي يرجع فيها؛ نفسه دنيئة ضعيفة، فلذلك شبه بالكلب يرجع في قيئه، يطلب هديته أو هبته أو صدقته حتى يعود فيها، فهو كالذي يعود في قيئه.

وقد استثنى بعض الصحابة هبة الثواب، حيث قالوا: إن الهبة تنقسم إلى قسمين:

- هبة تبرر.

- وهبة ثواب.

فهبة التبرر: هي التي يقصد بها ثبوت المودة، فهي هبة بين اثنين يقصد بها ثبوت المحبة والمودة بين المهدي والمهدى له، وزوال الإحن والبغضاء ونحوها.

أما هبة الثواب فهي التي يكون قصده أن يعطى أكثر منها، فإذا أهدى الفقير للغني، فالغالب أنه يريد أن يعطيه الغني ثمنها مضاعفاً؛ لأنه يعرف أنه ليس أهلاً للصدقة، بل هو الذي يتصدق على غيره، ويعرف أن هذا الفقير ليس ممن يتصدق على هذا الغني، فهو ما أهدى له إلا لأجل أن يثيبه، فهذه هي هبة الثواب.

ذكروا أن عمر رضي الله عنه أباح رجوع المهدي هبة ثوابٍ إذا لم يثب عليها، فقال: (الرجل أحق بهبته ما لم يثب عليها)؛ فكأن هذا يعتبر بيعاً، أي: الهبة التي هي هبة ثواب بمنزلة المبايعة بين اثنين، فالذي يبيع الشيء ولا يحصل له ثمنه يطالب باسترجاعه، فإذا باعك إنسان جملاً ولكن لم تدفع له قيمته، فإنه يطالبك بقيمته أو بجمله، فكذلك إذا أهدى لك -مثلاً- جملاً أو فرساً أو شاةً أو بقرةً، أو أهدى لك سيارةً، أو أهدى لك كيساً أو ثوباً، وعرفت من قصده أنه يطلب أضعاف ثمنها أو يطلب مثل الثمن فقط، ولكنك لم تعطه؛ فإن له أن يطالب باسترجاع ما أهداه ولا يدخل ذلك في حديث العائد في قيئه؛ لأن هذا مقصده معروف.

ومع ذلك فإن الأولى ألا يكون هذا القصد موجوداً، والأولى أيضاً ألا يحوجه إلا أن يذكره أو يطالبه ويقول: أهديت لك فلم تعطني، لماذا لم تعطني؟ أعطني ثواباً أو رد عليّ هديتي، فيندب أن لا تكون هذه هي المقاصد.

وهذا أخف من المن والأذى الذي ذمه الله سبحانه في الآية التي أشرنا إليها، وأخبر بأنه يبطل الأجر في قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، أي: لا تبطلوا أجرها، وفي قوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، والقول المعروف هو: الرد الجميل، إذا جاءك إنسان يستعطيك أو يسألك وهو محتاج، ولم يكن عندك شيءٌ تعطيه، أو لست ممن يتصدق؛ فرددته رداً جميلاً واعتذرت إليه عذراً مسموعاً، وأجملت له بالكلام وقلت له: سوف يأتيك رزق من الله فاصبر وتحمل، فإن الله هو الذي يعطي، ولا تدنس نفسك ولا تدسها وتذلها ولا تخضع للناس، ولا تتواضع لهم، بل اجعل ذلك لله سبحانه وتعالى، وعلق قلبك به، فإن الله تعالى يعزك ويرفع مقامك ويرزقك، ولا يحوجك إلى أحد من الناس .. إذا علقت قلبه بالله ونصحته بذلك، رجي بذلك أن يكون من الذين يترفعون عن التدني لغيرهم.

وحكي أن بعضهم كانوا من الذين بهم حاجة شديدة، ولكنه عز نفسه ونظم أبياتاً يتعلق فيها قلبه بربه، فرزقه الله ووسع عليه؛ قال في أبياته:

يا من له الفضل محض في بريته وهو المؤمل في الضرا وفي الباس

عودتني عادة أنت الكفيل بها فلا تكلني إلى خلقٍ من النـاس

ولا تذل لهم من باب عزته وجهي المصون ولا تخضع لهم رأسي

وابعث على يد من ترضاه من بشرٍ رزقي وصني عمن قلبه قاسي

وذلك دليل على ارتفاع الهمة وعلى التعلق بالله وعدم الدناءة إلى المخلوقين، وإذا كان ذلك كذلك فإن الله تعالى يرزق العبد من حيث لا يحتسب، وهو خير له من أن يتصدق عليه إنسان ثم يمن عليه، ويذكره بصدقته أو يؤذيه بسببها، أو ينتقده فيها، أو ما أشبه ذلك.

فهذا حديث عن عمر ، ذكر فيه أنه كان عنده فرس فأراد أن يتصدق به على رجل، وقال لذلك الرجل: هذا لك تغزو عليه، وتركبه، وتنتفع به، فأعطاه إياه كصدقة وقصده من ذلك أن ينتفع به، وبالأخص في الغزو، وفي السرايا، وفي الخروج في سبيل الله وما أشبه ذلك، ولكن ذلك الرجل الذي أخذ ذلك الفرس لم يكن يعرف قدره فأضاعه وأهمله، ولم يعرف قيمته، ولم يكن من أهل هذا الصنف.

فعند ذلك علم عمر أنه سيبيعه، وأنه يبيعه رخيصاً، فأراد أن يشتريه، لكونه يعلم أهلية ذلك الفرس، ويعلم كفاءته وقوته وغلاءه وصلاحيته، فلما أراد أن يشتريه وهو يباع بثمن رخيص لم يقدم على ذلك حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يخافون أن يقعوا في شيء لا يجوز في الشرع، فتوقف حتى استفصل من النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجوز لي شراؤه وأنا الذي تصدقت به؟

فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد من النبي صلى الله عليه وسلم إنكاراً شديداً لاقتنائه ولتملكه ولو بطريق الشراء، وأخبره بأنه لا يجوز ولا يحل له أن يشتريه: (ولو أعطاكه بدرهم فلا تشتره)، فإن هذا يشبه الرجوع في الهبة؛ لأنك وهبته له، والهبة صدقة وتبرع فلا ترجع في هبتك، ولا تعد فيها، فإنك إذا رجعت فيما وهبته وأخرجته من ملكك لوجه الله تعالى، أشبهت الذي يرجع في قيئه.

وضرب مثلاً سيئاً وهو الكلب، والكلب معروف أنه من شر الحيوانات وأقذرها، فهو موصوف بهذا الوصف القذر؛ وهو أنه يقيء ثم يرجع في قيئه، ومثله أيضاً السباع أو كثير منها، فهذا مثل سيئ، بحيث إنه إذا أكل وامتلأ بطنه واشتد امتلاؤه، وخاف مثلاً أن لا يستطيع العدو، أو لا يستطيع البروك، أو الدخول في جحر أو نحوه، فإنه يخرج من بطنه كثيراً مما أكل حتى يخف عنه، وهو القيء عن طريق الفم، فإذا جاع بعد ذلك رجع إلى ذلك القيء الذي كان قد أخرجه من بطنه مع تغيره ومع نتنه فأكله، هذا مثله سيء شبّه به النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطية ثم يرجع في عطيته، أو يهدي هدية ثم يرجع فيها، أو يهب هبة ثم يرجع فيها، أو يتصدق بصدقة ثم يرجع فيها.

والرجوع فيها معناه: إما أن يطلبها ويقول: رد لي هديتي، رد عليّ صدقتي أو هبتي، رد عليّ ما أعطيتك، أنا أعطيتك مثلاً هذا الثوب أو هذا الكيس فرده عليّ، فإنك لا تستحقه ولست أهلاً ولا كفؤاً له، يطلبه حتى يأخذه منه، كذلك إذا طلبه بشراء فإن ذلك شبيه بالرجوع.

ولأجل ذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يشتري ذلك الفرس ولو كان رخيصاً؛ وذلك لأنه إذا جاء ليشتريه، فإن صاحبه قد يستحيي منه ويتغاضى عنه ويبيعه بشيء من الرخص، فيذهب على صاحبه بعض من الثمن؛ فمثلاً: إذا كان الفرس أو البعير الذي أهديته لزيد يساوي ألفاً، فإنه إذا رآك تستامه احتشم واستحيا منك وباعه بنصف الألف أو بثلث الألف؛ احتشاماً واستحياءً وقال: هذا مالكه، وهذا هو الذي أنعم عليّ وأهداه لي وتفضل به عليّ، فما دام أنه يسومه فإني أبيعه ولا أغالي فيه!!

كذلك إذا طلبته منه، وقلت مثلاً: إني قد أهديتك هذا الإناء مثلاً، أو هذا الثوب، أو هذا القدح، أو هذه الآلة ونحوها، فأريد أن تردها عليّ فإني بحاجةٍ إليها، لا شك أنه بذلك يحتشم ويستحيي، ويردها عليك على استحياء مع أنه قد يكون بحاجة إليها؛ هذا كله فيما إذا كان ذلك هبةً أو هديةً أو نحو ذلك.

ويدخل في ذلك أيضاً المنّ بها وتذكيره إياها، فإن في ذلك شيئاً من التحقير لصاحبها وتكبير النعمة عليه، بحيث إنه يتمنى أنه ما قبل منك هذه الهدية أو هذه الصدقة؛ ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن المن بها، وأخبر بأنه يبطل ثوابها، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262]، فالمنّ يدخل فيه أن يذكره، فكلما لقيك أخذ يذكرك: أتتذكر أني أهديتك ثوباً؟ أما تتذكر أني أهديتك لحماً؟ أما تتذكر أني أهديتك قدحاً أو إناءً؟ أما تتذكر أني أهديتك مالاً، أو فراشاً أو ما أشبه ذلك، فلا يزال يذكرك.

وربما أيضاً يمنّ عليك فيقول: أنا الذي أركبتك وأنت منقطع .. أنا الذي أطعمتك وأنت جائع .. أنا الذي كسوتك وأنت عار .. أنا الذي أنقذتك وأنت هالك! فلا يزال يمنّ عليك إلى أن تتمنى أنك ما قبلت منه تلك الصدقة ونحوها، ولا شك أن هذا مما يحبط الأجر ويبطل الصدقة؛ فلأجل ذلك نهى الله تعالى عن المنّ وعن الأذى.